السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إدوارد سعيد والنقد الثقافي المرجعية والخطاب …بن خليفة مشري
نشر في حريات يوم 12 - 06 - 2013

إن الدراسات الثقافية ارتبطت بالتحولات المعرفية والمنهجية التي شهدتها أوروبا في نهاية السبعينيات، ويمكن تأصيلها إلى ما قبل ذلك إذا أخذنا في الاعتبار تأثير ميشيل فوكو، حيث بدأ النقد الثقافي يكرس نفسه بوصفه نشاطا فكريا يتخذ من الثقافة بأبعادها وشموليتها موضوعا لمجال بحثه وتفكيره، ومن ثم يحدد مواقف إزاءتطوراتها وسماتها. ولقد اهتمت الدراسات الثقافية " بجملة من القضايا البارزة مثل: ثقافة العلوم، وتشمل التكنولوجيا والمجتمع والرواية التكنولوجية، والخيال العلمي، والثقافة الجماهيرية، والأنثروبولوجيا النقدية الرمزية المقارنة، والتاريخانية الجديدة، وخطاب ما بعد الاستعمار، ونظرية التعددية الثقافية، والدراسات النسوية والجنسوية ، وثقافة العولمة .." (1).
ونستطيع القول انطلاقا من هذا المجال المعرفي والممارسة المفاهيمية، إن الدراسات الثقافية تهدف بالأساس إلى تفكيك البنى التي تسهم في تحديد العلاقة بين السلطة والممارسات الثقافية الناتجة عنها. وهي من جانب آخر ليست مجرّد دراسة للثقافة، وإنما فهم جوهري لآليات التأثر والتأثيرفي أشكالها المختلفة المتعددة والمركبة أحيانا. وقد تلجأ إجرائيا إلى تحليل السياق الاجتماعي والسياسي، ذلك أنها " ليست نظاما، وإنما هي مصطلح تجميعي لمحاولات عقلية مستمرة ومختلفة تنصب على مسائل عديدة، وتتألف من أوضاع سياسية، وأطر نظرية مختلفة ومتعددة .." (2).
لا شك أن التغيرات الحديثة في الثقافة الغربية أخذت تكرس النقد الثقافي وتكسبه سمات محددة على المستويين المعرفي والمنهجي، لتجعله يتميز عن غيره من أنواع النقد السائدة في نهاية القرن العشرين. إن النقد الثقافي أصبح يقوم بدور مفقود في ميادين البحث المعاصرة، إذ أنه لا يتناول الفن والأدب وحسب، وإنما يدرس" دورالثقافة في نظام الأشياء بين الجوانب الجمالية والأنثروبولوجية بوصفه دورا يتنامى في أهميته، ليس لما يكشف عنه من الجوانب السياسية والاجتماعية فقط، بل لأنه يشكل كذلك النظم والأنساق والقيم والرموز ويصوغ وعينا بها، ومن هنا تتبدى علاقة النقد الثقافي بالإنثروبولوجية الرمزية المقارنة .." (3).
وعليه يحدد ريتشارد هوغارت أهم المصادر النظرية للنقد الثقافي، محددا إياها بثلاثة مصادر:
1 تاريخية 2 فلسفية 3 أدبية ونقدية (4).
ويمكن القول إن النقد الثقافي ضمن هذه المصادر ينطلق من موقع الاختلاف، وتمجيد الخطاب المعارض، ويحتفي بالهامشي. وينطلق النقد الثقافي من مبدأ التعددية الثقافية، وفي الوقت نفسه يضرب المركزية الثقافية المهيمنة في العمق، وهذا الوعي النقدي " أسهم في فتح مجالات الخطاب النقدي وتنويعه، وجعله مزدوجا، إذ يمارس القراءة والتحليل والنقد على مستويين معا وفي آن واحد .."(5)، فهو يقوم من جهة على نقد المؤسسة ودورها الثقافي والعلمي في إنتاج الخطاب وقراءته، ومن جهة أخرى على تكسير مركزية النصّ الذي كانت تطرحه الدراسات الشكلانية والبنوية. ومن ثم بدأ يطرح نوع آخر من النصوص، وبهذا توسع مفهوم النصّ فأصبح يحتوي أنواعا وأجناسا لم تكن مدروسة من قبل النقد الأدبي، "خاصة الوسائط الجماهيرية (..) والثقافة البصرية الجديدة .." (6).
