فحص جهاز "الموبايل" ملياً ثم أردف: "هذا بإمكانه أن يفعل الاثنين، ولكن لا بأس احمله معك ولا تستخدمه إلا فى المكالمات فقط". مجموعة من الشروط تلاها الشاب الثلاثينى الملمح على مسامعى قبل أن يخبرنى بموافقة السلطان على دخولى للمعسكر ولقائه: فى مقدمتها ألا أحمل آلة تصوير أو جهاز تسجيل وألا أتحدث مع أي من المواطنين.. يحتاج الدخول إلى هنا مجموعة من الإجراءات البيروقراطية التى تنافس أعتى المصالح الحكومية وأكثرها عراقة.. أخيراً مجموعة من الخيام الواسعة تتوسط المعسكر وصلناه عبر طريق ملتوٍ، لم تقوى العربة على احتمال السير فيه. هجرناها بعد أن نادى الفتى الأبنوسى مجموعة من الشباب كانوا يتحلقون حول بائعة شاى لا تقل جمالاً عن ناعومي كامبل تلك التى شغلت العالم، لا شيء إلا لأنها تمكنت من الوصول لأجهزة الإعلام التى تقلب الواو ألفاً.. بلهجة آمرة خاطبهم: "ابقوا بالقرب من هذه العربة وحافظوا عليها إلى أن نعود"، ورمقنى بنظرة تقول: "نحن هنا السلطة ولا تعلوا كلمة على كلمتنا" ثم قال: "يجب أن نضمن سلامتك وممتلكاتك". بعض الغناء الأفريقى وكثير من القوم يعلون من أجهزة التسجيل المنتشرة فى محال مهترئة لبيع كل شيء؛ اللحو، هاجر كباشى هى الأكثر رواجاً، محمد الأمين، وردى وغيرهم.. عبرنا هذا المكان الذى يبدو أنه سوق للمعسكر. ساد الصمت إلا من صدى خطاوينا وأصوات مجموعة من الأطفال يرتسم عليهم البؤس، يتقاذفون بكرة لا تقل عنها أجسادهم اتساخاً. الغالب أكواخ من القش والطين وقليل من الخيام التى انتهت صلاحيتها للإيواء فباتت لا حراً تحجب ولا مطراً تقى. بعض من الذين يرتدون زياً عسكرياً ويحملون أسلحة يتجولون على غير هدى، معسكر مانديلا للنازحين يبعد عن وسط الخرطوم بضعة كليومترات من حيث المساحة الجغرافية وآلاف السنين الضوئية من النواحى الأخر. ،،، ساد الصمت إلا من صدى خطاوينا وأصوات مجموعة من الأطفال يرتسم عليهم البؤس..نحن الآن في معسكر مانديلا للنازحين ،،، عاجلت مرافقى إلى مقر السلطان بسؤال: على ماذا يعتمد السكان هنا فى معاشهم؟ رد فى زهد عن الاسترسال: "بعض الأعمال الهامشية وإعانات من المنظمات الدولية". رائحة الخمور كانت تلح بأن أدفع له بما يجول فى خاطرى: "طيب الخمور بتدر دخل ما بطال على صانعيها أليس كذلك"؟، رد بذات الزهد الذى بدأ به: "لا الخمور هنا للاستخدام الشخصى لا تباع إلا فى ما ندر". احترمت رغبته المائلة إلى عدم الحديث وصمت فصمت هو وواصلنا السير، بعض العيون ترمقنا فى اندهاش والأسئلة تكاد تطفر منها عن سبب مجيئي إلى هنا؟ وآخرون لولا أنى فى حماية السلطان لأخبرونى على طريقتهم بأنى فى المكان الخطأ. جفاء بائن فى الاستقبال أو قل القبول لأن الاستقبال لأمثالى هنا شبه مستحيل. عدت بذاكرتى إلى سنين خلت كنت طفت فى مهمة صحفية أجزاء واسعة من جنوب السودان، التقيت العديد من القبائل، دخلت إلى الأحياء الشعبية وتلك الراقية فى المدن والأرياف وتوقفت بى الذاكرة فى مريال باى، تلك الضاحية الجميلة التى تبعد عن واو