لست أدري لماذا تذكرت هذه الحكاية عندما سمعت بلوعة ووجع وحزن عميق بترجل مدينة الفاشر العصية لا بسقوطها. فقد حكى لي في بداية التسعينات في برنامج "أيام لها ايقاع" الحواري الشاعر العراقي الكبير الراحل عبد الرزاق عبد الواحد عن آخر ليلة شعرية للشاعر العبقري الرامز بدر شاكر السياب قال: إن المرض قد انهك الرجل وصار محض عظام يكسوها الجلد والأنفاس، بيد أن صوته لآخر عمره كان عميقا وقوياً ونابضاً بالمشاعر والحياة. أصر أن يقرأ في تلك الليلة الشعرية رغم الوهن والضعف واقتراب الرحيل. حملناه ومعي صديق آخر إلى منبر الإلقاء في قاعة بغدادية شهيرة غصت بأحباب الشعر والأدب فعندما اقتربنا من المنصة سقط بدر فحملناه، وقلنا إلى المستشفى يا سياب فرد قائلاً بحدة عرف بها في مثل هذه المواقف: لا إلى المنبر وقفنا خلفه وسندناه وعندما نهض قال بصوت فيه كل لعنات الشعر عبر التاريخ وومضاته ( الآن بدأت خيانة الجسد ) وبعد عبارته مباشرة ضجت القاعة بالهتاف والتصفيق الذي استمر لأكثر من ربع ساعة من الزمان فكانت العبارة أصدق وأجمل قصيدة سمعتها في حياتي. عندما أكملت التقرير الأخباري الأخير عن سقوط الفاشر سقط بعض روحي وقلت مستجمعا نفس السياب القديم ( الآن بدأت خيانة الوطن ) وأخيرا أترك لك عزيزي القارئ المقارنة الممكنة والمستحيلة ما بين جدلية الجسد والوطن.