حسم الشعب السوداني الانتخابات لصالح المؤتمر الوطني، بصورة لم يكن يتوقعها حتى أكثر المتفائلين. وعلى الرغم من علمي التام بالخطة التي وضعها المؤتمر الوطني للانتخابات قبل ثلاثة سنوات وكان شعار الخطة (اكتساح الانتخابات) ولكن أجزم بأنه لم يدر في مخيلة أيٍ من واضعي تلك الخطة أن يكون الاكتساح بهذه الصورة التي رسمها الشعب السوداني. وفي تقديري أن هذه النتيجة التي حصل عليها المؤتمر الوطني قد ألقت عليه مسئوليات جسام تجاه الشعب السوداني وتجاه ناخبيه بصورة خاصة وتجاه هذا الوطن بصورة أخص. كما أتاحت هذه النتيجة للمؤتمر الوطني فرص نادرة يصعب وجودها وما كان المؤتمر الوطني يحلم بها منذ نشأة الحركة الإسلامية في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، مروراً بكل المراحل التي مرت بها الحركة الإسلامية من جبهة الميثاق إلى الجبهة الإسلامية القومية وصولاً إلى المؤتمر الوطني. لم ينته انفعال الشعب السوداني والقبول بالمؤتمر الوطني بإيداع بطاقة الاقتراع في صندوق الاقتراع بل استمر، وربما نقول أنها قناعة، يؤيد ذلك الاستطلاعات التي أعقبت إعلان النتيجة. حيث كانت نتيجة إحدى الاستطلاعات حول مدى القبول بنتيجة الانتخابات فكانت 94% تقبل بنتيجة الانتخابات مقابل 6% ترفض النتيجة، ولا أريد أن أدخل في تفاصيل الأسباب التي أدت إلى تلك النتيجة فذلك ربما يكون مقال آخر. ولكن هذا القبول لابد أن يستخدمه المؤتمر الوطني ويحوله إلى صورة إيجابية وذلك بتعبئة هذه الأمة نحو أهداف وغايات في مدى زمني محدد للوصول بها إلى مصاف الدول العظمى. لذلك في تقديري من أوجب الواجبات في خطة المؤتمر الوطني استصحاب هذه القوى المواطنية (الشعبية) وتفعيلها لبلوغ غايات كبار. ولا تنهض الأمم إلا بجهود الغالبية العظمى من بنيها. فالآن الغالبية العظمى موجودة وتبقى مسئولية المؤتمر الوطني وقادته في استصحاب هذه الغالبية ولنا في ماليزيا قدوة إذ في عشرين عاماً أصبحت من أقوى النمور الآسيوية. وفي اليابان التي دُمرت في الحرب العالمية الثانية في العام 1945م فالآن هي من أقوى الدول اقتصاداً في العالم. والصين التي نالت استقلالها في العام 1949م والآن هي بلا شك هي أحد الأقطاب الدولية. المسألة الثانية والمهمة ربما ترتبط بصورة أو أخرى باستنهاض الأمة. أن الحركة الإسلامية السودانية ربما تكون قد نجحت من بين الحركات الإسلامية في العالم العربي التي وصلت إلى السلطة. ربما تكون تجربتها التي يتم تناولها في الفكر السياسي أنها واحدة من حركات الإسلام السياسي التي تستحق الدراسة بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها. كالتجربة التركية والإيرانية وحركات الأخوان المسلمين في مصر وحركة الإنقاذ في الجزائر والجماعة الإسلامية في باكستان. مرت الحركة الإسلامية في مراحلها المختلفة متأثرة بتلك التجارب وربما تميزت بالخاصية السودانية، فمرت بمرحلة التربية، ثم تطورها إلى حركة واسعة اهتمت بالعمل الجماهيري والشعبي حتى استولت على السلطة في 1989م. ولكن إذا كانت حركات الإسلام السياسي أو في الحركة الإسلامية في داخل السودان لم يتوافر لها رصيد فكري يعالج كافة مناحي الحياة ابتداءاً من الحياة الاجتماعية وعلاقات المجتمع وعلاقة المتجمع بالدولة حتى التمكين وإدارة الدولة. لم يستصحب ذلك جهد فكري واسع تفصيلي. وعلى الرغم من شعور الحركة الإسلامية بالحاجة إلى ذلك لكن ذلك اختصر في مستشارية التأصيل والتي لم يتعد جهدها النصح للرئاسة والجهاز التنفيذي أو مجالس الفتاوى الشرعية في البنوك. الآن ووفق هذه النتيجة لابد أن يواكبها اجتهاد فكري عصري وجرئ يحدد الرؤى في كافة مناحي الحياة وعلاقات الدولة الخارجية والداخلية. هذه النتيجة انحاز فيها الشعب السوداني للمؤتمر الوطني بصورة واسعة. والمؤتمر الوطني وفق هذه النتيجة أصبح في موقف قوة في التفاوض مع كافة الأحزاب. حسب العرف