د.الشفيع خضر سعيد.. . الإشارة إلى أخذ العبر من المبادرات الدولية الفاشلة، هي إشارة إيجابية تمهد لإمكانية التعاطي بتفاعل أكثر مع مبادرات المجتمع الدولي يثابر المجتمع الدولي لتقديم السيناريو تلو الآخر حول الأزمة السودانية، وكأنه، من ناحية، يود أن يداري فشل وخيبة سيناريوهاته السابقة في التصدي لعلاج الأزمة، ومن ناحية أخرى، يود التأكد من أن السيناريوهات المطروحة سترعى وتحمي مصالحه. وفي نفس الوقت، ورغم أي تحفظات لدينا، لا يمكن أن نقلل من دور البعد الإنساني وراء التدخل الدولي في السودان والذي يخاطب قضية وقف الحرب ودرء آثارها، وهو دور لا بد أن ننحني له تقديرا. لكن، وكما أشرنا في مقالات سابقة، المسألة أبعد وأعمق من مجرد البعد الإنساني. ومن الواضح أن وسطاء المجتمع الدولي لا ينظرون إلى النزاعات العسكرية أو الحروب الأهلية، بإعتبارها تجليا أو تمظهرا لأزمة عامة في البلد، وإنما يحصرونها في الصراع المسلح بين المعسكرين، معسكر السلطة ومعسكر المعارضة المسلحة. ولعل النظرة الجزئية هذه، هي التي أفرزت مفهوم الشراكة بين المعسكرين المتقاتلين، والذي سعى المجتمع الدولي لفرضه في كل سيناريوهاته المطروحة لحل الأزمة السودانية. وهكذا، أختزلت الأزمة السودانية في الصراع بين الشمال والجنوب، بين الإنقاذ والحركة الشعبية، وكان الحل المنطقي في نظر دوائر المجتمع الدولي هو تحقيق الشراكة بين نظام الإنقاذ والحركة الشعبية، فكانت النتيجة تقسيم البلاد وإستمرار الحرب الأهلية في أبشع صورها. نقول ذلك، دون أي تجاهل أو تقليل من فرحة الإستقلال التي عمت الجنوب والتي تجد منا كل التفهم والإعتبار والتقدير. ومرة أخرى طرحت الشراكة بين الإنقاذ وهذا الفصيل أو ذاك من فصائل دارفور بعد التوقيع على الإتفاقات المعروفة، ولكن لم تصمد الشراكات إلا لفترات قلائل، ولم تخمد نيران الحرب الأهلية المدمرة، بل لا يزال جحيمها ينفث الحمم القاتلة، وللعام العاشر على التوالي. وبالطبع، هناك العديد من الدوائر في المجتمع الدولي تبني تحركاتها تجاه الأزمة السودانية على فرضية ضعف وعجز الحركة السياسية المعارضة على فرض التغيير في البلاد، وهي تقرأ ذلك مقرونا بحقيقة أن الإنقاذ لا يهمها إختلاط مياه النيل بدماء أبناء الوطن، وأن الحركات المسلحة في الهامش ليست سوى حركات إقليمية لن تستطيع الوصول إلى الخرطوم. ومن ثم، تطرح هذه الدوائر نظرية الهبوط الناعم، Soft Landing، أي أن البديل المنطقي للإنقاذ هو نظام الإنقاذ نفسه بعد قصقصة أظافره ولجم تفلته، ثم تطعيمه ببعض أطراف الحركة السياسية المعارضة!. ومن جانبها، لم تقصر الانقاذ في استثمار هذه الأطروحة فأضحت تستخدم التهويش والتخويف بأن إنهيار الإنقاذ يعني الصوملة.! وفي هذا الصدد، توصلت مجموعة من خبراء المجتمع الدولي المرتبطين بمراكز صنع القرار في الولاياتالمتحدة والمجموعة الأوروبية، وهي ذات المجموعة التي تمخضت عن توصياتها إتفاقية نيفاشا، توصلت إلى سيناريو جديد لحل الأزمة السودانية، يدخل ضمن مفهوم الهبوط الناعم، أسمته سيناريو الإنتقال المتحكم فيه، أو Controlled Transition. ومن ضمن هولاء الخبراء مجموعة الأزمات الدولية والتي طرحت السيناريو في تقريرها الصادر في نوفمبر للعام 2012. جاء في تقرير مجموعة الأزمات الدولية المشار إليه: “على المجتمع الدولي أن يعي دروس مبادرات التسوية السابقة الفاشلة: يحتاج السودان إلى اتفاقية سلامٍ شامل حقاً، وليس تسوية جزئية تخدم تكتيكات “فرِّق تسد" التي تتبعها الحكومة، وتُطيل من أمد الوضع القائم غير المقبول.... وهكذا، يكون السبيل الوحيد للخروج من مصيدة النزاع الدائم هو ايجاد حلٍ شامل واصلاح سياسي حقيقي، بما في ذلك مصالحة وطنية مقبولة لجميع الأطراف". وأعتقد أن الإشارة إلى ضرورة أخذ العبر من المبادرات الدولية السابقة الفاشلة، وأن المخرج هو الحل الشامل، هي إشارة إيجابية تمهد لإمكانية التعاطي بتفاعل أكثر مع مبادرات المجتمع الدولي. وفكرة الإنتقال المتحكم فيه تقوم على أن يبدي المجتمع الدولي