عاصفة شمسية "شديدة" تضرب الأرض    «زيارة غالية وخطوة عزيزة».. انتصار السيسي تستقبل حرم سلطان عُمان وترحب بها على أرض مصر – صور    تدني مستوى الحوار العام    مخرجو السينما المصرية    هل ينقل "الميثاق الوطني" قوى السودان من الخصومة إلى الاتفاق؟    د. ياسر يوسف إبراهيم يكتب: امنحوا الحرب فرصة في السودان    كلام مريم ما مفاجئ لناس متابعين الحاصل داخل حزب الأمة وفي قحت وتقدم وغيرهم    الأمن، وقانون جهاز المخابرات العامة    مرة اخري لأبناء البطانة بالمليشيا: أرفعوا ايديكم    تأخير مباراة صقور الجديان وجنوب السودان    أمجد فريد الطيب يكتب: اجتياح الفاشر في دارفور…الأسباب والمخاطر    الكابتن الهادي آدم في تصريحات مثيرة...هذه أبرز الصعوبات التي ستواجه الأحمر في تمهيدي الأبطال    شاهد بالصورة.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تشعل مواقع التواصل الاجتماعي بأزياء قصيرة ومثيرة من إحدى شوارع القاهرة والجمهور يطلق عليها لقب (كيم كارداشيان) السودان    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    من سلة غذاء إلى أرض محروقة.. خطر المجاعة يهدد السودانيين    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    تفشي حمى الضنك بالخرطوم بحري    بالصور.. معتز برشم يتوج بلقب تحدي الجاذبية للوثب العالي    المخدرات.. من الفراعنة حتى محمد صلاح!    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    لماذا لم يتدخل الVAR لحسم الهدف الجدلي لبايرن ميونخ؟    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    مكي المغربي: أفهم يا إبن الجزيرة العاق!    موريانيا خطوة مهمة في الطريق إلى المونديال،،    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلاقة بين الشمال والجنوب.. بين الصراع والتواصُل
نشر في حريات يوم 16 - 01 - 2011

في التاسع من يوليو (تموز) 2011، سيُعلنُ عن ميلاد دولة جنوب السودان، وليشهد التاريخ لأول مرة القطر الذي وحَّده الغازي التركي محمد علي باشا في 1821 وقد انشطر إلى بلدين، وإذ جاء التوحيد السياسي الأوَّل بإرادة أجنبية، فإن الانشطار اليوم قد جاء غالبه بما كسبت أيدي أبنائه، لا يتساوون جميعاً في الإثم ولم تخلو النتيجة التي نراها اليوم من تدخل الأجندة الأجنبية، ولكن للدول مصالح ولصراع الحضارات استراتيجيات تنفُذُ من تلقاء الفراغ الذي ينبسط من جرَّاء النزاع والفشل الداخلي.
وكما جاءت اتفاقية السلام الشامل نيفاشا المشهورة في 2005 بعد مخاض عسير وجبر شهير من الأجنبيين، كان في تاريخ السودان اتفاق قديم كريم بين العرب المسلمين الذين فتحوا مصر وبين النوبة في الممالك المسيحية التي حكمت السودان لأكثر من أربعة قرون، أتاح ذلك الاتفاق للعربية اللغة والإسلام الذي حمله الرعاة والتُجَّار والمتصوِّفة والعلماء، لا المجاهدين الفاتحين، أن ينشروا الإسلام في قرنٍ واحد ويغرسوا اللغة العربية ويحكموا تلك الربوع في ممالك إسلامية متفرِّقة خلفت المسيحية، ولكن في تدرُّجٍ وهدوء يشبه حال السودانيين الطيِّبين من عامة أهل السودان اليوم، وإن جنحت حكوماتهم ونخبتهم أحياناً كثيرة لغير ذلك الطبع مغرورة موهومة أن العنف يمكن أن يمكنها من عجزت عنه بالحكمة والموعظة الحسنة أو بالحرية والديمقراطية.
