بسم الله الرحمن الرحيم الفاضل عباس محمد علي.. التفجيرات التي قام بها الأخوان تسارناييف ببوسطن هذا الأسبوع، متزامنةً مع الإنفجار الضخم بمصنع السماد بتكساس، فجّرت نقاشاً متأججاً ومتشعباً بالولاياتالمتحدة…وما وراءها…حول كافة الظلال والإسقاطات المترتبة: ومن المتوقع أن يدور نقاش كثيف بالإعلام ومراكز البحث وصهاريج الفكر وأجهزة الاستخبارات وجهات التحقيق الجنائي وهلم جراً…فى محاولة لرد هذه الحوادث لأصولها وأسبابها…(كما جاء فى برنامج الدكتور فريد زكريا بالسي إن إن فجر الإثنين)…لربطها بالسياسات والاستراتيجيات السابقة واللاحقة، وبالموقف من المنظمات المتطرفة العابرة للحدود، وربما كذلك بالموقف الذى درجت عليه الولاياتالمتحدة فى الآونة الأخيرة من دعم استثنائي يحيّر الألباب لتنظيمات وحكومات الإخوان المسلمين بالشرق الأوسط… ولكن، فى نفس الوقت، من غير المتوقع أن يتسبب هذا الحادث فى إجتراح تحولات درامية مفاجئة فى السياسات الأمريكية، فذلك أمر يعتمد علي دراسات مؤسسية عميقة وطويلة المدي…تشترك فيها وتتوافق عليها جهات وسلطات عديدة… وتحتاج لسنين طويلة لإحداث تغيير جذريٍ…..مثل حرب فيتنام التي بدأت فى منتصف الستينات ولم تتوقف إلا بعد عشر سنوات، رغم أن الرأي العام الأمريكي وقف ضدها منذ أول وهلة…وقد عارضها مفكرون عمالقة مثل الكاتب الصحفي والتر ليبمان من أولها لآخرها…كما رفضها سياسيون جهابذة مثل السناتور وليام فولبرايت الذى كتب سفراً بعنوان “عجرفة السلطة…أو غرور القوة”The Arrogance of Power حذر فيه الولاياتالمتحدة من أن تتعامل مع الدول كأنها الشرطي العالمي المسؤول عن كل ما يُرتكب من جنح وآثام فى أي بقعة بالكرة الأرضية…ولقد اندلق الشباب والطلاب فى شوارع المدن الأمريكية الكبري عام 1968 شاجبين لتلك الحرب…وشنّوا ثورة مجلجلة تجاوب معها الغرب كله…إذ خرجت مظاهرات مماثلة بفرنسا فى نفس العام …(بما يشبه الربيع العربي الذي تفجر قبل عامين بالشرق الأوسط). وأياً كان المنحي الذي ستسلكه المناقشات، فهنالك حقائق لا بد من أخذها فى الإعتبار…طالما نحن بصدد تقييم مسألة الإرهاب الأصولي ذى السمات القاعدية والطالبانية……فمن المؤكد أن هذين الصبيين الشيشانيين لهما علاقة بهذه الجهات المشبوهة، إن لم تكن تنظيمية وعضوية، فهي وجدانية وثقافية مفعمة بالنوستالجيا (كما أشارت أولي نتائج التحقيق): هذا غرس الأمريكان، ومن يزرع الريح يجني العاصفة…(أو كما يقول السودانيون: التسوّيه كريت فى القرض…تلقاه فى جلدها.)… فهم الذين أوجدوا وشجعوا التنظيمات الأصولية الإسلامية ودعموها ودربوها وعلموها منذ أيام جون فوستر دالاس وزير خارجية الرئيس دوايت آيزنهاور في منتصف الخمسينات، (الذى كان يتهم سخرية بأنه “أخ مسلم”….شأنه شأن الرئيس جيمي كارتر فى نهاية السبعينات)….إذ كانوا يريدونها ترياقاً للشيوعية…ومنذ نشأتها كانت حركات الإسلام السياسي ذيلاً للخارجية الأمريكية وعميلاً يقبض الأجر من السي آي إي….