قبيل انطلاق الرصاصة الأولى في 15 أبريل 2023م ب 24 ساعة و قليلاً؛ كنت عائدة معه من مشوار توزيع وجبة إفطار صائم للكوادر الطبية والمرضى بمستشفيات بحري والخرطوم، ترافقنا في ذلك صديقة دروب الخير (وجدان مجذوب ) و سائق يقود دفار ثلاجة به الوجبة. كنا نعدُّ وجبة الإفطار بالتنسيق مع إدارة صحيفة السوداني التي سمحت لنا باستغلال فناء و عريشة الصحيفة ليعمل بها الطباخ، لاحقاً يتولى سائق الدفار و سيارة وجدان نقل الطعام الذي كان يتكون من بلح و فراخ و أرز وسامبوسة وطعمية وجبنة و زيتون و كاتشب و أدوات طعام و قارورة مياه صحية ، يتم نقله إلى مكتبي بأبراج النيلين الذي تحول إلى مطعم لتجهيز الوجبة وحفظ المياه باردةً في الثلاجة. كانت تلك مبادرتي (فاطرين معاكم) والتي اخترت فيها عدد 18 شريحة من المجتمع لتوزيع الإفطار عليهم ، في كل ذلك كان هنالك…..كان مدحت ….يأتي مبكراً قبل الجميع، لا يصل قبله أحد إلا وجدان التي تشرف على إعداد الوجبة ، ثم نقوم ثلاثتنا بتوزيعها على أطباق الحفظ و نقوم مرة أخرى بتغليفها لضمان وصولها ساخنة و نقسِّم الأدوار للتوزيع حتى تصل للصائمين قبيل أذان المغرب. ثم وحين يُرفع الأذان نكون قد فرغنا من توزيع الوجبة فيشتري مدحت من ماله الخاص قارورات مياه و عصيراً و كرواسونَ من أي متجر مع قليل من البلح أحضره أنا أو وجدان من البيت، نقف على قارعة الطريق، تتلاحق الأنفاس رهقاً وفرحاً على إكمال المهمة بنجاح ، وفي كل ذلك إذا رأيتنا تحسبنا متسولين بحاجةٍ للطعام وليس أفراداً قاموا للتوِّ باإطعام نحو 300 صائم، صحيح لقد كنا متسولين … متسولين للأجر. عقب ذلك نصلي خلف سياراتنا ونفترق على وعد باللقاء غداً لإطعام شريحة أخرى ، حيث أفطرنا في تلك المبادرة عدداً من الشرائح منها أطفال المايقوما و كبار المسنين في دار العجزة من الآباء والأمهات الذين تخلى عنهم أبناؤهم، وعمال النظافة في الشوارع، ورجال الشرطة في الارتكازات و رجال المرور على الطرقات، و عمال التحميل في مطار الخرطوم صالتي الوصول و المغادرة، و مصابو ثورة 19 ديسمبر و النزيلات في سجن النساء و أسر شهداء الثورة ثم الكوادر الطبية والمرضى في المستشفيات . لم نكتفِ بالإفطار مع من هم داخل الخرطوم بل سافرنا للإفطار مع جنود جيشنا في الحدود المحررة على تخوم إثيوبيا في الفشقة الحدودية مدحت لم يشاركني تلك المبادرة فقط ، بل شاركني قبلها الطريق لأكثر من مائة كيلومتر لنصل أصقاع أرض البطانة و تخوم العيلفون و سيال ود الفكي لتوزيع البطاطين على طلاب الخلاوى و الفقراء والمحتاجين و في كل ذلك كان مدحت المبادر الساعي المجتهد الصبور المتفاني القائد الحازم . كان مدحت سائق العربة الذي يَخْبِرُ الطرق والدروب و النفوس ومسارات النور، المنضبط في القيادة، الهادئ على الطريق، الملتزم بساعة الوصول والمغادرة. في كثير من المرات التي كنا نوزع سلعة كنا نصطدم عند التوزيع بتعنت عمدة أو شيخ قبيلةٍ أو كبير منطقةٍ بأن "أتركوا تبرعاتكم هنا و أنا سأتولى توزيعها على المحتاجين" ، هنا كان يقف مدحت بحزم وقوة وصلابة و يقول له "لو كان ذلك كذلك لاكتفينا بإرسال البطاطين لك عبر سائق ، لماذا نتكبد عناء هذا السفر المرهق؟، أكيييد ليطمئن قلبنا" . يقول مدحت "تبرعاتنا يجب أن نسلمها من يدنا ليد المحتاج، مباشرةً دون وسيط ، هذه أمانة ومسؤولية". وهكذا كان يسابق ليحجز له بيتاً في الجنة ، يمسح على رأس يتيمٍ و يداعب صغيراً ويحنو على مسنٍّ ويدعو بالخير لأمراةٍ غادرها العمر و تخّلت عنها العافية ، يُلبسُ الأطفالَ بنفسه ملابس الشتاء ، يكاد يقيس درجة حرارة أجسادهم قبلَ وبعدُ، ليتأكد من تدفئتهم، يدخل المنازل عقب طرْق بابٍ أو صفقةٍ بصوتٍ جهور ليتدثر أهلُ المنزل أنَّ هنالك غريباً يطرق بابهم . لكنه لم يكن غريباً بل كان مشعلاً من الفرح وطاقةً من الإيجابية وسراجاً من الحكمة و أماناً في الطريق ومنسأةً للضرير و دفء الشتاء للغلابى. في واحدة من جولاتنا لتوزيع الأغطية زرنا أسرة مكونة من أب وأم وخمساً من البنات و لكنهم لا يملكون سوى عدد سريرين و سرير ثالث عبارة عن هيكل فقط ؛ أهدته والدة الزوجة لابنتها ويحتاج إلى ما يشد وثاقه من حبال أو بلاستيك. في ذلك اليوم وعَدنا تلك الأسرة بالعودة رغم المشوار الطويل بما يمكَّنهم من تنجيد ذلك السرير و شراء أسرَّة أخرى و ما يلتحفون به من غطاء وكساء و غذاء ….وقد كان. جمعنا تبرعات وعدنا لتلك الأسرة و قمنا بما وعدنا به . مدحت ومنذ اندلاع الحرب ظل يحن إلى استقرار الوطن وعودة المبادرات و لهفته على إعانة الفقراء . يوم أمس حملت لي صديقتي نبأ وفاة مدحت… ، لقد رحل مدحت مندوب جهاز المخابرات العامة و المسؤول عن تنسيق تنفيذ مشاركة الجهاز في مبادرات منظمتنا (خطوة عشم) . رحل مدحت و هو يبحث يوماً بعد يوم عن بيوت الفقراء و يحمل همَّ الضعفاء و يُجبر الخاطر المكسور. *خارج السور:* اللهم ارحم مدحت واغفر له واجعل قبره روضة من رياض الجنة، اللهم احشره مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، واجعل البركة في ذريته وألهم أسرته و والدته وأطفاله الصبر الجميل . خالص العزاء لزملائه في جهاز المخابرات العامة و لكل الفقراء الذين ينتظرون صوت وصول سيارة مدحت .