أكول قرنق أواج تعيش العلاقات بين جمهورية جنوب السودان وجمهورية السودان واحدة من أكثر مراحلها اضطرابًا وتناقضًا منذ الانفصال في عام 2011. فعلى الرغم من الجهود المتكررة التي تبذلها جوبا للحفاظ على مستوى دبلوماسي راقٍ وممارسة سياسة "حسن النية" تجاه الخرطوم، إلا أن ما يجري على أرض الواقع في السودان عمومًا يشير إلى عكس ذلك تمامًا. في الأسابيع الأخيرة، تزايدت التقارير عن سياسات وممارسات تمييزية ضد مواطني جنوب السودان في مختلف المدن السودانية، من بورتسودان — العاصمة الإدارية المؤقتة — إلى الخرطوم، مدني، القضارف، والأبيض. هذه السياسات التي تُنفَّذ تحت إشراف سلطات بورتسودان تمثل انتهاكًا صريحًا للقوانين الإنسانية والأسرية والدولية، خصوصًا في ما يتعلق بترحيل أطفال جنوبيين أو احتجازهم دون أسرهم، أو التضييق على المقيمين واللاجئين منهم داخل السودان. ورغم خطورة هذه الوقائع، لم تقدم الحكومة السودانية حتى الآن أي إيضاح رسمي، ولم تُبدِ نية جادة للتحقيق في تلك الانتهاكات أو التواصل الدبلوماسي حولها. والأسوأ من ذلك، أن السفير السوداني في جوبا، عصام كرار، لم يُستدعَ لتقديم توضيح رسمي بشأن هذه الممارسات، وكأنها أمور عابرة لا تستحق المتابعة. هذا التجاهل ليس صدفة، بل يعكس نمطًا ثابتًا من التعامل غير المتوازن بين الدولتين: ففي حين تسعى جوبا إلى تهدئة الأجواء وتجنب التصعيد، تتعامل بورتسودان مع الملف الجنوبي بعقلية فوقية تفتقر إلى حسّ الجوار والمسؤولية الأخلاقية تجاه المقيمين على أراضيها. تشير تقديرات الأممالمتحدة إلى أن عدد السودانيين الشماليين الذين لجأوا إلى أراضي جنوب السودان بعد اندلاع الحرب الأخيرة بين الجيش والدعم السريع تجاوز 350 ألف شخص، يعيش معظمهم في مناطق مثل واو، بانتيو، وراجا،اويل،جوبا، ويتلقون معاملة كريمة من السلطات والمجتمع المحلي. في المقابل، فإن عدد الجنوبيين الذين ما زالوا يقيمون في السودان بعد الحرب لا يتعدى 150 ألفًا، كثيرون منهم يعيشون في ظروف قاسية، ويواجهون خطر الاعتقال أو الترحيل القسري، فضلًا عن تقارير عن حالات تعذيب واختفاء قسري تم توثيقها من قبل منظمات حقوقية دولية. إن ميزان المعاملة بالمثل بين البلدين أصبح مختلًا بشكل واضح. فبينما تفتح جوبا حدودها وتوفر المأوى والمساعدة الإنسانية، تمارس بورتسودان سياسات تقييد وانتقائية لا تنسجم مع الأعراف الدولية أو مبادئ حسن الجوار. وهذا الخلل لا يضر فقط بالعلاقات الثنائية، بل يقوّض الثقة الإقليمية، ويعيد إلى الأذهان الذاكرة المريرة لما قبل الانفصال، حين كانت قضايا التمييز والعنف ضد الجنوبيين من الأسباب الجوهرية لانهيار الوحدة. إذا كانت بورتسودان ترى نفسها ممثلةً لدولة تسعى لبناء نظام جديد بعد الحرب، فعليها أن تُثبت ذلك بالأفعال لا بالشعارات: عبر التحقيق في الانتهاكات، ومحاسبة المسؤولين، وتوفير حماية قانونية وإنسانية للمقيمين الجنوبيين. أما جوبا، فعليها أن تتحرك دبلوماسيًا، وأن تستفيد من أدوات القانون الدولي والاتحاد الأفريقي للدفاع عن مواطنيها وضمان كرامتهم. في نهاية المطاف، لا يمكن بناء علاقات سوية بين الشمال والجنوب ما لم تُبنَ على أساس الاحترام المتبادل، والمساواة في الكرامة، والاعتراف بالإنسان قبل الجنسية. فالسياسة التي تتجاهل إنسانية الآخر هي سياسة خاسرة مهما طالت أيامها.