الديمقراطي الآن يحق للمؤتمر الوطني تشكيل حكومته منفرداً وواجب على الذي قبل ونادى بالتحول الديمقراطي أن يحترم خيار الشعب السوداني. ولكن المؤتمر الوطني يدرك قبل غيره أنه لا يمكن أن يستقر الحكم في هذا البلد لحزبٍ واحد. لذلك اجتهد المؤتمر الوطني وحمل القوى السياسية المختلفة على إدخال التمثيل النسبي مع المباشر وذلك لضمان تمثيل كافة القوى التي أفرزها الصراع طوال العقدين الأخيرين. ولكن نتيجة الانتخابات وانحياز الشعب السوداني أفسد الحكمة من إدخال التمثيل النسبي كأحد طرق الانتخابات. وبنفس الحكمة والعبقرية التي أوجد بها المؤتمر الوطني صيغة التمثيل النسبي والتي حال الخيار الشعبي دون تحقيقها، فواجب عليه ومن أجل استقرار الحكم إيجاد صيغة لتمثيل القوى السياسية المختلفة التي شاركت في الانتخابات والتي لم تشارك، التي حملت السلاح والتي لم تحمل، وبجانب كل هؤلاء الحركة الشعبية كشريك مهم. ولكن هذه العبقرية لابد أن تستصحب سوالب مشاركة الحركة الشعبية وفصيل مناوي. حيث أن المشاركة في الحكومة والعمل مع المعارضة يهزم فكرة توسيع (الماعون) والتي هدفها الأساسي استقرار الوطن. ومما يدعم فكرة توسيع (ماعون) السلطة أن المؤتمر الوطني يدخلها وهو في موقع قوة وتأييد شعبي كاسح، بخلاف المشاركات السابقة، التي أتت عقب توقيع اتفاقات كل طرف يدعي بأنه هو الأقوى وأنه هو الذي هزم الآخر. والمسألة الرابعة والمهمة في تقديري أن العام الأول للحكومة (حكومة المؤتمر الوطني) هو العام الذي في نهايته يتم إجراء استفتاء حق تقرير المصير. ويُفترض أن يكون برنامج الحكومة فيما تبقى من العام، العمل على جعل الوحدة جاذبة. معلوم أن هناك قوى مؤثرة في الداخل والخارج هدفها فصل الجنوب. هذه القوى متمثلة في اليمين المسيحي المتطرف والمحافظون الجدد في الولاياتالمتحدة واللوبي اليهودي والصهيوني وإسرائيل يُضاف إليهم مجموعة من منظمات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث التي تدور في فلكهم، هذا على المستوى الخارجي. أما على المستوى الداخلي فهناك فصيل معتبر من الحركة الشعبية يسعى للانفصال إضافة إلى منبر السلام العادل. وفي المقابل تلك القوى هناك على المستوى الدولي الرأي الغالب والموجه للسياسة الدولية مع وحدة السودان وعلى المستوى الداخلي معظم القوى السياسية مع الوحدة، الرأي الراجح عندي هو أن نتيجة الاستفتاء سوف تكون لصالح الوحدة، ولكن هذا يحتاج إلى بذل جهد كبير في الداخل مع الفصيل الانفصالي من الحركة الشعبية بإدارة حوار معهم وبذل كافة الطرق (المعقولة وغير المعقولة الممكنة وغير الممكنة) والعمل معهم لتحقيق المصالح التي يسعون إليها بالانفصال من خلال السودان الموحد مع إعطائهم كافة الضمانات المطلوبة وربما الاستحقاقات والتنازلات. هناك مجموعة داخل الحركة الشعبية هدفها الأساسي هو عرقلة وإفشال أي مجهود يقوم به المؤتمر الوطني حتى لو كانت فيه مصلحتهم ومصلحة الوطن فلا استبعد من العداء المستحكم لهذه المجموعة أن تعمل داعمة للانفصال، حتى لو كان ذلك يتعارض مع مبادئها، فطالما ذلك العمل يجعلهم يعملون ضد المؤتمر الوطني وإسقاطه فلا يترددون من القيام به. مطلوب من المؤتمر الوطني التعامل مع هذه المجموعة وتجاوز كل المرارات التي نتجت من أفعال هذه المجموعة. ولابد أن يكون المؤتمر الوطني كبيراً. وفي سبيل القيم العليا والمبادئ يمكن التنازل عن كثير من حظوظ النفس وضعفها. المشكلة الأخرى وربما ترتبط مع إجراء تقرير المصير حل مشكلة دارفور. وفي تقديري أن هذه الانتخابات قد أفرزت معطيات جديدة، كان يبحث عنها المؤتمر الوطني، وهي وجود مجموعة من النواب تم تفويضهم بصورة ديمقراطية من أهل دارفور. فلذلك لابد من استيعاب هذه المجموعة في الحل. ولا يتم استبعاد المجموعات التي أُدخلت في الحوار سابقاً. كل الظروف الآن مهيأة لحل هذه المشكلة، أهمها الرغبة الدولية، والتي