السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية «18 – 20»
نشر في الصيحة يوم 08 - 04 - 2025


د. النور حمد
"لنْ يستطيعَ أحدٌ أنْ يركبَ على ظهرِك، ما لمْ تكُنْ مُنحنياً"
مارتن لوثر كينج
الخنق الإخواني للحياة في السودان
لقد أفقر النظام الإخواني الحياة في السودان؛ إذ أفقر غالبية أهلها ماديًّا وقضى على ما تسمى الطبقة الوسطى، بعد أن خلق طبقةً مترفةً بالغة الثراء، مرفهةً، تعيش في فقاعةٍ خاصةٍ بها في الأحياء الراقية في الخرطوم، وفي بعض المدن الكبرى. هذه الطبقة بالغة الثراء منغمسةٌ في نمط عيش مختلفٍ في فقاعتها المعزولة، ولم تعد تشعر بحياة من حولها من بقية السودانيين. يعيش هؤلاء فقاعتهم الخاصة بهم في الخرطوم، حيث يرتادون مطاعم لا يرتادها غيرهم، ويصلون في مساجدَ فاخرةٍ جعلتها مواقعها في الأحياء الراقية خاصةً بهم، ويركبون سياراتٍ فاخرةً لا يركبها إلا أهل الخليج. ويسافرون بالدرجة الأولى في الطائرات، ويخرجون ويدخلون عبر صالة كبار الزوار متجنبين العبور بالصالة العمومية الكئيبة لأبأس مطار دولي في العالم. ويقيمون حفلات زفاف أبنائهم وبناتهم في صالات لا يطالها غيرهم. أما أولادهم وبناتهم فلهم عوالمهم الخرطومية الخاصة، ومفاهيمهم الخاصة وجامعاتهم الخاصة، بل لهم لغتهم الخاصة، أيضا. وهكذا أصبح السودان طاردًا لبنيه الباحثين عن حياةٍ حديثةٍ طبيعيةٍ، وأصبح أول ملاذٍ سهل للدخول وللإقامة هو القاهرة وغيرها من مدن مصر. وحين تمل هذه الطبقة الحياة في فقاعتها المخملية المعزولة في الخرطوم، وتحس بأنها تريد عيشًا مؤقتًا في إطار حضاريٍّ متكاملٍ الجوانب،يمنحها مزيدًا من الترفيه ومن التميُّزِ الاجتماعي، فإنها تسافر إلى منازلها وشققها الفاخرة في القاهرة، واستنابول، ودبي، وكوالالمبور، وغيرها من عواصم العالم. والآن، بعد أن نشبت هذه الحرب، هرب كثيرٌ من هؤلاء الذين خنقوا الحياة المدينية في السودان حتى أماتوها، إلى القاهرة حيث يعيشون الآن في أفخم الأحياء السكنية مستمتعين بكل مباهج الحياة الحديثة هناك.
إلى جانب الإفقار المادي، أفقر النظام الإخواني الحياة السودانية ثقافيًا. فقد حارب الابداع والمبدعين الحقيقيين وجاء بالكثير من أدعياء الإبداع في كل مناحي الثقافة من آداب وفنون وملأ بهم الفضاء العام حتى أثقله بالغثاثات والفجاجة والرِّكة. قضى الإنقاذيون تمامًا على دور السينما، وخنقوا النشاط المسرحي. وقضى الفقر وسوء الطرق والظلام وصعوبة التنقل على حيوية الأمسيات التي تتسم بها كل مدينةٍ حديثة. ماتت الحيوية المسائية المتمثلة في نشاط الأسواق والمقاهي والمطاعم في وسط المدن، وانسحب إلى الأطراف في شوارع أحياء الطبقة المرفهة. فوسط مدينة الخرطوم، على سبيل المثال، الذي كان بالغ الحيوية في الأمسيات في عقود الستينات والسبعينات والثمانينات، وكان متاحًا للجميع، أصبح يخيم على الصمت والظلام مع مغيب الشمس. لذلك، أتخذت الطبقة الوسطى التي أعادت تشكيل نفسها بسبب الهجرة إلى العمل في الخارج، وما تبقى من الطبقة الوسطى داخل البلاد، من القاهرة مدينةً بديلة. فأقام بعض هؤلاء فيها بصورةٍ ثابتة، وأصبح البعض الآخر يتردد عليها بكثرة لمختلف الأسباب. بل أصبح صيام رمضان في القاهرة، في العقود الأخيرة، حجًّا سنويًا لدى كثيرين. فحرارة الجو في السودان وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر الذي يمتد لساعات طويلة جعل القاهرة قبلةً رمضانية لدى كثيرين. هذا الانهيار العام وانسداد الأفق الذي أحدثه التنظيم الإخواني في السودان، والشعور العام بأن كارثةً وشيكة الحدوث قد أخذت ترفرف فوق الرؤوس، جعل كثيرًا من السودانيين يحتاطون لأنفسهم بشراء شقة في القاهرة. وهذا هو الذي خلق هذا الانفجار الضخم في تملُّك السودانيين للشقق في مصر بالصورة التي ذكرناها إلى جانب ذلك، فإن القاهرة تتسم بحيويةٍ خاصةٍ في رمضان، حيث يصبح الليل هناك معاشًا كما النهار.
