المحبوب … كانت إتفاقية السلام الشامل نيفاشا في العام 2005عميقة بسيطة في جوهرها لكنها معقدة مفصلة في بنودها. أرادت أن تعيد تأسيس دولة السودان على عقد جديد يبدأ من رأس الدولة فيبدله، من رئيس مطلق السلطات ليضع إلى جانبه شريك وليس بفرع كما عهدت جملة تجارب السودان، إذ مضى النواب بلا سلطة إلا مستمدة من الرئيس تفويضاً وليس أصالةً إلا إذا استقال الرئيس أو مات. ثم تتنزل نيفاشا من الرأس حتى قانون الأرض والحدود فتبدله كذلك، ثم تقيم إقليماً له رئيس يبسط مستوى للسلطة فوق الولاية، التي لا يعرف النمط الفيدرالي غيرها. أما وثيقة الحقوق والحريات الأساسية فهي التفكيك السلس لدولة الإنقاذ الشمولية التي أرادت أن تنزلها على سلالم أنيقة، ثم هي –نيفاشا- تضع في أول بنودها (أن على الشريكين أن يقودا مبادرة للمصالحة الوطنية الشاملة.) النكوص العامد عن جوهر نيفاشا وروحها الحق هو الذي وسم مسارها وخلف اليوم الواقع المفعم بالنذر والخطر، والذي فصل الجنوب ووضع السودان على حافة التمزق بعد أن كان بطل الإتفاق يعلن أنه يريد أن يضع السودان عبر نيفاشاعلى حافة الوحدة والسلام (Brink of Peace & Unity). تولت تنفيذ نيفاشا حكومة غالب وزرائها من المؤتمر الوطني وربعها من الحركة الشعبية، لكن الذي غلب على الوجوه من الوطني هم أعداء الإتفاقية ومن الحركة الشعبية جاء أعداء جون قرنق، وغاب عن الوزراة الذين سلخوا عامين من الجانبين يناضلون في إقرار بنودها. لم تؤسس نيفاشا على تقوى من أول يوم، فالقوانين لم تعدل لا سيما قانون العماد أساس حكم الإنقاذ، قانون جهاز الأمن، ففيما نصت الإتفاقية بوضوح على أن مهمة الجهاز هي الرصد والمتابعة واصل الجهاز ضلاله القديم، لم يبصر في أضواء نيفاشا هدىً أو دوراً جديداً حتى أعتقل الأمين العام للحركة الشريكة ووزير الدولة بالداخلية، أما عن المعارضين فحدث ولا حرج فهم في اعتقال مستمر وتعبيرهم مكبوت وندواتهم ممنوعة حتى بأذن. لم يسلم السودان لإستقرار وسلام كما بشرت نيفاشا بل تعاوره الشريكان في تشاكس لا يهدأ، خاصمت الحركة وزير الخارجية الذي ملأ المقعد بقرارها ورفضت عملية التعداد السكاني وهو بند رئيس لإستقامة تطبيق الإتفاقية و إختلفت حول أبيي أولاَ و ثانياَ و ثالثاَ، ثم جمدت عضويتها في الحكومة و في المجلس التشريعي كله لأشهر و غاب وزرائها في الجنوب, و إجترح السودانيون لزعيمها اسماَ يسخر و لكنه يعبر فهو الغائب الأول و ليس النائب الأول. كما أن جبهة الحرب لم تهدأ فقد طفق المؤتمر الوطني يوالي المسعى القديم للمخابرات العسكرية بتسليح المليشيات التي كانت تسمى القوات الصديقة, فأشعل الحرب على الحركة الشعبية في الجنوب في غير ما جبهة, و بلغت الذروة بالحريق الأول في أبيي و بذر في الأرض نواة الحرب القادمة بين البلدين المتجاورين عبر حدود طويلة تمتد لألفي كيلومتر في حريق أبيي الثاني، الذي نشتم روائح نيرانه الأن في أشلاء البشر و بيوتهم. كما اضطربت نيفاشا بالسلام وضيقت على الحرية وأخلت بالحكم المركزي أصابت الإقتصاد السوداني في مقتل، فقد استحلب الشريكان البترول حتى شارف النضوب، واصل المؤتمر الوطني فساده التليد الذي زكم الأنوف وترعرعت في الجنوب ملامح دولة إفريقية فاسدة جديدة تشبه أخواتها، فيما جفت موارد الزراعة إحتياط السودان الأهم وتلاشت صادراتها، وانحسرت الثروة الحيوانية، وتضاعف البذل للأمن من خطر الشريك الجديد وبلع الجيش فوائض ما بعد الفساد. أخيراً الإنتخابات التي