فايز الشيخ السليك.. [email protected] حينما رسم القائد فاقان أموم خطته على تربيزة الرمل وأصدر تعليماته لقادته الميدانيين باقتحام مدينة كسلا في أكتوبر 2002، كان القتال سجالاً بين قوات النظام وقوات الحركة الشعبية لتحرير السودان، في الإستوائية وفي شرق البلاد، وقد تملك الفرح الكبير المقاتلون المهيأون للمشاركة في عملية الاقتحام تلك ؛ وكانوا يتمتعون بروح معنوية عالية بعد انتصارات كبيرة ، وخاطفة كانوا قد حققوها في مناطق همشكوريب ورساي، وأذكر أنني كنت في تلك المناطق خلال رحلة صحفية قصيرة، استقبلنا فيها المقاتون، وطافوا بنا داخل مناطق سيطرتهم، ووقفنا على الآليات التي غنموها، وكا ن من بينها ” الدبابة البشير 1″ ، وبعد أن أكدت لهم المعلومات الاستخبارية ضعف قوة وعتاد القوات المرابطة حول المدينة في الحاميات الخارجية ، بسبب نقل معظم القوات الحكومية للمشاركة في عملية استرداد مدينة توريت في شرق الإستوائية ، إلا أن المقاتلين أنفسهم سرعان ما أصيبوا بالاحباط، بعد أن أصدر القادة الميدانيون تعليمات أخرى لهم بالرجوع إلى الخلف، بدلاً عن التقدم إلى كسلا، فسرت همهمات مع غموض في الموقف، ثم تضح الحقيقة بعد ذلك، وهي أن الولاياتالمتحدةالأمريكية نقلت للدكتور جون قرنق أنها رصدت تحركات القوات وتوجهها نحو المدينة، محذرةً في ذات الوقت من مغبة اقتحام قوات الحركة الشعبية لمدينة كسلا، باعتبار أن ذلك يعد انهياراً كاملا لعملية السلام التي كانت تجرى مفاوضاتها في كينيا برعاية الهيئة الحكومية لدول شرق أفريقيا للتنمية ومكافحة الجفاف، (إيقاد). وقبل يومين أعلن المشير عمر البشير في مؤتمر صحفي في مدينة جوبا في ختام زيارته للدولة الوليدة، والتي كان هو رئيساً لشعبها قبل اعلان استقلاله في عام 2011، ” أن الولاياتالمتحدة الأميركية وبريطانيا أبلغتاه الشهر الماضي بوجود حشود من قوات الجبهة الثورية المعارضة لنظامه، التي تضم الحركة الشعبية قطاع الشمال وحركات العدل والمساواة وتحرير السودان فصيلي مني اركو مناوي وعبد الواحد محمد نور، وقال إن حشود الجبهة الثورية كان هدفها الهجوم على هجليج، وإنه أبلغ نظيره سلفا كير بذلك عبر الهاتف، وأضاف: «لقد حذرني الأميركان والبريطانيون من ذلك الهجوم الوشيك على هجيلج، وتحدثت مع سلفا هاتفيا وتم تجميد الهجوم». والخبران ، أو الحدثان يشكلان حلقة ضمن حلقات كثيرة مترابطة ، وتساهم في تشكيل تطورات الأوضاع في السودان، فالحركة الشعبية حين خططت لاقتحام مدينة كسلا في عام 2002، كانت تريد تغيير خلق ظروف جديدة في البلاد، وفرض واقع جديد، إلا أن واشنطن أعربت عن قلقها من تلك التحركات لأنها ستقود في نهاية المطاف إلى نسف كل العملية السلمية التي كانت تمضي بتعثر في كينيا برعاية (إيقاد)، وهو ما لا تسمح به أمريكا، التي بذلت مجهودات من أجل نجاح تلك العملية، فيما كان يمكن أن يقود هجوم قوات الجبهة الثورية على هجليج إلى تطور نوعي في عمل المعارضة المسلحة، ومحاصرة النظام من كل الجهات، إلا أن واشنطن ذاتها تأبى ذلك !. وسؤالنا هو لماذا ترفض الولاياتالمتحدةالأمريكية التصعيد الحربي ضد الخرطوم، بل وتتدخل في لحظات حاسمة، ومفصلية لصالح النظام الحاكم في الخرطوم؟