القاهرة مدينةٌ حافظت على نبض الحداثة فيها، بل وزادت فيه الكثير في العقود الأخيرة، في حين فقدت الخرطوم وباطِّراد، حداثتها تمامًا التي عُرفت بها في ستينات القرن الماضي، وفي النصف الأول من سبعيناته. لقد حوَّل التنظيم الإخواني الخرطوم إلى مدينة رَثَّةٍ، ميِّتة، كالحةٍ، وغَبِرة، وقد طال ذلك بقية المدن السودانية. وأدى الغلاء المنفلت والإفقار المتزايد للناس إلى أن ينحصر همهم في البحث عن لقمة عيشٍ لا يتحصَّلون عليها إلا بشق الأنفس. الجميع راسفون في قيود الفقر وقلة الحيلة، وغارقون في جو من الكآبة المستدامة والتشبث بحلمٍ بالتغيير لا يتحقق أبدا. باختصارٍ شديد، حوَّل التنظيم الإخواني مدينة الخرطوم، التي هجر كثيرٌ من أهل الريف أريافهم وأتوا للعيش فيها، إلى غابة ملؤها أنيابٌ زرقٌ ومخالبُ حمر. عاصمةٌ مسؤولي محلياتها لصوص وشرطتها مرتشية وكل إجراء حكوميِّ فيها يتم بشق الأنفس ولابد فيه مع ذلك من سلوك الطرق الملتوية.
منذ بضعة عقود أصبح قضاء العطلة في القاهرة مع بقية الأسرة القادمة من السودان من أمٍّ مسنة وأبٍ مسن ومن حالات طبية طارئة لمرضى في نطاق الأسرة هي الخيار الأفضل للمغتربين السودانيين. فمصر أسهمت في إفشال الدولة السودانية وقد ساعدتها النخب السودانية، خاصة العسكرية، في هذا الإفشال. والمحصلة النهائية هي تدفق مدخرات السودانيين من العملات الصعبة داخل مصر. أيضًا، جعلت القبضة الأمنية الشديدة ومطاردة المعارضين، في فترة حكم الإنقاذ، كثيرًا من السودانيين يتجنبون العودة إلى السودان، ويفضلون قضاء عطلاتهم في مصر. وقد ساعد على ذلك في فتراتٍ سابقة أن السودانيين لم يكونوا مطالبين بالحصول على فيزا مسبقة لدخول مصر. بل، في فترة حكم نميري وأثناء بداية ما سُمِّي التكامل الاقتصادي بين السودان ومصر، أخذت السلطات في البلدين إصدار ما سُمِّيت بطاقة وادي النيل التي تسمح بالتنقل بين البلدين من غير الحصول على فيزا. لكن، ظلَّت مصر تتنكر، كل حينٍ وآخر، لما يجرى الاتفاق عليه، أو تقوم بالالتفاف عليه بطريقة ما، حين تتوتر العلاقات بين البلدين. وهكذا اتسم النهج المصري في السماح للسودانيين دخول مصر من غير فيزا بالتذبذب. فهو قد ابتُدِع أصلاً بغرض التكسب السياسي من أجل استلحاق القطر السوداني بمصر. ثم، ظهر أن الممكن استخدامه كوسيلةٍ للضغط السياسي حين يقتضي الظرف السياسي، وايضًا للَكسُب المالي بجذب مدخرات السودانيين إلى داخل مصر. فالمبدأ الأصيل المتعلق بفتح الحدود بين البلدين، تستخدمه مصر بأسلوبٍ انتقائيٍّ يتغيَّر وفقًا لمقتضى الأحوال السياسية والاقتصادية.
