خريطة حديثة توضح مواقع سيطرة الحكومة السودانية    النصر يحبط الخليج في ليلة عودة رونالدو    أمارة العبابدة،. السودان: لازالت القوائم ملئ، تنتظر التعليمات من القوات المسلحة    349 الف جوال قمح انتاجية الموسم الشتوي بمشروع حلفا الجديده    صفاء عثمان    أحمد السقا يحسم شائعات الانفصال.. ومها الصغير تردّ    السودان يطالب باستعادة ممتلكاته الثقافية المنهوبة    شاهد بالفيديو.. الأوضاع تنفجر داخل الدعم السريع.. قائد ميداني يفتح النار بعد هزيمتهم وهروبهم من أم درمان ويصف أحد القادة البارزين ب(الطابور) و (الكلب)    شاهد.. الممثلة المصرية الشهيرة "راندا البحيري" تنشر صور جميلة للعاصمة السودانية وتبارك وتهنئ الشعب بتحرير الجيش للخرطوم (الف مبرك لكل اخواتي السودانيين)    شاهد بالصورة والفيديو.. عانقه بشدة ورفض تركه.. "كلب" يستقبل صاحبه السوداني بعد عودته لمنزله بعد غياب دام لعام ونصف بالأحضان    هنا أم درمان.. عامان من الإتلاف المتعمد لصوت السودان    محمد وداعة يكتب: اختيار حمدوك .. خفايا و ملابسات    قائمة أعلى أجور لاعبي الدوري الإنجليزي.. شاهد ترتيب محمد صلاح ومرموش    ولاية القضارف: وجهة جديدة للمستثمرين في ظل التحديات    تكنولوجيا فضائية صاروخية.. ترامب يكشف تفاصيل "القبة الذهبية"    السودان.. الإعلان عن ولاية جديدة خالية من ميليشيا الدعم السريع    مرسوم لسلفاكير يثير جدلاً في جنوب السودان    لن يستقيم الظل والعود أعوج!!؟؟    مجلس هلال الساحل يزور بعثة السهم الدامر    ساردية والنداء يحتكما بالتعادل الإيجابي 2/2 بشندي    المريخ في موريتانيا (والضُل الوٌقَف ما زَاد)    روسيا تسلم وزارة المعادن عدد (2) أطلس للخرط الجيولوجية وتقارير فنية فقدت بسبب الحرب    "الدعم السريع" تكشف حقيقة مقاطع الفيديو المتداولة لجثامين متحللة بالخرطوم    وزارة الري تكشف عن خسائر تاريخية وفقدان مستندات عمرها 100 عام    لابورتا: برشلونة يعاني لتجديد عقد يامال والتعاقد مع هالاند ليس مستحيلاً    كيف تمنع جيرانك من سرقة الواي فاي؟    واشنطن ستتخلى عن إسرائيل إن لم توقف حرب غزة    صلاح يكشف كواليس تجديد عقده ويتحدث عن الكرة الذهبية    المدير العام لقوات الشرطة يتفقد الإدارة العامة لمكافحة المخدرات ويوجه بمشاركتها مع شرطة ولاية الخرطوم في عمليات الانتشار والتامين    انتكاسة تؤجل تجديد عقد كريستيانو مع النصر    سفارات كييف في أفريقيا.. خطط ومهام تتجاوز الدبلوماسية    تراجع حركة الموانئ ببورتسودان    بنك الخرطوم يحسم الشائعات.. "بنكك" باقية وستظل    مبارك الفاضل: أغنياء الذهب يحولون دون إنهاء حرب السودان    ظاهرة قمر الحليب تزين سماء السودان    امريكا تُعلن عن صفقة أسلحة جديدة مع الإمارات    وفاة الفنان محمد فيصل (الجزار)    أسوأ من التدخين.. عادة يومية تهدد حياتك بصمت    الزنجبيل.. الحليف الطبيعي لصحة قلبك    والى الخرطوم يقف على الأضرار بالمحطات التحويلية للكهرباء بعد قصفها بالمسيرات ويشيد بسرعة تحرك قوات الدفاع المدني    ترامب: أريد أن "تمتلك" الولايات المتحدة غزة    مكافحة المخدرات تضبط بنقو داخل مستشفى الدويم    وعكة صحية وتغيب عن الحضور.. ماذا حدث بقضية محاكمة نجل محمد رمضان؟    ألفاظ مشتركة بين أهل السودان والخليج (1–2)    محمد رمضان يمازح جمهوره بعد زلزال القاهرة: «مفيش زلزال بيحس بزلزال»    ((مبروك النجاح يانور))    صاحب أول حكم بإعدام رئيس مصري سابق.. وفاة قاضي محاكمات مبارك ومرسي    تجهيزات الدفاع المدني في السودان تحتاج إلي مراجعة شاملة    عبر تطبيق البلاغ الالكتروني مباحث شرطة ولاية الخرطوم تسترد سيارتين مدون بشانهما بلاغات وتوقيف 5 متهمين    ما هي محظورات الحج للنساء؟    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجنجويد: من التوظيف السلطوي إلى التموضع السياسي
نشر في الصيحة يوم 20 - 05 - 2025


د. الوليد علي مادبو
"التمسك بالتاريخ بوصفه قدَراً هو أحد أخطر أشكال التنميط؛ لأنه يُحوّل الظلم من حدث قابل للنقد إلى حقيقة لا يمكن تغييرها."
