الوقوف إلى جانب عبد الفتّاح البُرهان: محاولة محفوفةٌ بالمخاطر للفهم، فقط عبد الحفيظ مريود الشّاعرُ الأمدرمانىّ المجيد، سليل الأسرة العريقة، كان مغترباً فى دولة خليجيّة. عاد بعد نجاح ثورة ديسمبر فى الإطاحة بالبشير وحكومته. كان معادياً للإنقاذ منذ انطلاقتها. لكنْ لم يُعرَفْ له نشاطٌ معارضٌ، أو أعمال يمكنُ تصنيفها "ثوريّةً"، إلّا بضع قصائد. من جهةٍ عموميّة، يمكنُ تصنيفه ضمن الذين لا يجدون حرجاً كبيراً فى مداهنة الإنقاذ من حينٍ إلى آخر. على الرّغم من المعارضة الواضحة. الشّاعرُ الأمدرمانىّ فحلٌ. مجيدٌ فى العاميّة والفصحى. فى القصيدة العموديّة والشّعر الحُّر. كما أنّه مجيدٌ فى الدّوبيت. بُعَيْدَ تشكيل حكومة الثّورة، برئاسة د. عبد الله حمدوك، تمَّ تعيينه فى موقع حسّاس، يتبعُ لوزارة الثّقافة التى كان وزيرها فيصل محمّد صالح. كان كثير الشّكوى من طّريقة عمل "الدّولاب الحكومىّ". وطريقة "فهم النّاس لكلّ شيئ"، تقريباً. يشكوى من ضعف الرّاتب، من ميزانيّة التسيير، من العربة الحكوميّة، من حصص الوقود المخصّصة له، من كلّ شيئ. فى المنتديات الثّقافيّة الأمدرمانيّة، فى جلسات الونسات المملوءة نقاشاً، كان يصرُّ على استخدام وصف "اللجنة الأمنيّة للبشير" للمجلس العسكرىّ الإنتقالىّ. وجهةُ نظره أنَّ المكوّن العسكرىّ للفترة الإنتقاليّة ما هو إلّا اللجنة الأمنيّة التى كوّنها البشير، أخريات أيّامه. وبالتّالى فهى ضدَّ الثورة وشعاراتها ولا يمكنُ أنْ تكون شريكاً فى التغيير. رضىَ بها الثوّار، الحرّيّة والتغيير، فقط لأنّه لم يكنْ أمامهم خيارٌ آخر. طوال الوقت، يصرُّ على أنّها ليست محلَّ ثقة. والبرهانُ ليس إلّا الوجه البّاهت للبشير. تتخفّى وراءه كلُّ الطّغمة. يستخدمه الكيزان. شايف كيف؟ وكما يقولُ أهلُ كُردفان (أضمنْ إيدكْ التَنوُمْ عليها)، فإنَّ البرُهان ما لبثَ أنْ انقلب على حكومة الثّورة. إنقلاب أكتوبر المعروف. غادر الذين يظّنّون أنّهم جاءوا بأمر الثورة والثوّار. الذين يحملون ويحلمون بالتغيير الحقيقى، مواقعهم الحكوميّة. لكنَّ صاحبنا – الشّاعر الأمدرمانىّ الفحل – لم يغادر. لم يعد ثمّة من حكوميّة مدنيّة. لم يعد هناك مشروعٌ ثورىّ للتغيير. غادر الذين جاءوا به مسؤولاً، وبقىَ هو، مع "اللجنة الأمنيّة للبشير". شايف كيف؟ حصلَ الشّاعرُ الأمدرمانىّ على منصبٍ رفيعٍ آخر، بعد الإنقلاب. لم تمضِ سوى أشهرٍ قليلة وحصل على ثالث، دون أنْ يتخلّى عن منصبيه الرّفيعينْ. صار يدخلُ اجتماعاً، ويخرجُ، ليدخل آخر، مع "لجنة البشير الأمنيّة". لم يجدْ حرجاً كبيراً. أو وجده، فقلّلَ من تواجده فى المنتديات وجلسات الونسة. لم يعُدْ يظهرُ إلّا لماما، مضطرّاً، متعجّلاً، متحاشياً الأسئلة الحارقة، التى تطفرُ من