، ولماذا تتلخص حرب الخرطوم لواشتطن في شعارات ”أمريكا التي دنا عذابها، ويا الأمريكان الليكم تسلحنا بالأغنيات الحماسية، والخطب الطنانة، والعنتريات التي لا تقتل ناموسة، ؟ وما علاقة ذلك بما نسمعه عن هندسة الشرق الأوسط على أسس جديدة، يلعب خلالها الإسلام السياسي في خانة رأس الحربة، ليقوم بقيادة الدول التي شهدت أو يفترض أن تشهد رياح الربيع والتغيير ، مثلما حصل في ليبيا ومصر وتونس، والآن سوريا ؟، وفي السودان أيضاً تؤكد التقارير أن الغرف المغلقة تشهد عملية تشكيل واقع جديد، مع أنه لن يكون مغايراً للواقع في كثير من التفاصيل، بل قد يضخ دماء جديدة في شرايين المشروع الحضاري الإسلامي، مع تغيرات شكلية، وفتح هامش للحريات ، يكون مكبلاً بذات القوانين، وبعض العقليات القديمة، وفق خطة ” هبوط ناعم لللإنقاذ” ، يكون فيه لللإسلاميين بما فيهم المعتقلون دوراً مهماً.! ومثل هذه الخطوات تؤكد فرضيتنا القائلة أن السياسة الأمريكية مع نظام الإٌنقاذ تقوم على ” سياسة الإحتواء ” بمعني استمرار الهجوم على النظام مع الضغط عليه اقتصاديا بفرض عقوبات ، والاستمرار في العمل المخابراتي والذي وصل قمته في عام 2001، بعد أحداث سبتمبر وتقديم البشير فروض الولاء والطاعة للنظام العالمي الجديد، والتعاون مع الولاياتالمتحدةالأمريكية في ملف مكافحة الإرهاب بتقديم المعلومات عن الجماعات المتطرفة، وحساباتهم المالية، ومخططاتهم، بل وتسليم بعضهم كلما طلبت الأجهزة المخابراتية ذلك، ويكفي أن مصطفى عثمان اسماعيل كان قد أكد أن الخرطوم هي “أذان وعيون واشنطن في المنطقة” وذلك بالتعاون مع المخابرات الأمريكية في حرب العراق وافغانستان والصومال، وهو تعاون يكتسب أهميته من وجود نظام إسلامي يحمل ” أجندة متطرفة ” على سبيل الدعاية وللخطاب الداخلي عن طريق القمع باسم الدين، وقهر الناس وتغييبهم وتزييف الحقائق عن طريق شعارات إسلامية، وبالتالي فإن الخطر الخارجي يقل كلما زاد الضغط عليه، أو تم التلويح له عن طريق الجزرة والعصا، وكلما أرادت أمريكا الحصول على مكسب، وقد رأينا ذلك منذ حرب الاهارب بعد سبتمبر والتلويح برفع اسم السودان عن القائمة السوداء، ورفع العقوبات عليه، ثم جاء موضوع مفاوضات الجنوب، وربط رفع الإسم ذو الحضور الدائم من القائمة المعروفة بتحقيق السلام في مفاوضات نيفاشا، ثم جاءت دارفور، ثم استفتاء الجنوب، والسماح لاجراء الاستفتاء والإعتراف بالنتيجة، في مقابل قبول مبعوث الرئيس الأمريكي للسودان قرشن بنتيجة “انتخابات لا ترتقي إلى مستوى المعايير الدولية، والحديث عن انتخابات ” ذات مصداقية” بدلاً عن الحديث عن انتخابات حرة ونزيهة، وقد كان قريشن يسوق لفكرة ” أن البشير هو خيار الشمال الوحيد، وكرر ذلك في جل اجتماعاته مع المعارضين السودانيين بقوله ” هناك معادلة طرفها في الجنوب هو الفريق أول سلفاكير ميارديت، فهل لكم طرف آخر في الشمال ؟ . وقبل أن يجيبه القوم يرد هو بنفسه ” هو البشير لا غيره “. وبعد نجاح الإستفتاء انتقلنا للتصعيد الأخير ، والمناوشات الكلامية والعسكرية، وكان دور أمريكا هو التوسط لوقف كل ذلك، ثم وقف الحرب بين الشمال والجنوب وضغط جوبا لتوقيع اتفاق مع الخرطوم للسماح بتدفق النفط عبر الموانئ والأنابيب الشمالية، ووقف أي دعم للحركة الشعبية لتحرير السودان ، وهو ما كشفه البشير بأن واشنطن ملكتهم المعلومات حول تحركات الجبهة الثورية السودانية، وما طالب به أوباما شخصياً خلال زيارة للفريق سلفاكير ميارديت للولايات المتحدةالأمريكية، والعمل على محاصرته بالصور والمعلومات، وهو ما أغضب سلفاكير خلال لقائه أوباما . لأن الموقف الأمريكي لا يخفي انحيازه للخرطوم، ولا يكل عن فرض ضغوطه على جوبا لتجريدها من كل اوراق ضغطها، أو حتى تجريمها بدعمها لقوات الحركة الشعبية في الشمال. ورغم ذلك نسمع كل يوم أخبار عن قيادات تهرول نحو البيت الأبيض الأمريكي على أمل كسب ود ورضاء الدولة الكبيرة، وعلى أمل أن تقتنع بالأجندة الديمقراطية التي يحملونها، لكن واشنطن تؤكد أنها لا تريد اسقاط نظام البشير، وليس بالضرورة أن تريد ، لكنها لا تدعم هذا الإتجاه، أو ربما لا تقبله من حيث المبدأ، لأنه أفضل نظام يحقق لها ما تريد، ويكفيها شر ملاحقة الإرهابيين الذي يرفعون شعارات العداء للغرب، ويعبأون بها آلاف الشباب ليكونوا هم أول ضحايا التطرف، وأن واشنطن تريد نظاماً ضعيفاً، يخشى من العصا، وفي ذات الوقت يسيل لعابه عند التلويح له بأي جزرة، وبالتالي تقديم كل التنازلات قبل بداية الحوارات. وليس من عاقل يمكن أن يلوم الولاياتالمتحدة على سياساتها لأنها تقوم على مصالح المواطن الأمريكي، وحمايته من التطرف ومن العنف ، وأن الخطوط الدفاعية للولايات المتحدة لم تعد في داخلها، بل على مساقة عشرات الآلاف من الأميال، حيث بحار بعيدة، وسماوات مفتوحة، وأرض تنبت فيها بذور التطرف بسهولة، ولهذا فإن الأفضل لأي صانع قرار يفكر في مصالح بلاده هو التركيز على الأرض التي تنبت فيها تلك الخلايا قبل أن تركز على أمنها من الداخل، لأن من هناك تعرف حجم الخطر، بعد تقييمه، ومن ثم السيطرة عليه، قبل أن ينمو ويتدحرج كتلة نار مثلما حصل في أحداث سبتمبر 2001، أو بضرب مصالح أمريكية في الخارج بما في ذلك المؤسسات والبعثات الدبلوماسية مثلما حصل في ليبيا العام الماضي، وكان البعض يظن ان حادثة مقتل السفير الأمريكي في طرابلس ربما تدعو إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لأعادة النظر في سياساتها القديمة، ونظرية ” الأحتواء التي تتعامل بها مع الحركات الإسلامية في المنطقة. وفي ذات الوقت تبرر واشنطن للقادة السياسيين موقفها السلبي من ” اسقاط نظام البشير ” بمخاوفها من انفراط عقد الأمن وانهيار الدولة السودانية، لأن المعارضين أضعف من