إستعداده لتقديم الحوافز لقيادة المؤتمر الوطني، خاصة الرئيس، شريطة أن تشرع هذه القيادة، وتحديدا الرئيس، أولاً وبنحوٍ راسخ، وقبل كل شيئ، في تشكيل حكومة انتقالية قومية شاملة وجديرة بالثقة، تقود حوارا وطنيا هادفا حول دستور جديد، وحول خارطة طريق لتغيُّرٍ دائم في كيفية حكم السودان. وهو طرح، إذا ما تغاضينا عن إشارة الحوافز الواردة فيه، يلتقي في أكثر من جانب مع ما جاء في وثيقة البديل الديمقراطي المقدمة من تحالف قوى الإجماع. أيضا يشير خبراء المجتمع الدولي إلى أن العقبة الرئيسة، وإن لم تكن الوحيدة، هي كنكشة حزب المؤتمر على كل مفاصل السلطة، وتماديه في إحتكار كل شيئ في البلاد: السياسة والاقتصاد والمجتمع. وبالتالي فإن المدخل لتحقيق الحل الشامل هو فكفكة نظام الحزب الواحد، والبدء في إجراء إصلاحات هيكلية أساسية لكيفية حكم البلاد،عبر فترة إنتقالية تتوافق عليها القوى السياسية كافة، بما فيها المؤتمر الوطني وأحزاب المعارضة الجبهة الثورية السودانية ومجموعات الشباب، وتعمل معاً لتشكيل حكومة قومية إنتقالية أكثر شمولاً وتمثيلاً؛ تقبل وتحترم التنوع الهائل للشعب السوداني. ضربة البداية هي أن تعترف الإنقاذ بالأزمة الخانقة التي تمر بها البلاد، وأن تقر أيضا، بأن حل هذه الأزمة يتطلب تعديلات أكثر جذرية من تلك التي كانت تستخدمها سابقا من أجل الإستمرار في السلطة. إن فعلت الإنقاذ ذلك، يُمكن للمجتمع الدولي،أن يقدم لها مجموعة من الحوافز المتنوعة، بما في ذلك موضوع المحكمة الجنائية، وأن يساعدها على تحقيق تلك التعديلات تباعاً وبمسؤولية. ويدعو السيناريو إلى ربط تلك الحوافز، وبعناية فائقة، بما يفي به حزب المؤتمر الوطني من استحقاقات محددة غير قابلة للنقض، ومواصلة العملية الانتقالية بشكلٍ يُمْكِنُ التحقُّقُ منه. خبراء المجتمع الدولي ذهبوا أكثر من ذلك، وإقترحوا خرطة طريق تتلخص في الآتي: 1- جَمْع حزب المؤتمر الوطني، وقوى المعارضة، والمجتمع المدني لنشكيل حكومة إنتقالية لفترة محدودة ووفقاً لمعايير محددة تماما، ترتكز على مبادئ متَّفق عليها ورد ذكرها مراراً في اتفاقيات متعددة أُبرمت على مدى عقود بين الحكومة والمعارضة، تكون أولى مهامها، وقبل كل شيء، وقف إطلاق نار شامل، ووصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق النزاع، وإطلاق الحريات العامة حتى تتمكن القوى السياسية بالاجتماع لتجسيد خارطة طريق لعملية سلام دائم. 2- إطلاق عملية تضم القوى السياسية المسلَّحة وغير المسلَّحة من أجل: أ- التفاكر والاتفاق على نظام للحُكم يُمكنه وضع حدٍّ للنزاعات بين المركز والأطراف: دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق، والشرق، والشمال. ب- صياغة دستور دائم للبلاد. 3- اتخاذ تدابير قانونية وقضائية لإنهاء حالة الإفلات من العقاب، مثل: أ- تعيين قضاة مشهود لهم بالحيدة والنزاهة بما فيهم قضاة المحاكم الخاصة؛ ب- ضمان استقلال المحاكم ومراجعة إجراءات الشرطة في التحقيق، والاعتقال، والمقاضاة؛ ج- محاسبة القوات الحكومية والمليشيات المرتبطة بها لانتهاكها القانون الدولي الإنساني؛ د- تعديل الأحكام الواردة في قانون الشرطة، والقانون الجنائي، وقانون الإجراءات الجنائية التي تُعطي الشرطة والأمن حصانةً شخصية. لكن، إذا ما أرادت المعارضة السياسية أن تتعامل مع أطروحات المجتمع الدولي هذه وغيرها، لا بد ان تكون مسلحة بروافع (leverages) حقيقية لن تجدها إلا عبر إستنهاض النشاط الجماهيري، وخلق أوسع جبهة ممكنة للمعارضة. بغير ذلك، سيتم إبتلاعها في “كرش" النظام، وتتواصل الأزمة. وفي النهاية لا يمكن حل قضية شعب من خارجه وبالإنابة عنه. ولقد ظللنا نردد وفي أكثر من موقع، بأن تجارب البلدان الموبوءة بالأزمات، والسودان من ضمن هذه البلدان، أكدت أن الحلول التي يطرحها المجتمع الدولي والإقليمي ويضغط لقبولها، تبقى دائما حلولاً جزئية وهشة ومؤقتة ومشحونة بقنابل موقوتة، مهما حسنت النوايا، ما دامت هذه الحلول لا تنفذ إلى جوهر الأزمة، ولا تخاطب جذورها مباشرة.