و( عثمان ميرغني) وامثاله شهود الزور خالد كودي/بوسطن في مقابلة صحفية محمّلة بالوهم والادعاء مع صحيفة إسبانيول الإسبانية، أطلّ الجنرال عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، الذي يقبض على رماد الوطن كما يتمسّك القبطان الغارق بعصاه، قائلاً في نوبة من التمنّي العاجز: أتمنى أن يذكرني التاريخ كقائد انتصر في وجه أكبر مؤامرة دولية ضد السودان." عبارة مثقلة بالكِبر والإنكار، تصلح أن تُنقش على شاهد قبر لطاغية لم يُخلّده التاريخ إلا في هوامشه الدامية، أو لم يلتفت إليه أصلًا، لأنه لم يكن يوماً جديراً حتى بلعنات المقهورين. في هذه المقابلة العبثية، يعرض البرهان أمنياته كأنها وقائع، متناسياً أن التاريخ لا يُكتب بالأحلام، بل بالدماء، ولا يدوّن التضحيات الزائفة بل يسجّل الكوارث الكبرى. فلنترك خيالات الجنرال جانباً، ولنفتح دفاتر الوقائع؛ لا دفاتر الأمن الشعبي، ولا أوراق عثمان ميرغني، الناطق باسم "نخب الإسلاميين" التي باعت مقابل تأشيرة عودة إلى سلطة الظل في بورتسودان. البرهان: جنرال بلا معركة، وقائد بلا مشروع: من دارفور إلى جبال النوبة، ومن النيل الأزرق إلى الخرطوم فمدني، لا تكاد أرض في السودان إلا وأُحرقت بنيران حربٍ أشعلها البرهان وأشباهه من جنرالات العدم. أعادوا تدوير المأساة كما تُعاد تدوير النفايات، فأطلقوا الحروب من عقالها، وعمّقوا جراحها، دون أن يقدّموا مشروعًا سوى الحفاظ على بنية القتل، وتوريث الخراب، واستدرار "شرعية" لا تستمد قوتها من الشعب، بل من دماء الأبرياء المراقة على مذابح السلطان. إن البرهان، بصفته العسكرية المزيّفة، ومليشيات الإسلاميين الموروثة عن عهد الإنقاذ، لم يكن هدفهم سوى إطالة عمر دولة القمع بالحديد والنار. لم يبنوا وطنًا، بل أسّسوا جغرافيا للحطام، يبيعون فيها الموت كسلعة سيادية. لقد توهّم البرهان وحلفاؤه من إسلاميي الشؤم أن الشعوب تنسى- لكنهم نسوا أن الشعوب تحفظ الجرح كما تحفظ الأغنية، وأن الذاكرة، حين تُهدر، تعود بأقسى الانتقام! التاريخ لا يُروى على لسان الغزاة... إن ذُكر البرهان في التاريخ، فلن يكون بوصفه مُحرّرًا، بل كقائد جرّ وطنه من أزمة إلى كارثة، ومن منعرج إلى هاوية. فحيثما مرّت كتائبه، حلّ الموت والدمار: – في دارفور، كان شاهدًا وضابط استخبارات على المذابح الجماعية منذ التسعينيات – في جبال النوبة، قصف المدنيين بالبراميل المتفجرة – في النيل الأزرق، هجّرت قواته السكان الأصليين من قراهم – أما الخرطوم، فحوّلها إلى ساحة حرب طاحنة، حتي أضحت رماد لقد قاد البرهان الجيش كما يقود حالمٌ سلاحًا أثقل من وعيه. النتيجة؟ آلاف القتلى، ملايين اللاجئين، مدن مدمّرة، واقتصاد منهار، ووطن ممزّق الأوصال منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021: انحدار بلا قاع منذ انقلابه في أكتوبر، لم يعرف السودان غير الانهيار المتسارع. يفاخر البرهان بالمؤسسات التي يرأسها، لكنها تحوّلت إلى نكتة في المحافل الدولية، لأن القائد الذي لم يشيّد مدرسة أو يفتتح مستشفى لا يحق له أن يطالب التاريخ بمكانة بين البنّائين والمحرّرين. بين تمنّي البرهان وسُخرية التاريخ، التاريخ لا يُدوّن بالرغبات، بل بأصوات الضحايا. لا يخلّد من سلّم وطنه للحرب، بل من وقف في وجه السقوط. أما البرهان، فلن يُذكر إلا باعتباره قائدًا لم ينتصر سوى على شعبه. مرافعة من ضمير الضحايا هل سمع البرهان عن الطفل الذي خرج يبحث عن الماء فعاد جثةً متفحمة تحت أنقاض منزله؟ هل شاهد صورة أمّ تغسل وجه ابنها بالتراب لأن الماء انقطع عنهم أيامًا طويلة؟ هل قرأ تقارير الصليب الأحمر التي توثق موت المرضى المحاصرين لأن سيارات الإسعاف مُنعت من عبور الحواجز العسكرية؟ ذلك هو التاريخ الحقيقي يا جنرال – لا ما يُدوَّن في مذكرات المجالس العسكرية، بل ما تسطره دموع الأمهات وأنين الجوعى وخرائط النزوح. التاريخ، في جوهره، ليس نشرة عسكرية تُوقّعها البنادق، بل مرآة لضمير الشعوب، وحبره دم الأبرياء. من كتاب الخراب البشري: حين تتحوّل الخوذة إلى لعنة: تأمّل مصير أولئك الذين توهّموا أن القبضة الحديدية تصنع المجد، وأن المجنزرات قادرة على تخليد الأسماء في سجل الشعوب: فرانكو في إسبانيا، الذي حكم بالحديد والنار، لم يُذكر اليوم إلا كلعنة قومية على جبين الأمة الإسبانية؛ وأمين دادا في أوغندا، الذي ظنّ أن المجد يُشترى بالدبابات، فانتهى منبوذًا في منفاه، بعد أن أباده التاريخ كما أباده شعبه. وهؤلاء لم يصنعوا التاريخ، بل صاروا عبرة في صفحاته المظلمة، حفروا أسماءهم لا في تماثيل البرونز، بل في لائحة العار. البرهان، بكل خطاياه الثقيلة، لا يختلف عنهم. هو امتداد لتقليد من الجنرالات الذين تحوّلوا إلى لعنات على أوطانهم: أنستازيو سوموزا، الذي أورث نيكاراغوا حربًا أهلية وجيشًا من الأيتام، فلم يُذكر إلا كمجرم؛ ياكوبو غوون، الذي أشعل حرب بيافرا في نيجيريا، فماتت الملايين جوعًا، ولم ينله من التاريخ سوى اللعنات؛ وبابادوبولوس، الذي قاد انقلابًا في اليونان، فلم تذكره الأجيال إلا كوصمة على جبين "جمهورية الفلاسفة." إنهم جميعًا لم يُخلَّدوا، بل دُفنوا في قبور بلا أسماء. فالتاريخ لا ينصب تماثيل للخيانة، ولا يرفع رايات للقتلة، بل يحتفظ لهم بمكان ثابت في الهامش الأسوا من دفتر البشرية. عثمان ميرغني، بوق السلطان وضمير الفراغ: في زمنٍ تُصبح فيه الكلمة مسؤولية وجودية، لا ترفًا يُمارَس من خلف المكاتب، اختار عثمان ميرغني أن ينحاز لا إلى الضمير، بل إلى السلطة. كتب كما اعتاد: جُمَلٌ متلوية، ونصائح مغلّفة بالتواطؤ، ومواقف محايدة تُفرغ الأخلاق من معناها. هو ابن بارّ لمدرسة "الإنقاذ" الصحفية، التي تربّت على طاولات الأمن والاحتيال، وتعلّمت أنّ السلامة في الانحناء، لا في المواجهة، وأن النجاة ليست في قول الحق، بل في مراوغته. يقول ميرغني، مبرّرًا جرائم البرهان بلغة تظن نفسها "رشيدة": !"