التكسب من وراء تَشَرُّدِ السودانيين
في هذه الحرب الجارية الآن استثمر النظام المصري إجراءات الدخول لتصبح أداةً لمص دماء السودانيين بقسوةٍ ووحشيةٍ بالغة. فالسودانيون الآن شعبٌ مشرَّدٌ يبحث عن ملجأٍ آمنٍ، وهو يحتاج ذلك الملجأ حاجة حياة أو موت. وغالبية الذين يذهبون إلى مصر بسبب هذه الحرب، لا يكلفون الدولة المصرية قرشًا واحدًا. فمن يسجلون أنفسهم في مفوضية اللاجئين، تتكفل برامج الأمم المتحدة بإعاشتهم. وإلى جانب فإن كثيرين منهم يتلقون تحويلاتٍ مالية من أقاربهم المغتربين في جهات الدنيا الأربع. لكن الذي حدث أن مصر تفننت عبر سنتيْ هذه الحرب، في تغيير سياسة دخول السودانيين إليها. فاخترعت بالإضافة إلى رسوم الفيزا شيئًا جديَدًا اسمه "الموافقة الأمنية". وتبلغ تكلفة الحصول على هذه الموافقة 2500 دولارًا، وفقاً لما ذكرته بعض وكالات السفر والعاملين في هذا المجال. فهل رأى الناس رسومًا باهظة كهذه في أي بلدٍ من بلدان العالم في أمورٍ تتعلق بإجراءات فيزا الدخول؟ (راجع: موقع "أخبار السودان" على الرابط: https://shorturl.at/lprGc). ولابد من الإشارة هنا إلى أن دول الخليج العربي، التي استقبلت أعدادَا غفيرةً من السودانيين بسبب هذه الحرب، ومنحتهم إقاماتٍ مؤقتةٍ، لم ترهق كاهلهم بالأتاوات الباهظة وبالتعقيدات وبالفساد الإداري المؤسسي، ولم تتفنن في إذلالهم وفي الجَّأْرِ بالشكوى منهم، كما فعلت مصر التي تكسب من ورائهم ذهبا.
اخترع النظام المصري هذه البدعة المسماة "الموافقة الأمنية"، على الرغم من أن بين مصر والسودان اتفاقية موقعة منذ عام 2004، تُسمى "اتفاقية الحريات الأربع". والحريات الأربع هي: حرية التنقل والإقامة والعمل والتملك. ويعني هذا أن كل سوداني ومصري يستطيع دخول البلد الآخر ويستطيع الإقامة والعمل والتملك فيه. وهي اتفاقية ظل السودان يطبقها حرفيًا ويدع المصريين يدخلون إلى السودان ويعيشون فيه مثلهم مثل السودانيين. لكن مصر ما أن نشبت الحرب وظهر أن ما يقارب المليون سوداني يقفون على حدودها هاربين من لظى الحرب شرعت في التفنن في التكسب من هذا المورد الجديد. والحق يقال إن كثيرًا من الأصوات المصرية قد طالبت النظام المصري بتطبيق اتفاقية الحريات الأربع، وألحَّ هؤلاء المطالبون أن يجري فتح الحدود المصرية الجنوبية لدخول السودانيين النازحين بسبب الحرب، دون أي قيد أو شرط. لكن ما يراه الشعب المصري وما يريده شيءٌ، وما تراه وتريده الأنظمة الدكتاتورية التي ظلت تحكم مصر منذ منتصف القرن الماضي، شيءٌ آخر. (راجع: موقع قناة "بي بي سي" العربية، على الرابط: (https://shorturl.at/5V8im. وللمرء أن يتساءل ماذا تعني هذه الاتفاقية الأمنية وما سبب جعلها شرطًا؟ أهي خوفًا من دخول إرهابيين؟ فالإرهابيون ليسوا عامة شعب السوداني المشرَّد ان، وإنما هم نفس النظام الإخواني الذي يحكم السودان حاليًا، وكثيرون منهم يعيشون مع النظام المصري في قلب القاهرة. هؤلاء هم أنفسهم من أتوا بأسامة بن لادن وكارلوس إلى السودان. وهم أنفسهم من قاموا بمحاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا. وهم أنفسهم من أتوا بالإيرانيين إلى المنطقة. وهم أنفسهم من يهربون الأسلحة الإيرانية إلى حماس عبر بدو صحراء سيناء. وهم أنفسهم من يقومون في هذه اللحظة باستجلاب الدواعش من كل أركان الدنيا ليحاربوا معهم في هذه الحرب الأكثر قذارةً منذ مطلع العصر الحديث. باختصار، لم يكن شرط "الموافقة الأمنية" الذي ابتدعه النظام المصري سوى حيلةٍ لمص دماء شعبٍ مشرَّدٍ يبحث عن أمن ومأوى ومأكل.
