ما الذى ينتظرُ "حكومة تأسيس"؟: مخاوفُ فى أفقِ الاختلاف عبد الحفيظ مريود قلتُ، سابقاً، إنَّ حرب الخامس عشر من أبريل 2023م، تطرحُ أرضيّاتٍ جديدة لممارسة العنف والسياسة فى السُّودان. لجهةِ أنّها أدخلتِ المعارك إلى مناطق لم تكنْ ضمن خارطة الحروب التقليديّة. وسّعتْ نطاق المتأثّرين بالحرب، بشكلٍ مباشر، وأقحمتْ فئات وشرائح لم تكنْ تضعُ فى حسبانها، يوماً، أنْ تحمل السّلاح وتقاتل. ذلك أنَّ الذّاكرة العموميّة للسُّودان، تحفظُ "هوامش للحرب"، جغرافيّاً، منذ الاستقلال. جنوب السُّودان، جبال النُّوبة، دارفور، النّيل الأزرق وتخوم الشّرق. يمكنكَ أنْ تجلسَ فى مقعدٍ وثيرٍ فى القصر الجمهورىّ، كما فعل إبن السيّد محمّد عثمان الميرغنى، غداةَ تعيينه مساعداً للرئيس البشير، وتبشّرَ السُّودانيين بالعمل على وقف الحرب فى (النّيل الأبيض، وشمال كردفان). فليسَ هناك من داعٍ لتتعرّف – بدقّةٍ – على "هوامش الحرب الجغرافيّة". يكفى أنْ تكون هناك معلومةٌ عن حربٍ بعيدةٍ، لا تقتربُ نيرانها من أطراف عباءتك. الأدبيّات والتقاليد السياسيّة تحفظُ جيّداً : تجرى وساطاتٌ بعد سنواتٍ من الحرب. تتفاوضُ "الحكومةُ" – أيّاً كانتْ – مع "المتمرّدين". يتمُّ التوقيعُ على اتّفاق يضمنُ مشاركة اسميّة فى "السُّلطة"، وجزئيّة فى الموارد، ينتهى كلُّ شيئ. شايف كيف؟ لكنَّ الحربَ هذه المرّة لم تدعْ بلداً بعيداً عنها. حتّى حين انحسر التمدّد البشرىّ للدّعّامة فى وسط السُّودان وتخوم جنوبه الشّرقى وتخوم ولاية نهر النّيل، فالخرطوم، باتتْ طائراتُه المسيّرة ترصعُ – مثل رعدٍ ناجز، يكادُ سنا برقه يذهبُ بالأبصار – مدناً مثل بورتسودان، دنقلا، مروىّ، كسلا، القضارف..الخ. وهى – حتّى وقوع الرّصع – كانتْ تحسبُ نفسها حصينةً، منيعةَ الحريْم. وهو أمرٌ لا يستطيعُ أحدٌ أنْ يقطعَ بالحدّ منه. أو السّيطرة عليه. هذا إذا لم يكنْ يسارعُ خطواته فى التطوّر. سياسيّاً: أقدمتْ القوى المساندة للدعّامة على إنشاء تحالفٍ عريض، هو تحالفُ تأسيس. الذى انبثقتْ عنه حكومة تتخذُ من مدينة نيالا، حاضرة ولاية جنوب دارفور، عاصمةً لها. التحالف استقطبَ الحركة الشّعبيّة لتحرير السُّودان، جناح الحلو. بل أسهمتْ فى صياغة توجّهاته المستقبليّة. جاء – التحالف – بالحلو نائباً لرئيس المجلس الرّئاسىّ. وهى تجربةٌ جديدةٌ، تماماً، فى سياق الحروب التقليديّة والممارسة السياسيّة فى السُّودان الحديث. ذلك أنَّ أقصى حدّ وصلتْ إليه تجارب المعارضة فى السُّودان، هو أنْ تصلَّ مرحلة التجمّع، تقارب الرؤى، استمرار العمل المسلّح، والمدنىّ، "لإسقاط النّظام". أمّا أنْ تشكّل حكومةً، ولا يكونُ هوسها منازعة الشّرعية أو إسقاط النّظام، فهذه تجربةٌ جديدة. شايف كيف؟ بعيداً عن السخرية، اللامبالاة، الوجع المكبوت، الخيال المحدود للإسلاميين فى "حرب العودة للحكم"، التى أشعلوها، ما الأفق المختلف الذى تنظرُ إليه حكومةُ تأسيس؟ من الواضحِ جدّاً أنَّ حكومة تأسيس تقعُ تحت سيطرتها حدودٌ واسعة مع دول جوار السُّودان: ليبيا، تشاد، إفريقيا الوسطى، 90% من حدود جنوب السُّودان، نفّاجٌ مع إثيوبيا ونفّاج مع مصر، عبر المثلّث. تقعُ تحت سيطرتها مناطق إنتاج الكثير من السّلع الرئيسة للصّادر (الصّمغ العربىّ، النّفط، الحبوب الزّيتيّة، الثروة الحيوانيّة)، بالإضافة إلى الأراضى الزّراعيّة الخصبة، والمعادن، بما فيها اليورانيوم، فى شمال دارفور. لا تنقصُها الأيدى العاملة، ولا الكفاءات. كما أنّها تقفُ على علاقات إقليميّة ودوليّة قابلةٍ للتوسّع والاعتراف، فى ظلّ حاكمية المصالح المتبادلة والمنافع التى تسيّرُ العلاقات الدّوليّة. هذه اللمحة لا تعنى – بالضّرورة – أنَّ تأسيس منكبّةٌ على مشروع إنفصال، كما يروّجُ له البلابسة، ولا تضمرُه أىٌّ من أوراقها أو ممارساتها أو نواياها. فهى حكومةٌ للسّلام والوحدة، كما طرحتْ نفسها. تعملُ على خارطة سودانٍ موحّد. لذلك، فإنَّ من أولى أولويّات حكومة تأسيس أنْ تحذر من الوقوع فى فخاخ وأشراك الإسلاميين الذين يديرون البرهان وجيشه. تتمثّلُ الفخاخ فى طرح التنافس على المشروعيّة. ليس الإقليميّة والدوليّة فحسب، وإنّما على الصّعيد الدّاخلىّ. إذْ ستعمدُ حكومة بورتسودان على تصوير الأمر على أنّه زحامٌ من أجل الشّرعيّة. وأنّها – وحدها – التى تملكُ ذلك. متوسّلةً بالوثائق الثبوتيّة، العملة، العمليّة التعليميّة، والأختام. كما ستلعبُ – بورتسودان – كما تفعل دائماً – بالتناقضات الدّاخليّة. اللعب على مستوى القبائل واستحقاقات التمثيل والحكم. علاقات الأرض فى مجتمعات كردفان ودارفور. سيبدو ذلك سجالاً من أجل الشّرعيّة، وهى عتبةٌ ينبغى أنْ يكون "التأسيسيّون" قد تجاوزوها. ليستْ (الخدمات الأساسيّة) مناطَ الحكم، فقط. سيكونُ إثباتُ الشّرعيّة، وتقديم الخدمات للمواطنين، الفخّ الأكبر. لكنَّ تغيير بنية الوعى هو الأفق الذى يتوجّبُ على تأسيس أنْ تنشغل به. شايف كيف؟ ماذا يعنى أنْ تركّز حكومةٌ ما، على تغيير "بنية الوعى"؟ هل دا كلام مثقّفاتيّة؟ بالطّبع لا.. ثمّة تصوّرات وحدود اشتغال مفهوميّة للوعى الجمعى للسُّودانيين. تسمحُ، على مرّ تأريخهم، بتمرير المشاريع القاتلة فى ثياب أنيقة. وهى بالضّبط التى جعلته كسيحاً فيما يتعلّقُ بالتعلّم وإنتاج التغيير. خلال البضع وثلاثين عاماً الماضية، لعبت الإنقاذ دوراً بارزاً فى توسيع فراغات الوعى المجتمعىّ ذاك، بحيث صار رتقها، سمكرتها، أهمّ بكثير مِنْ : مَنْ يحكم؟ كيف يحكم؟ ولماذا؟ أعتقدُ أنَّ ذلك أفق جدير بالتطلّع إليه. أليس كذلك؟