كل هذا جميل ومرغوب وحميد... ورغم كل شيء هناك فرصة للبرهان ليحقق أمنيته" لكن هذه العبارة ليست رأيًا، ولا تحليلًا، بل شهادة زور تُكتب بحبر بارد. إنها تبييض للجريمة باسم "الاعتدال"، وتجميل للقبح السياسي تحت عباءة "التحليل المتزن". لو كان للضمير موضع في هذا القول، لكان جديرًا به أن يصف البرهان بما هو عليه: تجسيدٌ لفشل الدولة، لا مشروعٌ لبنائها؛ قاطرةٌ إلى الخراب، لا مخرجٌ منه. ومع ذلك، يُصر عثمان، كغيره من "نُدَلاء الصحافة السلطانية"، على أن يرى في الجنرال القاتل زعيمًا محتملًا، حتى وإن كان عرشه مقامًا على أنقاض الخرطوم، وأشلاء أطفالها، وأنين أمهاتها. الصحافة في لحظة الثورة: ميزان الكلمة وامتحان الضمير: حين تنفجر الثورات، لا تُسقط الأنظمة وحدها، بل تكشف الأقلام أيضًا. عندها يُمحّص الصحفي الحقيقي من المروّج، والموقف من التمرير. نعرف من اختار الكلمة جسرًا إلى الحرية، ومن اختارها سلعة في سوق السلطان. من جون ريد، إلى سليم اللوزي، الذي كتب حتى اغتيل، هؤلاء سُجّلت أسماؤهم في ضمير الأمة. أما من فاوضوا العسكر على فتات النفوذ، أو صاغوا "الرأي" على مقاس المجلس العسكري، أو تبادلوا رشفات الشاي مع القتلة بينما الدم لم يجف بعد، فهؤلاء مكانهم ليس صفحات التاريخ، بل دفاتر المخابرات وسجلات الخزي. صحافة الخراب: كيف ساهم الإعلام في شرعنة الكارثة؟ الصحافة الموالية لم تكن يومًا شاهدًا صامتًا، بل كانت اليد التي تُوقّع مع المجرم وتغسل وجهه كل صباح ببلاغة الطاعة. في عهد الإسلاميين، لم تُصنع السلطة من البنادق وحدها، بل من المقالات التي جعلت من القتل "اجتهادًا سياسيًا"، ومن القمع "إصلاحًا تدريجيًا"، ومن الاستبداد "ضرورة وطنية" ثلاثة عقود من الإنقاذ ما كانت لتدوم لولا إعلامٌ تخلّى عن رسالته، واستبدل "رقابة السلطة" بمديحها، واستبدل الشعب بالمكتب السياسي. إعلام الخرطوم، في غالبه، كان حائط الصدّ الأول ضد أي مشروع للتحرر، ليس لأنّه يجهل طريق الثورة، بل لأنه اختار عامدًا أن يقترب من النار أكثر من اقترابه من الناس. وكان عثمان ميرغني – ومن يشبهونه من كَتَبة التبرير – ترسًا مركزيًا في ماكينة تلميع القتلة. لم يُعلن قطيعة مع الانقلاب، ولا نقدًا ذات معني للحرب حينها، بل ظلّ يناور داخل دائرة الدولة التي يخاف أن يفقدها: دولة النخب، دولة الجنرالات، لا دولة المواطن. من سينصف الضحايا إن صمتت الكلمة؟ ليخرج البرهان من قصره – إن امتلك الجرأة – ويستمع إلى صوت امرأة في "كنابي الجزيرة" تدفن أبناءها تحت الأنقاض، أو إلى لاجئ يتسوّل الطعام في "أدري" بعد أن خسر أرضه وحياته. هل سيقول لهم: "لقد انتصرتُ على مؤامرة دولية"؟ أي مؤامرة أدهى من تلك التي مزّقت السودان، وقتلت أحلامه، ودفعت المدن إلى حافة الجوع والطائرات المسيّرة؟ من يعيد كرامة مئات الآلاف من المشردين؟ من يواسي أمّاً احترق أطفالها في مستشفى في النيل الازرق أو احد أسواق فقراء شرق النيل؟ من يداوي النساء المغتصبات بينما البرهان يفاوض على مقعد في "دولة ما"؟ من ينصف هؤلاء إذا كانت الصحافة نفسها تبرر للمجرم وتتهم الضحية؟ خاتمة: لا مجد للقتلة... ولا خلود لمن خان شعبه: إذا كان عبد الفتاح البرهان يطمح أن يخلّده التاريخ، فليطمئن: لن يُمحى اسمه، لكنّه سيُسجّل لا في صحائف العظماء، بل في هوامش الرعب، جنبًا إلى جنب مع أمين دادا وسوموزا، مع فرانكو وغوون، مع كل من خلط بين السلطة والمجزرة، بين البدلة العسكرية ونبوءة الخلاص. ف"القاتل لا يصنع تاريخًا، بل يصنع مقابر"، كما كتب الأديب اليوغوسلافي إيفو أندريتش، وكما حذّر جورج أورويل حين قال إن "كل جريمة تبدأ بكذبة، وكل ديكتاتور يبدأ بمحاولة كتابة التاريخ على مقاسه". لكن ذاكرة الشعوب ليست دفترًا لمرويات الجنرالات، بل صخرة تصطدم بها الأكاذيب كلما حاول الطغاة نحت المجد بقبضة من حديد. في سجلّ الشعوب، لا يُخلَّد من خانها، بل يُلعن. والتاريخ، كما قال والتر بنيامين، ليس رواية المنتصرين، بل صرخة المهزومين، صور من احترقوا بصمت، من دفنوا أبناءهم تحت الركام، من كتبوا أسماءهم في دفاتر النزوح، لا على بوابات القصر. أما الصحفي الذي يلوّح براية "التحليل المتزن" ليغسل دماء السلطة، فمصيره كمصير من غطّى الشمس بغربال. "الحياد في زمن المجازر خيانة"، هكذا كتب ألبير كامو، و"الضمير الذي يصمت أمام القذائف، ليس ضميرًا، بل وظيفة"، كما قال إدوارد سعيد في عزّ الحصار. فليكتب البرهان على قبره ما يشاء: "قائد واجه المؤامرة الدولية"، أما التاريخ فسيكتفي بجملة واحدة، دامغة، لا تحتاج إلى تعليق: "هنا يرقد الجنرال الذي حوّل وطنه إلى جثة" لن يُذكر بطلاً، بل وصمةً، لا تختلف عن وصمة نيرون، الذي أحرق روما وهو يغنّي. ولن ينجو "العثمانيون الجدد" من امتحان الشرف المهني، لأن الصحافة ليست حديقة خلفية للقصر، بل مرآة الشعوب حين تُذبح، وسجّلًا للمواقف ساعة السقوط فالسودان، يا برهان، ليس دفتر حضور لجنرالات الخراب، ولا مزرعة للنخب التي خانت الثورة وكتبت للسلطان. إنه وطن جُرِح بما يكفي، ولن يرحم ذاكرته من ذبح أبناءه... أو من بارك السكين. اللعنة التي لا تُكتب بالحبر... التاريخ لا يُدوَّن بالأمنيات، بل بالدموع. لا يُكتب بإيجاز المراسلين، بل بنزيف الضحايا. والبرهان، مهما تمنّى، لن يُذكر إلا كمن خان إرادة الشعب، وتاجر بدمائه في سوق المفاوضات، وادّعى الإصلاح بينما كان يسوّق للموت على هيئة مؤتمر سلام. أما من كتبوا له، وغطّوا جرائمه باسم "النقد البنّاء"، فسيلعنهم كل من قرأ أسماء الموتى، ووقف في طابور الخبز، ونام في الخلاء بعد أن احترق بيته. يا برهان ويا عثمان: أنتم لا تواجهون التاريخ، بل تواجهون "ضمير الضحية" كما سمّاه بول ريكور. والضمير لا يُهزم بالبيانات، ولا يُشترى بالمقابلات الصحفية. أما الشعوب، فهي كالفنّ الذي علّمنا إدوارد هوبر أن ينقل وجع الوحدة، والحقبة التي علّمنا جيمس بالدوين أنها تختبر الكرامة في عيون من لا يُنظر إليهم. ذاكرة الشعوب لا تصدأ... ولا تعفو عمّن باعها النضال مستمر والنصر اكيد. (أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)