البرهان والإخوان يحققون لمصر حلمها
سيذهب الفريق عبد الفتاح البرهان في التاريخ السوداني بوصفه أسوأ حاكم مر على البلاد منذ الحقبة الكوشية القديمة. ويمكن أن ينال في حداث الخراب العميم، لقب نيرون السودان بلا منازع. ولسوف يذهب النظام الإخواني السوداني كأسوأ منظومةٍ سياسويةٍ أيديولجيةٍ، أحالت البلاد التي حكمتها على مدى ستة وثلاثين عامًا إلى كومةٍ من الحطام والرماد. لقد حقق الفريق البرهان والنظام الإخواني للأنظمة المصرية حلمًا ظلَّت تحلم به منذ أن أخرجتها الثورة المهدية من السودان في عام 1885. هذا الحلم القديم المتجدد هو أن يسقط السودان بين فكيها كما تسقط الثمرة الناضجة. فنحن الآن في أخطر منعطف تمر به الدولة السودانية، فعلينا أن نعي خطر الهيمنة المصرية والدور المصري في إفشال الدولة السودانية. وقد ظل يجري استخدام عديد القوى والنخب السياسية السودانية في هذه الخطة القديمة المتجددة. ولو سارت الأمور على هذا المنوال، فإنها سوف تؤدي في نهاية المطاف إلى إعادة استعمار مصر للسودان من جديد. وفي تقديري، أن ذلك سوف يبدأ بسقوط شمال السودان وشرقه، وربما وسطه، لقمةً سائغةً في الفك المفترس للأوليغاركية المصرية الحكومية.
باختصارٍ شديد، لقد فشلنا نحن السودانيين عبر ما يقارب السبعين عامًا من الاستقلال في إدارة بلدنا. فنحن المسؤولون عن هذا الفشل، ولا ينبغي أن نلومَنَّ عليه أحدًا سوانا. لكن، لابد من القول: إن للأنظمة المصرية المتعاقبة دورًا في تسبيب هذا الفشل، بل، وبقسطٍ وافرٍ جدا. وحين نقول ذلك لا نقوله للتشنيع بالأنظمة المصرية. فالأنظمة المصرية، مثلها مثل أنظمة كل الدول؛ ديكتاتوريها وديمقراطيها، تهتبل فرص ضعف الدول الأخرى والثغرات التي تنشأ فيها لخدمة أهدافها. وحين نشير إلى يد الأنظمة المصرية في تكبيل السودان وتعطيله بغرض إلحاقه، إنما نريد إيقاظ الشعب السوداني ونخبه الفكرية والثقافية والسياسية، لنخرج جميعًا من حالة الغيبوبة الطويلة التي أنامتنا فيها الشعارات البراقة الخادعة المتعلقة بالقومية العربية وبالأممية الإسلامية، والأممية البروليتارية، وكذلك الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة.