— إدوارد سعيد، الاستشراق
إن محاولة فهم ظاهرة الجنجويد بوصفها "ظاهرة إنسانية عالمية" متجذّرة في التراث البشري، كما ورد في بعض المقولات التي تم تداولها مؤخراً دون التعرف على هوية كاتبها، تمثل انزلاقًا خطيراً نحو الجوهرنة التاريخية (essentializing through historicizing). فباسم المقارنة الحضارية يتم سحب الظاهرة من سياقها السياسي والاقتصادي المعاصر، وتقديمها كاستمرارٍ لسلوك بدائي متجذر في "الهامش البشري"، وكأنّ الجنجويد مجرد إعادة إنتاج للتتار أو الفاندال أو المغول، يمرون في الفضاء التاريخي كقدر لا يُردّ، وكأن السودان مسرح أبدي للفوضى، لا فكاك منه.
غير أن هذه القراءة المسطحة تتجاهل تماماً الشروط البنيوية التي أدت إلى نشوء وتضخّم هذه الظاهرة في السودان الحديث. فهي ليست نتيجة فورة عرقية، ولا تعبيراً عن "الطبيعة البدوية الجامحة"، بل نتاج مباشر لتحولات الدولة ما بعد الاستعمار، التي أعادت إنتاج المركزية القهرية والتهميش العنيف في هوامشها الجغرافية والاجتماعية. لقد تم تصنيع الجنجويد سياسياً، وتمويلهم وتسليحهم وتأطيرهم أيديولوجيًا، ضمن مشروع سلطوي واضح، هدفه الأساس تفكيك حركات المقاومة في دارفور، وتجفيف منابع التمرد الاجتماعي والثقافي. وكما وصف ميشيل فوكو أدوات "القوة الحيوية " (biopower)، فقد استخدمت الدولة الجنجويد للضبط والتأديب، لا كخارجين عن الدولة، بل كامتداد لها.
إن القول بأن "الجنجويد ظاهرة بشرية متكررة" هو في جوهره خطاب نزع للسياق، يحذر منه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، حيث أوضح أن أخطر ما يفعله المثقف هو تقديم العنف والمظلومية في صورة قدر ثقافي أو جغرافي. فبهذا المنطق، يتحول الجنجويد من كيان وظيفي داخل المنظومة السلطوية إلى كائنات فوضوية، خارجة عن التاريخ، عن الدولة، عن القانون، وعن المسؤولية. وتصبح الجرائم التي ارتكبت في دارفور وجنوب كردفان والخرطوم، مجرد نتوءات عشوائية في سردية الغابة، لا ما هي عليه: مشروع عنف منظم ذو بُعد سياسي طبقي عرقي واضح.
بل إن هذا النوع من الخطاب يُعيد إنتاج منطق الاستعمار المعرفي، في تصوير شعوب الجنوب على أنهم "همج بالفطرة"، لا يصنعون تاريخهم بل يُستدرجون إليه. إنها الأطروحة ذاتها التي فندها فرانز فانون، حين بيّن أن العنف الاستعماري لا يقتصر على احتلال الأرض، بل يحتل الوعي، ويُنتج نخباً فكرية محلية تبرر القمع، لا باسم المصلحة، بل باسم "الهوية" و"الطبيعة" و"التراث".
هنا تكمن خطورة الخطاب التأصيلي: أنه يخلط بين التحليل والتبرير. فبدل أن يُفكك الجنجويد كظاهرة اجتماعية معقدة نتجت عن التحالف بين السلطة المركزية والإقطاع العسكري، يُقدَّم لنا وكأنهم "صدى تاريخي"، يتكرّر حيثما كان الجن والجيم والجواد. وهكذا يُمحى الجاني، ويُعاد تشكيل الضحية كجزء من مسرحية لا مسؤول فيها ولا حساب.
غير أن القراءة الأكثر عمقًا لا تقف عند لحظة الاستخدام السلطوي للجنجويد، بل تتجاوزها إلى لحظة التحوّل اليوم: حين بدأ هؤلاء الذين صُنِعوا في هوامش الدولة، يتجاوزون منطق التوظيف العسكري إلى التموضع السياسي. لقد بدأت هذه الجماعة، بفضل المواجهة الأخيرة مع العصابة الإنقاذية، في إدراك مكانتها خارج المركز، لا بوصفها أداة، بل كفاعل. وبهذا المعنى، تحوّل بعض أفرادها من مجرّد مرتزقة إلى ساعين – بصدق أو بمصلحة – إلى تحالفات ريفية جديدة، وإلى إعادة تشكيل معادلات السلطة.
هنا تبرز المفارقة: فظاهرة الجنجويد التي ولدت في أحشاء الدولة السلطوية، قد تكون في طريقها إلى التحلل من تبعيتها القديمة، لتصبح فاعلًا ضمن صراع جديد حول الهوية الوطنية، والمواطنة، وتوزيع الموارد. وهذه مرحلة تتطلب قراءةً جديدة، لا تكتفي بالإدانة ولا تسقط في التبرير الواهي (المتمثل في عبارة "عرب الشتات")، بل تسعى لفهم الظاهرة في ضوء توازنات القوة الاجتماعية، وتركيبة الهوية، وخطاب المقاومة.
ختاماً، إننا إذ نُعيد النظر في ظاهرة الجنجويد، مطالبون بتفكيكها لا كمجرد فئة مقاتلة، بل كمؤشر على أزمة الدولة السودانية في علاقتها بهوامشها، وعلى فشل المشروع الوطني في استيعاب التعدد والتنوع والتهميش. وإلا فإننا نخاطر بإعادة إنتاج ظواهر أكثر عنفًا، لا لأنها متأصلة في "ثقافتنا"، بل لأننا فشلنا في مواجهة بنيتنا السياسية نفسها.
May 17, 2025


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.