الحكومة، ومع أقراري بحالة ” توازن الضعف هذي” والمتمثلة في تخبط النظام الحاكم، وتيه القوى المعارضة التي هي أقرب إلى الميت من الحي، إلا أن استمرار النظام هو الخطر نفسه، لأنه سيقود إلى حالة ” الشد من الأطراف ” فذهب الجنوب، لينفرط العقد ، وتتناثر حباته بعيداً بعيدا، بعد أن فضح استقلال الجنوب هشاشة الدولة السودانية ، لافتقادها لهوية جامعة، ومشروع دولة وطنية، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لخروج أجزاء أخرى من هذا الكيان الهش، وبالتالي تقسيم السودان إلى دويلات، تتخذ من القبيلة متكأ، ومن العرق غذاءً، وليس ببعيد أن يتقسم السودان إلى خمس دويلات، أو يعيش حالة من الفوضى توصله مرحلة تشظي محتملة، ويراها كثيرون قريبة، وإن حسبها البعض بعيدة، وفي هذه الحالة ستدفع دول الجوار ثمن تواطؤها مع النظام، أو دفن رؤوسها في الرمال، وستدفع الولاياتالمتحدة نفسها ثمن محاولتها اللعب ” بالبيضة والحجر” مع الأنظمة الإسلامية في كل منطقة الشرق الأوسط، للاستفادة منها في محاربة الإرهاب مع تقديم الدعم السياسي لها، بل وحمايتها حتى من شعوبها في كثير من الأحيان، مع أنها هي حاضنة للحركات المتطرفة، إلا أن انهيار الدولة السودانية سوف يخرج تلك الجماعات من قماقمها، ويخرجها من نطاق السيطرة القديمة التي كانت تمارسها الإنقاذ على تلك الحركات باحتضانها وتوفير المناخ الملائم لنموها، وتطورها، وفي ذات وضعها ” تحت السيطرة” في الوقت المناسب . لكن، لا علينا، وبعيداً عن أهداف السياسة الأمريكية ومحاولتها للبحث عن هبوط ناعم للبشير مع استمرار جماعته وظلاله، وهو ما قد تتمخض عنه مفاوضات أديس أبابا بين الحركة الشعبية والنظام ، لأن الحلول ستتركز على النيل الأزرق وجنوب كردفان، وربما يطرح النظام مشاركة سياسية لا شراكة مثلما كان في اتفاقية السلام الشامل، باتخاذ تغييرات هيكلية طفيفة تدخل أحد قادة الحركة في منصب نائب الرئيس، ومنحها منصب والي ولاية جنوب كردفان بعد فصل غرب كردفان عنها، والاحتفاظ بنصيب الحركة في البرلمانات الولائية بذات نسبة الانتخابات ووقف الحرب ولو ” مؤقتاً في تلك المناطق ، لكن هل ستتم حل المشكلة السودانية ؟. ليت ظني يخيب ولو مرة، وليت القادة السياسيين يدركون أن حل مشكلتنا يأتي من الخرطوم،وليس من واشنطن، وأن يخرجوا من حالة التيه تلك، وأن ينمو احساس الإستقلالية في دواخلهم، ويعقدوا العزم على اسقاط النظام بكل الوسائل ، وأن يوفروا وقتهم وأموالهم للبناء الداخلي، بخلق تنظيمات حقيقية لا ” هلاماً”، وتقوية قواعدها التي تفتقد للبوصلة؛ بدلاً عن اللهث وراء السراب الأمريكي، لأن التغيير يبدأ بالانقلاب على الذات، وأولى الخطوات هي محاسبة أنفسنا على أخطاء الماضي، وممارسة الديموقراطية داخل مؤسساتنا السياسية والاجتماعية، وأن الإصلاح يجب أن يبدأ من الداخل، ومن ثم الانطلاق نحو الخارج، أما عملية إسقاط النظام فهي مسألة وقت لا أكثر، لا سيما لو كان نظاماً قد ” مات سريرياً”.