تواصلاً لمسيرة الإمام حسن البنا الذى كان يتلقي الدعم المادي المباشر من المخابرات البريطانية لإنشاء جهاز الإخوان المسلمين… ولقد تجلي ذلك الموقف بصورة أكثر وضوحاً فى أفغانستان، بمجرد وقوع الإنقلاب الشيوعي بقيادة حفظ الله أمين ومجئ الجيش الأحمر السوفيتي عام 1980. عند ذاك، أصبحت كلمة “الجهاد” شائعة فى الأدب السياسي الأمريكي والغربي، مرادفةً لفروسية وشهامة القرون الوسطي…بلا ظلال من الشك أوالتوجّس أوالهلع الذي كسا الأجواء كلها فيما بعد 11/9……بل استقطبت المخابرات الأمريكية ونظمت المجاهدين “الأمميين” المتكأكئين من كافة أركان الدنيا، لا سيما الشرق الأوسط،…أولئك الذين أصبحوا يعرفون لاحقاً بإسم “الأفغان العرب”، ومن بينهم أيمن الظواهري …والمهندس أسامة بن لادن الثري السعودي ذو الأصول اليمانية الذى تزعم أولئك المجاهدين الراق تاق… وخلق منهم تنظيم القاعدة الحليف لحركة طالبان الأفغانية. وعلي هذا النسق، خرجت لنا جماعات إسلامية منظمة ومنضبطة كالمافيا، ولها خطاب متعدد الوجوه ومربك للغاية فى كثير من الأحيان…. فهي فى المعارضة حمل وديع يستدر عطف الجميع، خاصة هيئات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني الغربية التى ليس لها وقت للخوض فى التفاصيل (كما نفعل هنا فى الصحف الإسفيرية)…و لا يهمها إلا ما حاق بهذا أو ذاك من سجناء الضمير من حيف وتعذيب وإضطهاد، بغض النظر عن دينه أو العبارات المكتوبة بخط دقيق فى برنامجه small print ، … غير أن هذه الجماعات الإسلامية ما برحت تعتبر تضامن المجتمع الغربي معها رخصة دولية وقبولاً سياسياً…وتتباهي بأنها ذات حضور وكاريزمية حتى فى الغرب نفسه…. ولكن فى حقيقة الأمر، تتمنطق هذه الجماعات بفكر وممارسة التقية…وتخفى وجهاً سرعان ما تزول عنه الحجب والمساحيق بمجرد تسللها للسلطة بأي مكان فى العالم…فتلفاهم حينئذ وحشاً كاسراً لا يرحم الخصوم حتى لو كانوا من الأهل والعشيرة، وتجدهم يسبحون فى وهم عجيب…يجعلهم يتصورون أنفسهم ورثة المصطفي عليه الصلاة والسلام دون غيرهم من المسلمين…وأنهم الفئة الناجية… وكل فئات المسلمين الأخري مصيرها الهلاك ثم جهنم……وأنهم يمثلون دار السلام…وكل البشرية الأخري دار حرب لا بد من الجهاد ضدها حتي الثمالة. وسكت الغرب و لا زال يتحلي بالصمت الرهيب إزاء نظام الإخوان المسلمين الذى سطا علي الحكم فى السودان عن طريق انقلاب عسكري فى 30 يونيو 1989،….ولقد تبرع بتسويق ذلك النظام للدول العربية صديق ومندوب أمريكا الأول بعد إسرائيل – نظام حسني مبارك-…ورغم التناقض السني/الشيعي، دخل النظام الإخواني بزعامة الشيخ حسن الترابي فى حلف وثيق مع النظام الإيراني منذ يومه الأول، فتولي الإيرانيون تصنيع الأسلحة بالسودان، وشاركوا فى الجهاد الذى استمر ضد الجنوبيين من 1989 حتى إتفاقية 2005 بين قرنق وحكومة الخرطوم…ولقد شارك الإيرانيون بطياريهم وطائراتهم الحربية التى استخدمت غاز الخردل والقنابل العنقودية ضد القرويين الجنوبيين…مما عمق الجراح وقاد فى النهاية لانفصال ذلك الجزء الاستراتيجي من الوطن. ولما أبدي نظام الخرطوم بعض التفلّت والتواطؤ مع الجماعات الإرهابية الصومالية والدولية…سلط الرئيس كلنتون نيران الأسطول الخامس الأمريكي