عيون الأصحاب، مثل دموع أرملةٍ مخلصةٍ، صابرة. قامتِ الحربُ. فى 15 أبريل 2023م، إنطلاقاً من المدينة الرّياضيّة. وكما قال رجل الاستخبارات العسكريّة فى سوق الشّجرة، أبوروف، حين سأله بعضُ الشّباب، عن مكوثه فى الحلّة، فيما مضى على الحرب أسبوعٌ كامل :(دى حفلة عازمين ليها ناس محدّدين). لم يجدْ الشّاعرُ الأمدرمانىّ – والحالُ هذه – بدّاً من الخروج إلى مصر. فرَّ بجلده. لكنّه حمل معه موقفه الممالئ للجنة الأمنيّة للبشير. ثمّةَ، ههنا، مخرجٌ ضيّق يقودُ إلى المنحدر. لكنّه يضلُّ أفضلَ من مواجهة الأسئلة الطّافرة. سيكونُ البُرهانُ رمزاً صارخاً. سيكونُ بطلاً خارقاً. ذلك لأنّه يمثّل اللاوعى، المسكوت عنه، اللامفكّر فيه لدى الكثيرين. وسيكون الوقوف إلى جانبه أمراً لا مناص منه. شايف كيف؟ لن يجرؤ الشّاعرُ الأمدرمانىّ للجهر بمرراتِ وقوفه مع البُرهان، فى الحرب. ولن يحتاجَ إلى ذلك. بمثلما لنْ يحتاج الحزبُ الشّيوعىّ، آلُ المهدىّ، محمّد جلال هاشم، عبد الله على إبراهيم، وندى القلعة لمبرّرات. (الموقف الوطنىّ) يقضى بذلك. إذْ لا يُعقل – كما هى الحال بالنّسبة لعبد الله علي إبراهيم – بعد تدريب الدّولة له، صرفها عليه، أنْ يكونَ نصيراً للمليشيا. الموقف لا يتطلّبُ أنْ تفحص موقف المليشيا: هل هى على حقّ؟ هل هى معتديةٌ أم معتَدَى عليها؟ هل ثمّة – إجمالاً – ما يجعلُ "حواضنها" ماقتةً للجيش؟ للنّظام السياسي الجائر؟ للحَيف المتأصّل فى نخاع الدّولة؟ هل كان ضروريّاً الدّخول فى حرب للقضاء على هذه الحواضن؟ تلك أسئلةٌ يستحيل أنْ تعكفَ عليها ندى القلعة. وهل هناك فرقٌ كبير بين جمهرة المثقّفين، الأحزاب، الكيانات الدّاعمة للبرهان، وندى القلعة؟ شايف كيف؟ من المؤكّد أنْ الشّاعر الأمدرمانيّ لمحَ فى البُرهان برّاً آمناً، فبدأ يحلم. ضربَ عرضاً بتشدّقاته عن "اللجنة الأمنيّة للبشير" عرضَ الحائط. فرضىَ بالبقاء حين غادر رفاقه. وتمدّد، مصارعاً الرّيح والموج، فنال منصباً وآخر. لكنَّ فى لاوعيه، كما هو حاصلٌ فى لا-وعيّ النّخب المصطفة وراء البرهان، أنَّ الوقوف لا علاقة له بالوطن أو الوطنيّة. لا علاقة له بالثورة أو التغيير. لا علاقة له بالعدالة والمساواة والإنسانيّة. هل يمكنُ للمعاني السّامية، الرّفيعة ولمنظومة القيم أنْ يحملها، يدافع عنها، ينشدها بدويّ من رعاة الإبل؟ هل نقفُ – كنخبة متعلّمة – مع أميّين رعاة، لا يعرفون شيئاً عن المدينة؟ مستحيل! الشّاعرُ الأمدرماني ليس فريداً. لكنّه مدخل، حالةٌ، يمكنها أنْ تقرّب الصّورة. لامتيازاتُ درجاتٌ. لكنّها – فى نهاية الأمر – امتيازات تستوجبُ الدّفاع عنها. وتحجبُ الرؤية. "خُذْ باليقينِ، فإنّكَ أنتَ الحجابُ، الذى حَجَبَ السّرَّ عَنْكَ" أو كما قال الفحلُ محمّد الفيتورىّ.