ولكن السودان غالبه سهلٌ منبسط – مثل أهله كذلك – لا تبرز في تضاريسه إلا جبالاً متباعدة وسلاسل راسيات في أقصى الشرق وعلى تخوم الغرب، بما أتاح لأقوامه التواصل والتمازج مهما اختلفت سحناتهم ولهجاتهم وثقافاتهم، أضحوا أسرة واحدة متى ما اجتمعوا، وقد تثور فيهم هائجة من خلق الأعراب الذين ذمَّهم القرءان لا العرب الذين تجري منهم نطفة في دماء غالب السودانيين استقرَّت في أرحام الأمهات الأفريقيات منذ العهد القديم، ولكنها قد ترتد جاهلية تُسعِّر أحياناً حرباً أهلية أو تصوِّب نحو الجار في الداخل الأفريقي على خطوط التمازج، كره الزعيم السوداني الراحل الدكتور جون قرنق أن يسميها "خطوط التماس“، لأنهم لا يتماسون من بعيد ولكنهم متى ساد السلام، وهو الحال الغالب، تمازجوا وتزاوجوا وتواشجوا بأشد الوشائج.
ذلك كان حال الرُحَّل من عرب المسيرية وبدو الرزيقات يمضون من الشمال إلى الجنوب بماشيتهم ينشدون الغثاء الأحوى في الشتاء حتى الحدود مع الدول الأفريقية ويعودون لمظاعنهم في الصيف، ذلك قبل أن يعرف السودان نمط الدولة الحديثة ولو الاستعمارية، وعبر الرحلة ولدى خواتمها عند الاستقرار تعارفوا وتزاوجوا وانصهروا، وظهرت قبائل هي محض هذا الخليط بين الأفارقة والعرب، على ذات النمط الذي ازداد فيه غالب أهل السودان. وإن تباغضوا أحياناً وتحاربوا عادوا وتسالموا وعقدوا المصالحات والمعاهدات، اشتهر من بينها ما كان بين "بابو نمر“ ناظر المسيرية والزعيم "دينق ماجوك“ ناظر دينكا نقوك، وإلى تلك المُسالمة تعود جذور المفارقة التي نشهدها اليوم عند الحديث عن العائق الأهم في العلاقة بين الدولتين الشمالية والجنوبية، أعني مشكلة "أبيي“، إذ أضحت الموادعة بين الأبوين المؤسِّسين أزمة لدى أجيالنا الحاضرة، وانكسفت نظرية المفكر السوداني فرانسيس دينق – ابن ذات الزعيم الذي أبرم العهد – نظرية جدل الهوية (dynamics of identification)، وقد كان يسوقه التفاؤل الذي أعقب توقيع اتفاق السلام في أديس أبابا في 1972، أن ما يجمع جنوب السودان وشماله كبير، أكبر مما يفرِّقه بكثير.
كما أفضت اتفاقية البُقط قديماً إلى نجاح العرب البادية في نشر العربية والإسلام، وانتهت نيفاشا اليوم إلى فشل التقسيم، أهدت إلينا علاقة التواصُل العربي الأفريقي الهوية المزدوجة التي كنا نفاخر بها ونرجوها مصدراً للثراء، ويتغنى بها شعراؤنا: «عربيٌ أنت لا.. من بلاد الزِّنج لا» (محمد عبدالحي).. «فكِّر معي ملوال، كذَّاب في هذا السودان من قال أنا العربي النقي» (صلاح أحمد إبرهيم).. «وكأن الطفل وُلد عند الشروق، وتمَّ ختانه وقت الضُّحى فصار للزواج بعد صلاة العصر» (الطيب صالح في بندر شاه).. «تطهِّرني من حيرة الشك غابة بها الحُبُّ جُرحٌ واضحٌ وحنين» (محمد المهدي المجذوب).. نعم، أهدت إلينا ثنائية الغابة والصحراء أذكى وأنبل مدارسنا في الإبداع الفكري والأدبي، قبل أن تجتاحنا غوائل العُنف والجهل.