ليس بكثير. كيف أن النزوح والإحساس بالغبن يغيران البشر، هناك الناس مسالمون وبشوشون يحترمون الضيف ويقفون على راحته، قطع على تطوافى بمدن الجنوب صوت سياره رباعية الدفع تقترب منا وعلينا أن نفسح لها المسار، بها مجموعة من الخواجات، امرأة ورجل وسائق، تتخطانا، مشهد يبدو أنه مؤلوف لهولاء، إذ لم يثر الانتباه الذى قوبلت به. أتاوات النفايات أكوام من الوساخة تنتشر فى كل شبر، رائحة شيء متعفن تزكم الأنوف، شركات إصحاح البيئة لا تعرف إلى هذا المكان طريقاً و(فتيات) أتاوات النفايات لم يزرن هذا الموقع فجراً ليوقظن أهله من ثباتهم. انحرفنا إلى اتجاه لا أدرى إن كان غرباً أو شمالاً أم جنوباً، فقدت الاتجاهات فكل شيء هنا متشابه. نحن الآن أمام منازل تبدو أكثر ترتيباً وناس أكثر ترحاباً، ثمة مناسبة هنا مجموعات من البشر تتمايل على نغم أفريقى، العرق يتساقط من الجباه، الجميع فى حالة نشوة لا مثيل لها، وسط غابات الأسمنت فى وسط الخرطوم، زغاريد النساء وصفقة الرجال. الحر يخنقنى وهم به لا يشعرون، أمواج منهم تتدافع ناحية الخيمة المنصوبة بعناية معدومة، جزء منها مائل والآخر مكوم على الأرض يستجدى وتداً ليرفعه، وعند منتهى الشارع الأكثر اتساعاً عن سابقيه ميدان تتوسطه مجموعة من الخيام. يبدو أننا الآن فى وسط معسكر مانديلا مقر السلاطين الذين يديرونه، طلب منى الانتظار قليلاً عند مدخل الخيمة الأولى، مجموعة من كراسى البلاستيك منتشرة بغير نظام، بعضها أصابه داء التقادم والآخر لا يبدو أن يد العناية امتدت إليه بالنظافة منذ أن وضع فى هذا المكان. ،،، (سهافة ده متعب خالس اسبر سويه)، وبعد صبر لم يطل سألنى بود بدأ يتخلل عباراته: "رئيس بتاع جمهورية بيقعد من غير ما يرجع لمستسارين بتاعنوا"؟ ،،، اخترت أحدهما دون تدقيق وهويت بجسدى عليه، لم يدعنى أحد لفعل ذلك، بعض النسوة يجلسن على الأرض، طفل صغير اتخذ من الصراخ وسيلة لمغالبة مجموعة من الذباب تحاول غزو المنطقة المحيطة بفمه ووالدته لا تهتم.. الضجر بدأ يسيطر عليّ. اختفى مرافقى لفترة وعاد ليصطحبنى إلى خيمة أخرى كانت أكثر هدوءاً وترتيباً. أنا أمام السلطان (ماريال مابوا) أو (رجل مانديلا القوى)، كما يحب أن يلقب، يرتدى رغم ارتفاع درجات الحرارة بدلة اشتراكية ذات لون أزق غامق يحيط به عدد من الأفراد بادلونى التحية ببرود واضح، سألنى أحدهم فى عربية طليقة لدرجة الادهاش عن سبب الزيارة. نقل ما ذكرته إليه للسلطان الذى لم يتفهم أننى أنتمى إلى صحيفة محلية تصدر فى الخرطوم إلا بعد جهد كبير وعندها اختفى القليل من الحماس الذى لمع فى عينيه، يبدو أنه كان يأمل فى أن أكون منتمياً لجهة أجنبية أو اعتاد على لقاء تلك الجهات فقط،انصرف بعدها إلى مهام هى له أهم من صحفى لا ينتمى لمؤسسات العالم الأول. باءت كل محاولاتى لإقناعه بالجلوس معى أو حتى التقاط بعض الصور له وللمعسكر بالفشل.. حدثت نفسى بمحاولة أخيرة بعد أن قررت الاقتناع بالرحيل دون الحصول على الذى دفعنى لاقتحام هذا المكان الذى لو عرفته المفوضية السامية لحقوق الإنسان لما احتاجت استجداء الحكومة لزيارة يتيمة لدارفور. خاطبته مباشرة بعد أن اكتشفت أنه يجيد العربية بلكنة (جوباوية) محببة: (يا سلطان) أنا أنتظر ردك، التفت ليقول (سهافة ده متعب خالس اسبر سويه)، وبعد صبر لم يطل سألنى بود بدأ يتخلل عباراته: "رئيس بتاع جمهورية بيقعد من غير ما يرجع لمستسارين بتاعنوا"؟ أجبته بما يريده، واصل حديثه شارحاً طبيعة المعسكر الذى يقيم فيه ما يفوق العشرة آلاف نازح بشكل دائم، ومثلهم مؤقتون موزعين على معظم قبائل الجنوب ولكل قبيلة شيخ يعد مستشاراً للسلطان، لا يتخذ قراراً فى شأن يخص المعسكر من دون أن يجلس لجميع هؤلاء الشيوخ، لذا فهو يحتاج للترتيب، وعلينا أن نعاوده مرة أخرى. ظفرت بهذا الوعد واعتبرته انتصاراً، ودعته وخرجت. انفصال نفسى..وحدة وانفصال انتحى بى المترجم الذى انتمى باكراً للحركة الشعبية، دون أن يعلن ذلك، إلا بعد توقيع اتفاق السلام، جانباً وانخرطنا فى حوار غير مرتب أرسل به (أكوي) مجموعة من الإشارات التى تعطى الإجابة على تساؤلات الوحدة والانفصال من المسؤول؟ بث فى مقدمته عتاباً لشخصية الشمالى بشكل عام بقوله: "ينظرون إلينا ككائن أتى من كوكب آخر، لم احتك بهم لا لأننى غير راغب ولكن لاستحالة ذلك"، ويمضى إلى القول أنا فى الخرطوم منذ عشرين عاماً، لم أتعامل وأغلب الجنوبيين مثلى مع الشماليين إلا فى شخصيتين فقط؛ (الطبيب) إذا مرضت، و(كمسارى) الحافله عندما استقل المواصلات العامة، الناس فى الشمال لا يرغبون فينا ولا توجد اتصالات أو صلات اجتماعية "نموت ما بعزونا، يموتون لا ينتظرون عزاءنا". ،،، نعم لا بد من الإقرار بالخطأ والاعتذار عنه علناً دون خجل أو مواربة، هذا ما يطلبه أكوي ليس ثمناً للوحدة وإنما عربون لها ،،، وفى لهجة خليط ما بين الأسى وشيء من الغبن يوجه حديثه لى: "اذهب إلى أى جامعة من الجامعات أو مدرسة أساس حتى، ستجد الطلاب الجنوبيين معزولين لا يتعاملون معهم". حاولت أن أدافع أو أن أجد المبررات للنقاط الموجعة التى دفع بها فى وجهى، وجدت الواقع يهزمنى. ،،، أنا فى الخرطوم منذ عشرين عاماً، لم أتعامل وأغلب الجنوبيين مثلى مع الشماليين إلا فى شخصيتين فقط؛ (الطبيب) إذا مرضت، و(كمسارى) الحافله عندما استقل المواصلات العامة، الناس فى الشمال لا يرغبون فينا ،،، نعم لا بد من الإقرار بالخطأ والاعتذار عنه علناً دون خجل أو مواربة، هذا ما يطلبه أكوي ليس ثمناً للوحدة وإنما عربون لها. سألته كم يبلغ عدد الذين يقيمون فى هذا المعسكر؟ لم تعجبه كلمة معسكر فصححنى: "هذا حي وليس معسكراً. الذين تراهم الآن أمامك يقيمون هنا لعشرات السنين، الإحصاءات مُلكت للمنظمات والحكومة".. قالها فى تهكم واضح، وأردف: "لسنا خرافاً ليحصروا عددنا!"، لماذا همكم دائماً كم يبلغ عدد الجنوبيين فى الشمال؟ هل سألت نفسك كم يبلغ عدد البجا فى الخرطوم أو فى عطبرة؟ لماذا الجنوبيون دائماً ملاحقون بهذا السؤال؟" لم أجد ما أرد به على أسئلته، أنقذنى من حيرتى حديثه عن العودة الطوعية التى ينتظرها، طبقاً لأكوي، الجنوبيون بفارق الصبر "هم لا يرغبون فى بلادكم إن كانت فعلاً هى كذلك، إنهم عائدون، لا تستعجلون، فقط عليكم بقليل من الصبر". سألته ما هو الانطباع الذى يعودون به عن الشمال؟ قال: ماذا قدمتم لهم ليعودوا بانطباع جيد. إنهم عانوا ما عانوا هنا، لذا إحساسهم أظنه غير طيب تجاهكم، أنتم لا ترغبون فيهم اتركوهم فهم لا يرغبون فيكم أيضاً. ويمضى (أكوي) شارحاً المعاناة التى يعيشها أبناء الجنوب قائلاً إن المنظمات الآن كلها تتحدث عن ما يحدثه الجنجويد فى دارفور من ترويع، نحن مروعون داخل الخرطوم، الحكومة ظلت تمارس فينا سياسة فرقهم لتضعفهم، نحن الآن مجموعات من القبائل المتناحرة والمتباغضة لا يجمعنا سوى البؤس وضنك العيش وذلة الشماليين لنا، استخفافهم بنا. أنتم تتحثون فى المنابر العامة عن التعايش والاختلاط والواقع يقول بغير ذلك، اسأل نفسك وزملاءك وأقرباءك؛ كم مرة عاود جاره الجنوبى الذى يسكن فى الخرابة الموازية لمنزله؟ لا أظنه سيجبيك بأنه فعل، وإن فعل فذلك من باب السياحة وحب الاستطلاع ليس إلا، (الكامب) الذى تراه الآن أمامك يعتمد فيه البقاء على القوة، أنت قوى إذاً أنت مهاب ويمكنك العيش بسلام، وإن كنت ضعيفاً فستكون عرضة ل(جنجويد) (الكامب). إنهم كثر عزيزى، يعملون بإرادة الحكومة وعلمها. ويمكن إن سمح لك السلطان بالتجول والحديث مع الناس تجد هنا ما يغنيك عن الكتابة لسنين عدداً، امضى إلى مقر (اليونايتد نيشن) -قالها بإنجليزية متمرسة- لهم أيضاً بحوث فى هذا الصدد، اذهب إلى الحاج يوسف وستجد هناك قصصاً من نوع آخر. المؤتمر الوطنى له ذيول هنا يعملون على تخذيل الناس من الاستجابة لبرنامج العودة، يخبرونهم أن الاستعدادات غير كافية هناك وأن الذى سيحدث أنكم ستذهبون لتجدوا أنفسكم تحت الشجر تبحثون عن الطعام والمأوى والعلاج، ابقوا فى هذه القرى المذلة أفضل لكم من الذهاب إلى الجنوب. بعثرة الذات الحكومية انتهى حوارى مع أكوي إلى اللا شيء ومن ثم نهضت عائداً من حيث أتيت أفكر فى ما قاله ونبوءته بأن (جماعتى) مثلما قال إذا رأونى فى هذا المكان سيعتقلونى وهذا ما حدث بالفعل على بعد خطوات من المعسكر. الشمس تصارع المغيب عربة شرطة تطاردنى، أجبرتنى على الوقوف بطريقة كادت أن تودى بحياتى، قفز منها عدد من النفر أمرونى بالخروج وانكبوا على العربة تفتيشاً لم ينج منه أي ركن فيها، بعثروها ومعها بقايا تعاطف مع الذات الحكومية، وبعد أسئلة تصلح لتكون بروفة جيدة للذى سيحدث عند قبرى فى الأرض ميتاً، اعتذروا بكلمة (يا أستاذ) المكان هنا غير آمن وعليك أن تكون حذراً! بل نفضل أن تعود من حيث أتيت!! ملامح (عدم الذكاء) الذى تبدت لى وهم يحاولون تفتيش آلة التصوير التى كنت أحملها معى، شخصت أمامى هذه المرة، فأنا فعلاً عائد من حيث أتيت.. غادرتهم وقناعة تملؤنى بأننا نحن من صنع الانفصال النفسى الماثل بيننا والجنوبيين، فهل سيصنع المتكدسون فى معسكرات السلام الانفصال الجغرافى؟ سؤال ستجيب عليه صناديق الاستفتاء.