وهكذا تحول النصّ في هذا الخطاب النقدي من صفة الواحدية إلى التعددية، وأصبح وثيقة " تعكس القيم الأيديولوجية والسياسية السائدة من ناحية، وتتخذ نقطة انطلاق لإعادة تصور تلك القيم، وإعادة بنائها في ظل صراع طبقي ثقافي لا يتوقف من ناحية أخرى.."(7). وهكذا يتحول النصّ/ النصوص إلى علامة ثقافية هي جزء من سياق ثقافي وسياسي أنتجها، وغاية النقد الثقافي هو الكشف عن الأنظمة الذاتية لهذه العلامة، في إطار مناهج التحليل المعرفية، وتأويل النصوص، والخلفية التاريخية، والموقف الثقافي، والتحليل المؤسساتي، ويعني أيضا أن نضع النصّ " داخل سياقه السياسي من ناحية، داخل سياق القارئ أو الناقد من ناحية أخرى.."(8). وتأتي أهمية ووظيفة النقد الثقافي من كونه يركز " على أنظمة الخطاب، وأنظمة الإفصاح النصوصي، كما هي لدى بارت ودريدا وفوكو"(9)، والكشف عن العنصر النسقي الذي يمثل عنصرا مبدئيا في آليات النقد الثقافي.
مرجعية إدوارد سعيد :
ينطلق إدوارد سعيد من مقولة شهيرة لفكتور هوجو" الإنسان الذي يرى وطنه أثيرا على نفسه هو إنسان غُفل، طري العود، أما الإنسان الذي ينظر إلى أية تربة، وكأنها تربة وطنه، فهو إنسان قوي، أما الإنسان الكامل فهو ذلك الإنسان الذي يرى العالم بأسره غريبا عليه.."(10). وذلك ليعيد النظر في فكرة المكان، ويطرح فكرة جديدة هي " المنفى" فهو يرى أن تلك الهجرات البشرية الضخمة التي " ارتبطت بالحرب، والكولونيالية وإزالة الكولونيالية، والتطور الاقتصادي والسياسي، وتلك الحوادث المدمرة مثل المجاعة، والتطهير العرقي، ومكائد القوى العظمى"(11). كان لها الأثر الكبير على المكان بحيث أن التغيرات راحت تعتري المحيط والإنتاج الثقافي، مما أدى إلى تغير في العلاقة بين المكان والمقيمين فيه، ومن ثم " كان على المنفيين، والمهاجرين، واللاجئين، والمغتربين، المجتثين من أوطانهم أن يعملوا في محيط جديد، حيث يشكل الإبداع فضلا عن الحزن الذي يمكن تبنيه فيما يعملونه واحدة من التجارب التي لا تزال تنتظر مؤرخيها .. " (12).
فبهذا الوعي النقدي بالمنفى، وبالواقع الذي أنتج هذه التجارب المؤلمة، يؤكد سعيد على أن أعماله أدت إلى ضرورة القيام بمراجعة عظيمة في النقاش الثقافي، وذلك "بانتقاد المركزية الأوروبية، ذلك الانتقاد الذي مكن القراء والنقاد من رؤية البؤس النسبي الذي تنطوي عليه سياسات الهوية، والسخف الذي ينطوي علية إثبات نقاء الجوهر الأساسي .." (13)
ويرى سعيد أن الثقافات مكونة "من خطابات مختلفة، ومتغايرة العناصر، بل ومتناقضة، فلا تعود هي ذاتها بمعنى ما إلا بمقدار ما تكون ليست ذاتها.." (14).