والحق أن السودان عبر مدى الدولة الحديثة كاد أن يبلغ هوية جامعة موحِّدة، إذ امتدت سكك الحديد وشُقت بعض الطرق، والتقى السودانيون مهما تباينت أصولهم وتباعدت بلادهم في المدارس والجامعات وفي الخدمة المدنية وفي القوات المسلحة وفي الشرطة، وصارت لهم إذاعة وصحافة عابرة للأقاليم، ثم دفعتهم بلوى النزوح بسبب الحروب الأهلية والمجاعات والجفاف والتصحُّر ليتقاربوا قسراً، لكنهم تفوَّقوا على المحنة ومدوا خلالها أخلاق التكافُل والتراحُم والمودَّة الأصيلة في طباعهم، فالهوية كذلك المبسوطة المنفتحة فتحتهم دائماً حتى لاستقبال القادمين من الجوار الأفريقي قديماً في الهجرات التي تطلب الرزق أو تقصد الحج إلى بيت الله الحرام، بعضهم عبر وكثير منهم أقام حتى أصبح السودان في العقد الثمانين من القرن الماضي أكبر بلدٍ نسبة في إيواء اللاجئين في العالم، فلما أتوهُم أهلهم هاربين من الخوف والجوع آووهم من قريب. ورغم أن اسم بلادنا السودان منذ إبن خلدون ظلَّ اسماً لكل الحزام الأفريقي جنوب الصحراء وحتى أوان التحرير والاستقلال وإن لم يعجب الاسم الآباء المفكرون الكبار (جمال محمد أحمد، حسن الترابي، والطيب صالح) لأنهم رأوه لا يعبر عن هوية سواء لونٍ ففضَّلوا عليه أسماء "سنار“ أو "النيل“، وقد ظللنا نتشبَّثُ به ونُعرفُ به خاصة، وأظنه سيبقى كذلك إذا انفلقنا إلى بلدين.
إن الذين وقعوا نيفاشا ينتمون إلى حركة إسلامية، كانت تطبق في خاصة أجهزتها نمطاً من اللامركزية الواسعة وظلت تتطلع في أهدافها لتجعله نمطاً لحُكم السودان، كما كان حزبهم مثالاً للجماعة المدنية الحديثة التي لا تعرف عرقاً أو قبيلة سوى الهوية السودانية وأخلاق الإسلام. لكنهم إذ جعلوا الحرية سبباً لنزاعهم اجتاحوا فرعها في نظام الحكم اللامركزي الاتحادي، وخرقوا خاصة دستورهم الذي أقسموا عليه دستوراً لكل البلاد مهما ظلَّ غالب السودانيين يجهلونه. كما رفضوا أن ينتخب شعب الولاية واليها، كما هو رئيس الجمهورية، وحلوا البرلمان بين يدي إجازة قانون قسمة الموارد الذي يبسط الثروة عدلاً بين ولايات السودان مهما تكن محدودة، فأشعلوا من جديد نار فتنة المشاركة في السلطة والثروة، السبب الرئيس لحروب السودان الأهلية والعلة الأخطر التي أقعدت الدولة الوطنية منذ الاستقلال، إذ لم تنتبه للأطراف كما ينبغي وتابعت النمط الاستعماري بتركيز التنمية كلها في الوسط. ثم فتحت الإنقاذ خرقاً استعصى على الراتق قبيل توقيعهم لاتفاق السلام الشامل مع الجنوب، عندما ردوا على جانحة التمرُّد في دارفور بعنفٍ تجاوز بكثير كفَّ العدوان إلى المدنيين الأبرياء فخرَّبوا بيوتهم بأهليهم وأفسدوا ليلة حفلهم في نيفاشا.