انعكس أثرها إلى حد ما على إيقاف الدعم الخارجي بكافة أشكاله للمجموعات المتمردة. تطبيع العلاقات مع تشاد وتكوين القوات المشتركة السودانية التشادية، حرم هذه الحركات من الملاذ الآمن الذي كانت تلجأ إليه، بالإضافة إلى أن تشاد كانت تمثل معبر مهم لوصول الدعم اللوجستي والعسكري. كل هذا كان له تأثير مباشر على الاستعداد العسكري للحركات التي مازالت تحمل السلاح وخاصةً حركة العدل والمساواة والتي تلقت ضربات موجعة أفقدتها الكثير من قواها. إضافة إلى ذلك توحد عدد كبير من الحركات تحت قيادة التجاني السيسي واستعدادها للحوار. هذا الوضع يُفقد حركة العدل والمساواة كثيراً من نقاط القوة التي كانت تعتمد عليها. وسوف يحدث الكثير من الممانعة من حركة العدل والمساواة، ولكن كل ذلك سيكون لحفظ ماء الوجه، فعلى الحكومة أن تتميز بسعة الصدر والأفق، وهي بلا شك حركة متمردة، ولكن (المتمرد في ذمة الحكومة). هذه المسائل التي ذكرتها هي التي تمثل الهم الوطني العام. ولكن ما قام به الشعب من تفويض للمؤتمر الوطني أفرز استحقاقات من المؤتمر الوطني تجاه الشعب السوداني. وبالتأكيد فإن الحكومة مسئولة عن أنفاذ تلك الاستحقاقات، سواءاً كانت حكومة (موسعة) أو(محدودة) فلابد بصورة عامة من إنفاذ برنامج (استكمال النهضة) الذي أصبح هو التزام انتخابي من المؤتمر الوطني تجاه ناخبيه. فلابد من المواصلة في كافة مشاريع التنمية التي انتظمت كافة ولايات السودان، وعدم التركيز على ولايات معينة. أما على المستوى الخاص بالنسبة للمواطنين فهناك مطلوبات المعيشة ومطلوبات الصحة ومطلوبات التعليم. هذه المطلوبات الثلاثة للأسف الشديد يتم التعامل معها في دول العالم الثالث وفق السائد من الحضارات. فتعاملنا معها في الفترة الأخيرة وفق النظرية الاقتصادية السائدة في العالم وهي الرأسمالية. وتمت الاستجابة لمعظم مطلوبات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فتم تحرير الاقتصاد تماماً وتمت الخصخصة، وتم رفع الدعم عن الخدمات الأساسية سواءاً كانت في التعليم أو الصحة أو الدعم عن السلع في اتجاه إخراج الدولة تماماً من دائرة الاقتصاد. وقبلها كان التوجه في معظم دول العالم الثالث نحو المبادئ الاشتراكية التي تتبنى مسئولية الدولة في كل شئ. في تقديري أن الفكر الاشتراكي والذي فيه مسئولية الدولة تجاه المواطنين هو الأقرب إلى فكرنا الإسلامي، والذي فيه تكون مسئولية الراعي إمام الله أن يسأله عن البغلة التي عثرت في (العراق) ولم يعبد لها الطريق. وهذه مسألة في تقديري تحتاج إلى إعمال الفكر والاجتهاد والخروج بنظرية توائم بين مسئولية الدولة عن مواطنيها وعن نجاح نظرية تحرير الاقتصاد. ولكن إلى أن يتم ذلك يبقى المؤتمر الوطني مسئولاً عن توفير الرعاية الصحية والتعليم للمواطنين وإيجاد فرص عمل للجيوش الجرارة من خريجي ثورة التعليم سواءاً كان بالتوظيف الحكومي، أو بوضع السياسات التي تخلق فرص عمل كبيرة كما يحدث في الدول الرأسمالية. تبقى الزراعة من أكبر التحديات التي تواجه المؤتمر الوطني كحزب، والخروج بها من الدائرة التقليدية التي أخرجتها من دائرة المنافسة ومن دائرة المساهمة في إيرادات الدولة. الزراعة بشقيها الحيواني والنباتي والتي يمتهنها معظم الذين صوتوا للمؤتمر الوطني. المطلوب فيها ثورة قوية تكون البديل الأساسي للبترول الناضب، هذه الثورة تشمل كافة مناحي الزراعة سواءاً كان في الخروج بها من أُطر الزراعة التقليدية وزيادة الإنتاجية، وخلق مواعين للتخزين وخلق أو فتح أسواق خارجية. فالزراعة هي القوى الكامنة لمشروع الدولة العظمى السودانية الأمل. هذه في تقديري تمثل أهم الاستحقاقات التي أفرزتها انتخابات 2010م فلنعيد القراءة تلو القراءة ونُعيد التحليل بعد التحليل لأن الذي حدث غير عادي، واستحقاقاته غير عادية ولتكن نتائج ما قام به الشعب السوداني بداية لنهضة أمة تسعى لأن تكون عظيمة.