على الخرطوم، وضرب مصنع الشفاء…وارتعدت فرائص النظام……ولكن سرعان ما عادت المياه لمجاريها مع الحكومة الأمريكية التي شرعت فى التوسط بين نظام الإخوان ومعارضته الجنوبية…(بدعوي ضرورة الإنزال السلس للنظام وتفكيكه علي مراحل، إذا ما وافق علي تضمين مصفوفة حقوق الإنسان فى اتفاقية السلام بنيفاشا التى سيرفد بها دستوره)…إلي أن تم إبرام تلك الإتفاقية عام 2005…وكانت حصيلتها النهائية بعد ذلك ببضع سنوات إنفصال الجنوب…وسط وعود بمساعدات مالية هائلة من الغرب لكل من الجنوب والشمال…وفى الحقيقة، لم يتم الالتزام بتلك الوعود…غير أن جهات أخري، مثل دولة قطر، تولت مسألة دعم نظام الإخوان الحاكم فى الشمال … وأمسكت بملفات الوساطة مع المعارضين…بتركيز على مسألة دارفور. ومن الصعوبة بمكان تصنيف النظام الحالي فى السودان كإسلامي أصولي أو ما شابه ذلك…فبعد العشر سنوات الأولي حدث ما يسمي ب”المفاصلة” وتم إبعاد وسجن مؤسس وزعيم حركة الإخوان بالسودان…الدكتور حسن الترابي…ومعه الكوادر الإسلامية التى يبدو أنها لم تتهالك تماماً أمام غنائم السلطة ونعم الجاه والفساد المالي والإداري الذى استشري علي يد النظام الجديد…وتحول الحكم لدكتاتورية عسكرية…تماماً مثل دكتاتورية جعفر نميري فى آخر أيامها…كأن التاريخ يعيد نفسه….وكما فعل النميري، فإن نظام البشير يستخدم الورقة الإسلامية لإسكات وإرهاب المعارضين، خاصة باستخدام العقوبات الحدية الجزافية…من جلد بالكرباج وقطع للأوصال وصلب وإعدامات، مضافاً إليها الإجراءات القمعية الأخري والقوانين الاستثنائية،… وفى نفس الوقت يمالئ هذا النظام الغرب ويتعاون في تنفيذ مخططاته الإستراتيجية، مثل فصل الجنوب. وخلاصة القول، كثيراً ما يتحالف الغرب، عبر الجهات الإستخباراتية، مع جماعات الإسلام السياسي، ليكتشف أنهم رفيق درب غير مضمون العواقب بما له من أجندة خاصة. ولربما تدفع التفجيرات الأخيرة باتجاه إعادة النظر فى هذه التحالفات، وربما تقود لإدراك الوشائج الانتهازية التى تربط تنظيم الإخوان العالمي بنظام الملالي الحاكم فى إيران…بما ينطوي عليه الأخير من نوايا زعامية وتوسعية. ومهما يكن، فإن الشعوب التى ترزح تحت هذه الأنظمة الثيوقراطية أو المتسربلة برداء الدين تقية وتمثيلاً… للاستمرار فى السلطة عبر إخافة وترويع شعوبها…لن تنتظر الغرب لتخليصها من براثن تلك الأنظمة الشريرة…والغرب أصلاً لا يمانع فى التعاون مع الأنظمة القمعية…(ليست لديه قشة مرة)…فمن أصدقائه المقربين كان الجنرال فرانكو دكتاتور إسبانيا، وسلازار رجل البرتغال القوي حتى ثوي، وبينوشيه بتشيلي، وموبوتو بزائير، ونظام الفصل العنصري بجنوب إفريقيا حتى انهار فى مطلع التسعينات…وأخيراً بن علي بتونس وحسني مبارك بأرض الكنانة…وفى كل هذه الدول كانت الكلمة العليا للشعوب التى أخذت زمام المبادرة فى يدها عندما حانت الأزمة الثورية… وأزاحت تلك الأنظمة الاستبدادية…ولن يمانع الغرب فى التأقلم مع الترتيبات الجديدةLike a rebel's whore كما قال وليام شكسبير في “ماكبث” المشهد 2 – الفصل الأول. ألا هل بلغت…اللهم فاشهد! والسلام.