وإذ كانت تلك هي مقدمات الوصال والسلام والتصالح الوطني الشامل الذي نصَّت عليه الاتفاقية في أول سطورها، فلا أجد أبلغ من وصف السيد عبدالعزيز الحلو، القيادي الشمالي في الحركة الشعبية: «إن نيفاشا طُبِّقت أشكالها وليس روحها»، يوافي الحكمة القديمة منذ عهد الرومان «إن الاتفاقيات والمعاهدات لا تنجح إلا إذا طُبِّقت بأفضل وجوهها». ورغم أن نيفاشا تنبئ من شدة تفاصيلها وصرامة جداولها الزمنية، تنبئ عن سوء ظن الطرف الأضعف فيها (الحركة الشعبية) وأزمة الثقة بينه وبين الطرف الأقوى (المؤتمر الوطني)، كما تنبئ عن خبرة المجتمع الدولي بنظام الإنقاذ الذي مثل في عشريته الثانية التجلي الأعظم للعنوان المثير "التمادي في نقض العهود والمواثيق“ الكتاب الذي خطه بنان السيد أبيل ألير السياسي الجنوبي الكبير والذي أشرف مؤخراً على أسوأ انتخابات في العالم جرت في أبريل من العام الماضي 2010 راضياً بزورها رافضاً للاستقالة مستسلما لنقض العهد الوطني حتى يضمن لقومه نجاةً من دولة الشمال، فلا سبيل للاستفتاء إلا بالانتخابات، ولو كانت محض زورٍ.
لكن ثنائية نيفاشا عبر التفاوض المتطاول، وعند التوقيع بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، ثم تفاصيلها المفصَّلة على الأوقات لم تعوِّض عن فقدان طرفها الأكبر للإيمان بروحها والمبادرة إلى سدِّ عيوبها وأكبرها التزام لوح حقوق الإنسان، فتنازعوا منذ أول يوم حول وزارة النفط، ثم على كل شيء بعد ذلك، فشهدنا غياباً دائماً للنائب الأول رئيس الحركة الشعبية عن الخرطوم منكفئاً نحو الجنوب، ثم تشاحُناً داخلياً بين وزراء الحركة الذين احتواهم المؤتمر الوطني والأوفياء لبرنامج قائدها الراحل، وأخيراً انسحاباً كاملاً لوزراء الحركة من حكومة الوحدة الوطنية ثم عودتهم واختلافهم مع المؤتمر الوطني بعد مخادعتهم على قانون الاستفتاء والمخاتلة على جداوله الزمنية، فعادة "حليمة“ المؤتمر الوطني إلى عادتها القديمة "فرِّق تسُد“، ولو تعبئة للقبائل والسلاطين بالسلاح والمال لتخريب وحدة الجنوب الداخلية، أو الحرب بين القوات المشتركة التي كتبوها في الاتفاقية نواة للجيش الوطني في دولة الوحدة المُرتجاة، فخرَّبوا منطقة أبيي، أرض الميعاد الوحدوي ومثاله للتمازُج والانصهار لتكون منذئذٍ بذرة الحرب المقبلة.
إنَّ أصول مشكلات السودان واحدة كما خاطبتها نيفاشا، بسط السلطة والثروة، ولكني أقول إن في السودان اليوم قضية واحدة، هي: الحرية.. إذا صانتها الحركة الشعبية في الجنوب ضمنت سلامه واستقراره وكسبت كل أهل الشمال في مناطق التمازج والتخوم، وانحازت إليها البقية لا سيما إذا اشتدَّ عليها عسف المؤتمر الوطني وقام الجنوب قدوة للمجتمع الأفريقي الديمقراطي لا الدولة المستبدة الفاشلة. أما في الشمال فقد تطهَّرت غالب القوى السياسية من أملٍ في صدق المؤتمر الوطني أو توهُّمٍ في أن يجنح إلى السِلم ويعترف بالآخرين، فإن انفصال الجنوب واستقلاله الوشيك يوشك أن يوقظ الشمال اليوم على كابوسٍ مفزعٍ لن يلبث حتى يُفضي إلى خيبة عظيمة تحرِّر الناس من الخوف متوكلين إلى الثورة. ثم قد تشتد الحرب في دارفور بعد تفاحُش المطل الحكومي أمام المطالب العادلة لأهله وانسحاب مفاوضهم من منبر الحوار المعترف فيه دولياً. وباستقلال الجنوب تنحسر دخول البترول إلى نحو 20% عند نهاية الأشهر السِت المقبلة، ليواجه الاقتصاد الإفلاس، وقد غلُظت النُذُر منذ الآن في غلاءٍ فاحش ومعيشة ضنكاً. وقد تزيد وطأة المضاغطة الدولية إذا اطمأنَّ الغرب إلى تمام مشروعه في فصل الجنوب، ويتأثر باضطراب السودان إقليمه كله من حوله لا سيما الجارة الجنوبية الوليدة.