وضعتها نصوص نيفاشا في منتصف الفترة الإنتقالية لحكمة لا نعلمها إلا حاجة في نفس علي وقرنق لم يقضياها، فكانت مهزلة الختام، فقد أذهب الخوف من كل صيحة بقية حكمة كنا نتوخاها في قادة المؤتمر الوطني، وحسم مقاعد البرلمان كافة له يجاوز التزوير إلى التبديل ويغلق الأفق، إذ كيف يزاول الناس السياسة إذ أخرجتهم من البرلمان. أخيراً جداً الإستفتاء الذي عبرت نتائجه شر تعبير عن حصاد مزرعة نيفاشا، كل شعب الجنوب يقول لقادة المؤتمر الوطني أن شعار الوحدة الجاذبة كان مخادعة لم تنطل علينا، وإن إنطلى عليكم أننا منذ البداية كنا نتطلع لوطن جديد. بنهاية نيفاشا كانت اخلاق السياسة القويمة و أعرافها تحتم على المؤتمر الوطني أن يقر بهزيمته في إدارة الحكم مع شريك واحد فضلاً عن إدارة التعدد في بلد كثيف التنوع معقد السياسة، وأن يستقيل رئيسه وحكومته، وأن يدعو لتأسيس جديد عبر فترة إنتقالية تديرها حكومة إنتقالية. ولكنه تحسب لهمه الأوحد الإستمرار في الحكم مهما تكن الحقائق والوقائع على الأرض لا تسمح بذلك، على السنة السيئة لعلي عبد الله صالح وبشار الأسد ومعمر القذافي، أنا أو الطوفان، فوضع في الدستور الإنتقالي بنداً يضمن استمراره، ولم يعد للسودان والسودانيين إلا أن يتأملوا مليّا ًفي العبارة القديمة لجون قرنق (هذا النظام لا يمكن تقويمه ولا بد من تبديله)..(You can not improve the default, you have to remove it) فالتحدي الأول الذي أشارت إليه وثيقة أديس أبابا لقضايا ما بعد إستقلال الجنوب وهو قيام دولتين قابلتين للحياة (Two Viable States) تكونان مستوعبتين لكافة قوى السياسة والمجتمع (Inclusive) يبدو بعيد المنال، وتطاولت الأزمتين الماثلتين، ازمة الحزب الحاكم وأزمة المعارضة. فالمؤتمر الوطني تقوم عليه قيادة مرهقة تسمرت في الكراسي لأثنتين وعشرين سنة وهي اليوم مقطوعة عن كل مدود طاقة الخيال الذي يقترح الحلول للمشكلات وينظر للمستقبل، وهي كذلك موضوع لسنة أخرى من سنن السياسة والمجتمع، فالذي يصفد شياطين إبتلاء الحرية التى ينتصر عليها المؤمنين بمزيد من الحرية تقوم في داخله شياطين الخلاف، كما نشهد اليوم في نزق رئيس النظام وتساقط هبلاته المهمة وتشاكس رموزه الأكبر وأنزواء نائبه الأول بطل نيفاشا ثم جموده. فخلاصة أزمة المؤتمر الوطني هي أفتقاره لمؤسسة القيادة المتكاملة التي تبدع الرؤى وتفصل البرامج ثم تصدر القرار القويم. المعارضة- كذلك- مرهقة إذ ظل يتوالى عليها عسف النظام وتتنزل عليها مكائده لتمزيقها، وقد استطال الزمن بغالب قادتها لا يجدون فسحة للحرية يكتمل فيها تبادل الأجيال للقيادة و مناصبها. وإذ أن غالب نصوص إتفاقياتها مع النظام ظلت نصوصاً معطلة بغير نفاذ وأنتهت مع الإنتخابات إتفاقيات القاهرة وأسمرا وأبوجا، فإن حلم الإمام الصادق المهدي بتراضي وطني شامل ظل حلماً بغير تعبير. التحدي الثاني هو العلاقة مع الشريك القديم في الشمال ودولته الجديدة في الجنوب، فكما بدأت حرب الشمال القديم مع الجنوب القديم في توريت وشيكاً قبل الإستقلال في العام (1955)، فقد بدأت حرب الجنوب الجديد مع الشمال قريباً من تمام إستقلال الجنوب في أبيي ثم امتدت بعد الإنتخابات في جنوب كردفان، التي مثلت آخر فصول العلاقة المأزومة بين الشريكين المتشاكسين وانتهت بالحرب المشتعلة وما تزال إلى أوان تقديم هذه الورقة بين أيديكم. أما النيل الأزرق في الجنوب الشرقي فهو على حافة الحرب خاصة بعد ان حاول بعض رموز النظام جره إلى حافة