إن المنفى من وجهة نظر سعيد، ليس مجرد حالة جغرافية أو مكانية، وإنما هو محنة يتأتى عنها "ضرب من الإلحاح، كي لا نقول ضروب من تقلقل الرؤية أو تردد القول يجعل استخدام اللغة شيئا أشد تشويقا وأكثر آنية مما لو كان الأمر بخلاف ذلك.."(15). فهناك تناقض في داخل سعيد بين هويته العربية المتباعدة وثقافته الغربية الأمريكية، ووضعه الناقد الرافض لتلك الثقافة المهينة؛ لذا يقول سعيد : " اخترت أن أستعيد هويتي العربية، ومن منظاري بوصفي عربيا بالاختيار، أعدت قراءة حياتي المبكرة .."(16)، إن دلالة هذا التحول على مستوى التصور والموقف في حياة إدوارد سعيد كان له الأثر الكبيرفي إعادة بناء نفسه، وترميم الهوية، وذلك بطرح الأسئلة الجوهرية، وتفكيك الخطاب الإمبريالي الغربي، لذا يصرح سعيد في لحظة الوعي بالأصل الثقافي الذي كان منفيا " لم أعد الإنسان ذاته بعد العام 1967، فقد دفعتني صدمة الحرب إلى نقطة البداية، إلى الصراع على فلسطين" (17)، ومن ثم اتخذ سعيد قراره بالعودة سياسيا إلى العالم العربي الذي أغفله خلال سنوات التعليم والنضج الطويلة، وبذلك رأى أن النظرية الأدبية نفسها لا يمكن أن تنفصل عن العلاقات السياسية في العالم الذي نشأت فيه، وكان نتيجة هذه العودة وهذا الوعي النقدي، " الاستشراق " 1978، و" القضية الفلسطينية " 1979، و " تغطية الإسلام" 1981.
إن هذا البناء للهوية يساعد على إدراك وفهم طبيعة طروحات إدوارد سعيد، وموقعه المتقدم في النظرية الأدبية والثقافية، حيث أن " أحوال حياته ونص هويته، قد نسجت بصلابة وشكلت السياق المحدد لكل كتاباته"(18). إذ لا يمكن فهم إدوارد سعيد وموقعه بعيدا عن المجتمع الأمريكي وآليات إنتاجه وتأثره بالدراسات الأوروبية في مجال العلوم الإنسانية، فهو مزيج من غرامشي وفوكو ولوكاتش وفرويد وماركس وأدورنو وفانون وغيرهم.. وعبر هذا التحديد المرجعي يرصد سعيد الدور الذي يلعبه مفهوم المركزية الثقافية، والتي يرى أنها سلاح أساسي للإمبريالية، على اعتبار أن الثقافة ترتبط بالنظام المهمين عبر الأجهزة الأيديولوجية للدولة، والتي تقوم بالدور الدعائي والإقناعي في المجتمع، مثلها مثل بقية الأجهزة الأخرى التي تستخدمها الدولة في بسط نفوذها.
ومن هنا تأتي أهمية أن ننظر إلى النصّ بوصفه حالة ثقافية، وليس قيمة بلاغية وجمالية فحسب، لذا يحدد سعيد طريقته في القراءة والتي تركز من جهة على الأعمال الفردية، " كنتاج عظيم للخيال الخلاق أو التأويلي"، ثم من جهة أخرى " كونها جزء من العلاقة بين الثقافة والإمبريالية .." (20).
و من أدوات هذا الطرح المنهجي الصارم، تكمن أهمية تفكيك النصّ الكولونيالي من منظور الأقليات التابعة مثل: المرأة، والسود، ومثقفي العالم الثالث، وهؤلاء المعذبون في الأرض على حدّ تعبير فرانز فانون. إن الكشف عن دور النصّ في الصراع السياسي الثقافي، هو واحد من أهم منجزات إدوارد سعيد، في قراءته للثنائيات المتضادة في علاقة الإمبريالية بالثقافة.
خطاب سعيد النقدي الثقافي :
ينبني خطاب سعيد النقدي على رؤية وموقف واضحين، وهي أن النصّ ليس بريئا، فهو يخفي إيديولوجيات مناقضة لخصوصيته النصية الجمالية البلاغية، ومن ثم فهو يرى أن : " النصوص في النهاية أشياء مادية، وليست مجرد فيض خالص يفيض عن نظرية من النظريات .."(21). ولهذا فهو يرفض أن نتعامل مع النصّ بوصفه بنية جامدة، ومن المفيد أن ننظر إليه على أنه فعل متموضع في العالم؛ أي أنه نتاج ثقافي، وفعل ثقافي، في علاقة مع السلطة التي أنتج ضمنها(22) فهو يستخدم عبارة " التجربة التاريخية " ليشير إلى أن الكلمات ليست تقنية ولا باطنية، و إنما تتجه إلى كل ما هو حي، وصراعي ومباشر، خاصة تجربة الانخلاع، والمنفى والهجرة، والإمبراطورية.