لقد مضت سيرة المؤتمر الوطني الحزب الحاكم منذ اتفاقية نيفاشا تغلِّب الصراع على الوصال، لم تجهد لتجعل الوحدة جاذبة بل تبنَّت صحفاً تصدُرُ كل صباح في الخرطوم تدعو إلى الانفصال، وإذ امتدَّت بالطرق المرصوفة من الشمال إلى الجنوب لم يمتد كيلومتر واحد من الجنوب إلى الشمال يحمل الناس والمتاع ويقوِّي الوشائج والصلات، حتى إذا بقي شهرٌ واحد قاموا بتخبَّطون من مسِّ الانفصال الماثل القريب، فأعلنوا أنهم سيرحلون من مكاتبهم إلى الجنوب ثم دعوا الشركات والتجَّار لتمدَّ الطُرُق فيما يشبه "الرشوة“ لا "التنمية“، ثم لمَّا تبيَّن خيبة المسعى الأخير لجأوا إلى ما يُحسنون، إشعال الحروب ومدِّها بالوقود، وأخيراً لجأوا إلى الحِيَل الدستورية والقانونية لتعطيل الاستفتاء، حتى إذا رُفعت عصا الأجنبي غليظة وتلاشت الجزرة أذعنوا مسلِّمين بقرار الاستقلال.
لقد ارتدَّت تلك المسيرة نحو الهوية الجامعة المُوحَّّدة التي وصفتُ في أوَّل هذه الورقة نحو جهويَّات وقبليَّات وعصبيَّات كدنا أن نشفى من سلبياتها الثقافية نحو العقد الثمانين من القرن الماضي، ولكنها عادت شاخصة في العشرين عاماً الأخيرة لتشوِّه مطلع الألفية الجديدة وتضع الطلائع المستنيرة من جديد أمام تحدِّي العودة إلى منصَّة التأسيس، ليبحثوا من جديد في العوامل التي توحِّد هذا الشعب الكبير، فمهما اشتدَّت وطأة الواقع فإن غالب قوى السودان السياسية والفكرية الحية قد بلغت النُضج تنشُدُ فجراً للحرية قريب، يستثمر وعيها لحقائق التاريخ والجغرافيا لتنمية العناصر الموجبة والأفكار الحية ومحاربة العناصر السالبة والميِّتة، فما شهده تاريخ السودان منذ الاستقلال من اضطراب هو نتيجة لما نحمله من أفكار خاطئة.