السلام في إتفاقية أديس أبابا الأسبوع الماضي، فأبى الرئيس إلا أن يعيده إلى اتون الحرب تعاضده أصوات في المؤتمر الوطني ظلت تدعو كل صباح إلى فصل الجنوب وتفرح بتمزيق الوطن بقدر ما تجهل بدائه حسن السياسة وأصول منطق العلاقات الدولية. تطرح الحدود بين الشمال والجنوب كذلك تحدياً مهماً فهي تغدو لأول مرة حدوداً دولية وقد كانت ثير المشاكل حتى وهي ولايات داخل بلد واحد. ذلك أنها طويلة أطول مما يعهد بين الدول عادة إلا في حالات محدودة, لكنها كذلك حدود تداخل وتمازج وحركة هي بالنسبة للقاطنين شمالها رحلة حياة لهم ولمصدر ثروتهم الرئيس “الحيوان”، ولو أن فراق الشمال والجنوب وفصالهما كان بإحسان لطبقت فكرة الحدود المرنة التي لا تفرض التأشيرات ولا تضع الحواجز، إذ العالم كله اليوم يتداخل ليتوحد بغير حدود مانعة، بل إن روح نيافاشا لو سرت في حدها الأدنى لما أضحت الحدود أزمة، ولما طردت الدولة مواطنيها في الأمس القريب ونبذتهم غرباء، بل منحتهم الجنسية المزدوجة عن طيب نفس كما هو كذلك عرف العالم المتقدم نحو الإنسانية الواحدة، دون الفسالة التي دفعت وزير الوطني للكلمة الجاهلة أن لن تجدوا أمبولة تشفى العلة البسيطة فضلاً أن تفتح للجنوبيين المستشفيات كما تبسط لهم المدارس. الإقتصاد كذلك تحدي بالغ يقتضي تدبيرا وخطةً لم تعد معهودة في السياسات المرتجلة للمؤتمر الوطني، وإذ ظل رئيس الجنوب ووزير الطاقة فيه يؤكدان انهما حريصان ألا يجوع الشمال ولا يعرى إذا إنهار إقتصاده بخروج 70% من دخله الداخل من البترول، وتفرغ خزينته العامة من العملة الصعبة، وقد بدأت أسعار السلع فيه تزداد متصاعدة في جنون، فإن السياسة الإنقاذية التي تدير الحكومة بالعقلية الأمنية لا السياسية فضلاً عن الفكرية الإستراتيجية ظلت تقطع الطريق على السلع التي تمول الجنوب منذ أول التجارة في الدولة الحديثة. ليس أمام الجنوب إذن أمام التصرفات الصغيرة إلا أن يعمد إلى التحولات الكبيرة، فيتجه جنوباً نحو شرق أفريقيا فينقطع شمال السودان عن الجسر نحو أفريقيا ويقطع مصر والعالم العربي. التحدي الأخير هو أن الأقاليم المتأزمة في الشرق والغرب لا سيما دارفور التي ظلت تراوح مكانها يفسد المؤتمر الوطني الحل ويقطع الطريق كلما أستقام كأنما يحارب نفسه، فمنذ فبراير 2010 إستشرفت دارفور الحل واستبشر السودانيون, سوى أن المؤتمر الوطني نكص على عقبيه ونقض غزله ولما يبلغ تمامه سوى إتفاق إطارئ، في فشل وفضيحة ومعاناة لمساكين قصفوا بالطائرات واغتصبت نساءهم إغتصاباً ممنهجاً وحرقت بيوتهم، ثم بدل العدالة عنصرية بغيضة لم يعهدها السودان من نظام ينافق بشعار الإسلام ويزعم أن له مشروعاً يبعث مجد الخلافة الراشدة وشرعها الرحيم. كل تلك التحديات تمثل مادة لعلاقة العالم مع السودان، بل موضوعاً لمزيد من التدخل و الضغوط، فبالأمس القريب رضي نظام المؤتمر الوطني بدخول آلاف الجنود الأجنبيين من أثيوبيا وفق البند السابع، مع خريطة طريق بشر بها مبعوث الرئيس الأمريكي للسودان، كما سينتشر آلافاً من جنود الأممالمتحدةجنوباً مباشرة مع حدود الدولة الجديدة. لقد تأخر ربيع الحرية السودانية عن الربيع العربي ولكن كل تلك الملامح والتحديات تؤهله للإنفجار قريباً، بما لا يشبه الحالة المصرية والتونسية بل ما يقرب من الحالة اليمنية أو الليبية أو السورية، فالمجتمعات هي التي تختلف ولكن الأنظمة العربية واحدة أشباه عواديها، لا يجدي معها كافة إلا ذات الشعار (الشعب يريد إسقاط النظام).