إن النصوص في نظر سعيد " دنيوية، وهي أحداث إلى حد ما، وهي فوق كل هذا وذاك قسط من العالم الاجتماعي و الحياة البشرية، وقسط بالتأكيد من اللحظات التاريخية التي احتلت مكانها فيها وفسرتها حتى حين يبدو عليها التنكر لذلك كله.."(23). وقد ركز سعيد كل اهتمامه على كشف العلاقة القائمة بين ( البنية والحدث )، وكذلك التضاد الحاصل بين السيطرة الإمبريالية بنظمها وأنساقها الثقافية، والمقاومة الوطنية المعارضة لهذه السيطرة، لذا يقرأ سعيد هذه الثنائيات المتضادة قراءة طباقية.
إن هذه القراءة تهدف خصوصا إلى إزالة " السلطة التشريعية المهيمنة للإمبريالية عن تلك النصوص.. لأن الإمبريالية تعمل على أنها ذات حضورجامع للقوانين .."(24) وعليه فإن عمل القراءة الطباقية من وجهة نظر سعيد هي أن تأخذ في الحسبان كل الأبعاد لذلك التعدد الصوتي، وأن لا تقف عند بعد واحد فقط، و" أن تكشف ما الذي قد تخفيه القراءة الأحادية حول الدنيوية السياسية" (25).
يرى إدوارد سعيد أن الأدب مهم في عالمنا المعاصر، لأنه يحتوي قيما جمالية وتاريخية ومجتمعية، لذا ينبغي على الناقد أن يضع كل هذا في اعتباره عند تعامله مع النصوص. ومن هذا المنطلق يفرّق بين مفهومي " النسب " و" الانتساب"، فالنسب حسب رأيه هو كل ما يصف مكونات النصّ التقنية والجمالية، أما الانتساب فهو ما يمنح النصّ مجال حركته، أي مجموعة الظروف المحيطة به، ومكانة المؤلف، واللحظة التاريخية التي يتم فيها استعادة أو تناول النصّ (26).
إن التحول من النسب إلى الانتساب أدى بإدوارد سعيد إلى أن يعلن موقفه الضدي لطرائق التحليل البنيوي وما بعد البنيوي، التي توغل في الشكلانية وتخفي ( الحدث ) وتستبعده عن القارئ، لأن الحدث يتضمن إيديولوجيات. ويبرر سعيد اختياره للنقد الثقافي المقارن منهجا له، فهو ينتقد النظريات النقدية الشكلانية " إن أكثر ما يثير الحنق لدى الموضة الرائجة من النظرية الشكلانية والتفكيكية هو لجاجتها في التركيز على المسائل اللغوية والنصية" (27).
وانطلاقا من هذا الواقع النقدي يصنف سعيد الممارسة النقدية بأنها تتخذ أربعة أشكال رئيسة :
1 النقد العملي، الذي نجده في مراجعة الكتب وفي الصحافة الأدبية.
2 التاريخ الأدبي الأكاديمي، الذي يدرس الأدب الكلاسيكي والفيلولوجيا وتاريخ الحضارة.
3 التقويم والتأويل من زاوية أدبية، على الرغم من أن هذا الشكل بالأساس عمل أكاديمي فإنه على نقيض سلفيه، فالتقويم هو الشيء الذي يعلمه ويمارسه أساتذة الأدب في الجامعة والمستفيدين منه هم كل تلك الملايين من الناس.
4 النظرية الأدبية، التي هي بمثابة مضمار جديد نسبيا، فهذه النظرية برزت كميدان لافت للنظر بالنسبة للبحث الأكاديمي في الولايات المتحدة، فأناس مثل كوالتر بنيامين، وجورج لوكاش مثلا قاما بعملهما النظري في باكورة سنوات القرن العشرين، ولكن النظرية الأدبية لم تبلغ مرحلة النضج إلا في عقد السبعينيات، على الرغم من الدراسات الريادية التي أنجزها كانيث بيرك قبل الحرب العالمية الثانية بزمن طويل، وذلك من جراء الاهتمام المتعمد الملحوظ بالنماذج الأوروبية، البنيوية، وعلم الدلالة، والتفكيكية.." (28).