أما في المحيط الأوسع فإن انفصال الجنوب هو كذلك تعبير عن فشلٍ أكيد، كما جاء في الإشارة الذكية للمفكر الفلسطيني الدكتور عزمي بشارة، إذ رأى فيه نذير شؤمٍ لفُقدان العالم العربي لأطرافه تمهيداً لتجزئته. فالأطراف والحواشي هي التي ترفض المركز بالتنوُّع والثراء وفقاً لنظرية المفكر الفرنسي جاك بورديل في كتابه "هوية فرنسا“، ففي الشرق من بلاده تقوم الألزاس تتاخم حدود ألمانيا وتُكامِلها ثقافة واقتصاداً، وإلى الجنوب الفرنسي تجد الثقافة المتوسِّطية التي تشاطئ الشرق العربي وتبادله أخذاً وعطاءً، أما الشمال فتسميه سويسرا "فرنسا الجارة“ تميِّزه بذلك عن كل أجزاء فرنسا، فمن كل ذلك نسجت الهوية الفرنسية ثقافتها واتجاهها وتميُّزها في العالم، وقد كان الأجدى بالعرب وأديانهم الإنسانية العالمية أن يستوعبوا أطرفهم نحو الجنوب الأفريقي، مرحِّبين لا منفِّرين بالإهمال العامد أو الانحياز الظالم.
كان مشروع الحركة الشعبية لتحرير السودان الذي ظلَّ يعبِّر عنه زعيمها الراحل ومفكرها الرئيس الدكتور جون قرنق هو "السودان الجديد“ الذي ينتصر لكل أهل الهوامش في الجنوب والشمال والشرق والغرب، فرغم أن التمرُّد الجنوبي الأوَّل قد خطَّ طريق الحركات الانفصالية التي يقودها الوطنيون الجنوبيون، فإن الثورة الثانية في الجنوب قد تخلَّت تماماً عن كل دعوة للانفصال لصالح سودانٍ موحَّد مؤسَّس على العدالة لكلِّ شعوبه. وإذ عادت ذات الحركة اليوم لتُحلَّ فكرة الاستقلال محلَّ السودان الجديد، بما يعني فشلاً للعلاقة بين الشمال والجنوب، مهما يكُن مرعباً اليوم لكنه لا يقضي على بذور الأمل في تلك الأفكار الكبيرة عند التأسيس، لأنها المشروع الأنسب في المستقبل فالعالم كله يؤوب من الحدود نحو الانفتاح دون تأشيرات على سوقٍ واحدة وعملة مشتركة وبرلمانٍ تصدُرُ تشريعاته ملزمة تعلو القوانين الوطنية.
ولئن بدا الجنوب اليوم أقرب إلى جواره في شرق أفريقيا، فإن تجربة أخرى ماثلة قريبة هي "اتفاقية الخرطوم للسلام“ في العام 1997، عندما جنح نحو السلام ثلة من قادة الحركة الشعبية انشقوا على قائدها وخطها الرئيس ليتبنوا الانفصال عقيدة لمشروعهم الجديد، ولكنهم بعد تجربة قصيرة في الشمال أفصح أغلبهم عن عودتهم إلى فكرة السودان الواحد، فقد اختبروا وجدانهم ووجدوه أقرب إلى ثقافة الشمال وفنه وعاداته، جُلهم ممَّن يعتنق المسيحية منذ مدارسهم الكنسية، ولكن التزام قادة ثورة الإنقاذ يومئذٍ بروح الاتفاق لا نصِّه وشكله فقط أحيا فيهم روح الوطن المتكامل رغم تجربة طويلة في الحرب والصِّراع.
إن دواعي الصِّراع التي خلَّفتها نيفاشا اليوم تبدو كثيفة خطيرة (أبيي، الحدود، الديون، الجنسية) وقد تواترت حولها تعبيرات من بعض قادة الإنقاذ حادة منكرة شاذة عن طبيعة الشعب المنفتح المتسامح، وإذ ما تزال عصا الأجنبي مرفوعة تراقب من يحيد عن جادة التبعية إلى الحرب والعنف تمنعها قبل أن تقع، فإن الدعوة المتنامية اليوم للحرية والعدالة والوعي المتكثف بحقوق الإنسان ستفتح أبواب الحوار بين شقي الوطن المتباين اليوم في قطرين، ولتزيل التناقض الرئيس بين السلطة والمجتمع وليس بين الشعبين، في غدٍ قريب يجمع ويوحِّد يرجوه شعب السودان وتسعى نحوه أجياله الجديدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.