مصر لا تريد سودانًا قويًا ناهضًا مستقل القرار السياسي، لأن ذلك يسير على العكس تمامًا من استراتيجتها وأجندتها المستقبلية. وهي استراتيجيةٌ وأجندةٌ ممعنةٌ في الخطأ. وهي استراتيجيةٌ لا تضر بمصالح السودان وحده، وإنما تضر بمصالح مصر أيضا. تتمثل أجندة مصر في: احتكار مياه النيل، وتدفُّق المواد الخام إليها من السودان بأبخس الأثمان. وكذلك، إتاحة الأراضي السودانية لها للزراعة. بل، وحين تسنح الفرصة، تقوم بإرسال المصريين الذين اكتظت بهم أراضي مصر فوق ما تحتمل، إلى الاستيطان في أراضي شمال السودان الشاسعة الخصبة، قليلة السكان وفيرة المياه. مصر تتجنب بكل سبيلٍ إقامة علاقة تبادل تجاري وتكامل إقتصادي شفافةً معافاةً. هي تريد أن تُملي عبر مختلف الطرق أجندتها دون أدنى مراعاة لمصالح الشعب السوداني ولتنمية القطر السوداني. مصر تحارب الديمقراطية في السودان لأنها تريد أن تعقد الصفقات من وراء ظهر الشعب السوداني. هي تريد أن تملي إملاءً على الديكتاتور الذي تنصبه لحكم السودان. وعمومًا، فإن مصر تعمل على مساراتٍ متعدِّدةٍ وبصبرٍ ومثابرةٍ، منتظرةً مجيء تلك اللحظة التي تستلحق فيه السودان بالدولة المصرية عبر أهله أنفسهم. وستأتي هذه اللحظة حين لا يصبح لدى سكان السودان الشمالي أي حيلةٍ متبقيةٍ لضمان أمنهم واستقرارهم، سوى أن يلجأوا إلى الحماية المصرية. وترجو مصر من هذه الحرب الجارية الآن، التي ينخرط فيها النظام المصري بفعاليةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ عاليةٍ أن تحقق لها هذه الخطة بصورةٍ نهائية. وفي تقديري، أن لحظة نجاحها قد قاربت، وهو ما ألح عليًّ ودفعني دفعًا لدق ناقوس الخطر.
استدعاء الاستعمار
Colonization by Invitation
لقد سبق أن ناقشت في كتاباتٍ سابقة كيف خرجت إلى العلن، عقب هذه الحرب، دعواتٌ لبعض النخب السياسية والتجارية السودانية، التي نادت، بلا مواربة، لضم شمال السودان إلى مصر. بل، وأشرت إلى حديثٍ لعلي كرتي الزعيم الحالي للتنظيم الإسلامي في السودان يدعو فيه المصريين إلى الهجرة إلى السودان لكسب الرزق مع إخوتهم السودانيين. وهناك الكثير من هذا النوع من الأحاديث التي بدأت تظهر بتزايد ملحوظ في الآونة الأخيرة. وأفضل طريقة لمصر لإكمال هيمنتها على السودان، فيما أحسب، لهي تلك التي تأتي عبر مطالبة السودانيين أنفسهم بالانضمام إليها. فهذه هي أفضل صيغةٍ وأقلها كلفةً لتحقيق الهدف النهائي للماراثون المصري الطويل الساعي إلى استعادة السودان ووضعه، من جديدٍ، تحت كامل الهيمنة المصرية، مثلما حدث في الحقبة الخديوية، (1821 – 1885). فالنظام الإخواني الذي حكم السودان حتى الآن 36 عامًا يعمل أفراده الآن، بعد أن تبددت أحلامهم في السيطرة الكاملة على البلاد، على الحفاظ على الثروات التي نهبوها. ولم يعد متاحًا أمامهم لتحقيق ذلك سوى دمج النظام الأوليغاركي السوداني، في النظام الأوليغاركي المصري، الذي شرع في فتح الباب لهم على مصراعيه. خلاصة القول، لن يتقدم السودان خطوةً واحدةً إلى الأمام، ما لم نعرف نحن السودانيين الكيفية التي نُبطل بها هذا الدور المصري المدمر بالوعي به، وبالوقوف ضده بقوة. وأيضًا، لن تنهض مصر، نهضةً حقيقيةً مستدامةً، تليق بتاريخها القديم السابق لعصور الظلام والامتهان الأجنبي التي عاشتها، ما لم تعرف الطريقة الأمثل لخلق علاقةٍ صحيحةٍ منتجةٍ مع السودان.
(يتواصل)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.