ويصف موقفه النقدي الذي يعتبره مساهمة في تخطي حدود الأشكال الأربعة، وينتقد (التخصص، والثقافة الرسمية، والاحترافية النقدية). فهو يريد أن يخرج النصّ من تيه النصّية والدخول به في " الدنيوية " أو السياقات المادية للنصّ والناقد. لأن النقد الدنيوي ( العلماني) يسمح له بأن يتفحص أولا " العالم الدنيوي لا الروحاني الذي تحدث فيه النصوص"، ثم ينصرف ثانيا " إلى المشكلات الخاصة التي تعتور النظرية النقدية، مما يحدث حين تحاول الثقافة أن تتفهم ثقافة أخرى، أو أن تهيمن عليها، أو أن تقتنصها في حالة كونها أضعف منها.."(29)، فالنقد عند سعيد يجب أن يرى نفسه " مشجعا للحياة ومعارضا، بحكم تكوينه، لأي شكل من أشكال الطغيان والهيمنة والظلم .." (30).
تكمن المشكلة في النقد المعاصر، بالنسبة لسعيد، في وظيفته المتطرفة، التي تهتم كثيرا بالخصائص الشكلية للنصّ، لذا نجده يدعو إلى عملية تقويم للأدب على أنه "عمل فردي لكاتب فرد منشبك في ظروف يسلم بها الجميع، مثل الإقامة، والجنسية، والمحلّة المألوفة، واللغة، والأصدقاء، وهلمجرا، وهكذا تكون المشكلة بالنسبة للمؤول هي كيف يربط بين هذه الظروف وبين العمل، كيف يفصل بينهما وكذلك كيف يجمعهما، كيف يقرأ العمل وشرطه الدنيوي.." (31).
وقد كان محور تركيزه في النقد بشكل خاص على أشكال ثقافية كالرواية التي كانت ذات أهمية عظيمة في صياغة وجهات النظر، والإشارات والتجارب والممارسات والأنماط الإمبريالية. ومن ثم فالنقد الثقافي الذي يدعو إليه سعيد يضع المثقف والناقد في العالم، وعليه فهو يرى أن عملية النقد تتمثل في ثلاثة عناصر : العالم والنصّ والناقد.
هوامش :
1 حفناوي بعلي، مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن، الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، ط1، بيروت، الجزائر، 2007، ص: 11.
2 حفناوي بعلي (م . س ) ، ص : 14.
3 المرجع نفسه، ص : 15 .
4 (م . س ) ، ص : 34 .
5 (م . س ) ، ص : 44 .
6 (م . س ) ، ص : 16 .
7 (م . س ) ، ص : 47 .
8 (م . س ) ، ص : 47 .
9 (م . س ) ، ص : 49 .
10 إدوارد سعيد، العالم والنص والناقد، تر: عبد الكريم محفوظ ، إتحاد الكتاب العرب ، ط1 ، 2000 دمشق . ص : 11 .
11 إدوارد سعيد، تأملات حول المنفى ج 1 ، تر: ثائر ديب، دار الآداب، ط1، بيروت، 2004. ص : 19.
12 (م . س ) ، ص : 19 .
13 (م . س ) ، ص : 19 .
14 (م . س ) ، ص : 19 .
15 (م . س ) ، ص : 20 .
16 إدوارد سعيد، خارج المكان، تر: فواز طرابلسي ، دار الآداب ، ط1، بيروت 2000 . ص: 9.
17 خارج المكان، ص : 9.
18 بيل أسكروفت وبال اهلواليا، إدوارد سعيد، مفارقة الهوية ، تر: سهيل نجم، دار الكتاب العربي دمشق، القاهرة، ط1، 2002، ص : 14.
19 إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية ، تر: كمال أبو ديب، دار الآداب، ط2، 1998 بيروت، ص : 66.
20 (م . س )، ص : 66.
21 إدوارد سعيد، تأملات حول المنفى ج 1، ص : 24 / 25.
22 بيل أسكروفت، بال اهلواليا، إدوارد سعيد، مفارقة الهوية، ص : 30 / 31.
23 إدوارد سعيد، العالم والنص والناقد. ص :08.
24 إدوارد سعيد، مفارقة الهوية . ص : 130.
25 بيل أسكروفت ، بال هلواليا، إدوارد سعيد ، مفارقة الهوية ، ص : 129.
26 أمينة رشيد، ندوة : إدوارد سعيد ، مجلة فصول، ع64، صيف 2004، مصر. ص:103.
27 إدوارد سعيد، تأملات حول المنفى ج 1. ص : 28.
28 إدوارد سعيد، العالم والنص والناقد. ص : 05.
29 المرجع السابق. ص: 32.
30 المرجع نفسه. ص : 35.
31 إدوارد سعيد، تأملات حول المنفى 1. ص: 20.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.