إنَّ اتفاقية سلام نيفاشا 2005م الموقعة بين الحركة الشعبية لتحرير السودان التي عرفت باتفاقية السلام الشامل قد وضعت حداً لأطول حروب القارة الأفريقية وأفدحها نتائج حوالي اثنين مليون قتيل، وهكذا احتفى العالم ومعه بالطبع المشاركون في الحرب من الطرفين الحركة الشعبية لتحرير السودان والمؤتمر الوطني أي النظام الحاكم في الخرطوم وجماهير الشعب وقود الحرب. ففي جلبة جولات التفاوض التي أفضت إلى سلام شامل في جزء منه في بلد تكاد الحرب تكوِّن جزءً من تركيبيته السياسية، حتىَّ تحوَّلت الحرب من جنوبه إلى غربه أكثر تدميراً وتطهيراً في الممارسة والنتائج. والظاهرة التي حار بشأنها المراقبون حالة أن تكون الحرب والصرِّاعات الدموية بين أجهزة دولة حكومة مستميتة في أخذ الصراع بين معارضيها إلى أقصى مدى تدميري ومكوناتها القومية والسياسية، حالة مستديمة وظاهرة إنسانية تراجيدية جعلت من جغرافيته سوح معارك ومن تاريخه فصل مملاً من تقتيل لا يتوقف شاركت فيه كل الأطراف. إذا كانت الاتفاقية السلام هي النقطة التي تنتهي عندها الحرب وتبدأ معها أوضاع مشروطة تجنباً للعودة إلى حال ما قبل الاتفاقية، فإن واقع الحروب في السودان استحق كل تعريفات الحروب وتطبيقاتها القَذرة، فجيش الدولة ضدَّ شعب الدولة والحركات المسلحة في ولايتي دارفور وكردفان والنيل الأزرق ضدَّ السُلطة المركزية، إلى جانب صراعات لامتناهية بيَّن قبائل تعود في طبيعة حروبها إلى ما قبل التاريخ تحول السودان إلى خارطة حرب ارتسمت عليها سائر نظريات الحروب واستراتيجيتها في رؤيتها وتفسيرها للحرب في التقتيل. كتب صحفي موالٍ للنظام في أعقاب الهجوم الحالي لمتمردي الجبهة الثورية على مناطق في ولاية جنوب كردفان مستشهداً بمقولات الحكيم الصيني تزو صن من كتابه الكلاسيكي الأشهر فن الحرب حول طبوغرافية الدفاع. وبدا أن البحث عن آليات الحرب نظريا وعمليا التفكير المهيمن على الخطاب الجمعي، بينما غابت رؤى وأحلام السلام. فالحرب باتت ممارسة تصدق معها إلى حدِّ كبير مقولة القائد البروسي الذائعة كلاوزفيتز من أن الحرب هي السياسة بوسائل أخرى. ومما يتأسف له المرء أن تظلَّ نظريات الحروب المنبثقة عن صرَّاعات القرون السابقة ومخلفاتها البشرية عبر القرون لا زالت قابلة للتطبيق في المجال الحيوي السوداني الذي ظلَّ تتعالى فيه أصداء صيحات الجهاد وصرخات الموت واعادت الحروب تخطيط أرضه وفق خرائط الألغام المستزرعة بخطوط كنتورية تحدد مسار سير المقاتلون على صهوات الجيِّاد. فالسودان يكاد يكون استثناءاً في توصيف حروبه بيِّن عرقية وقبلية وحدودية ونزاع على سلطة. فليس عجباً أن تدخل أحدى مسميات فرق موته الجنجويد المعاجم الانكليزية كمعجم اوكسفورد وكولينز والموسوعات العالمية كالموسوعة البريطانية. استدعت هذه الصورة القاتمة لبلدٍ أصبح بتعريف القانون الدولي بلداً مهدداً للسلم والامن الدوليين بمنطوق فقرات الفصل السابع لميثاق الأممالمتحدة، ومن ثمَّ توالى صدور قرارات مجلس الأمن الدولي وأهمها قرار من الفصل السابع أيضا القاضي بتفويض قوات أممية بالتدخل بحجم قوات حفظ سلام هي الأكبر في تاريخ الأممالمتحدة. بلغ الأمر أن يصبح رأس النظام مطلوبا لمحكمة الجنايات الدوليّة. الواقع أن أمد حروب الدولة السودانية أخرج مؤسساتها عن دائرة النظام الدولي بما استقر عليه من مفاهيم تجنباً لويلات الحروب منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهكذا أصحبت الدولة تفاجأ بقرارات المجتمع الدولي وهو يستفظع حروبها وحشية، خاصة أن شرعية الدولة المبنية على سيادة محتكرة للعنف بحجة عدم التدخل في الشئون الداخلية لم تعد مستساغة في وجود صيغة جديدة للتدخل، التدخل الإنساني Humanitarian Intervention. عبث الصراعات عادة ما يُغيِّب الرؤية نحو مسار السلام، فيبدو أن السلام في مقابل الحرب لم يعد معنى محسوساً، فكل الأطراف انتابتها حالة من التدمير الذَّاتي تخطت كل هدف وموضوع للحروب السودانية. قبل أشهر احتفلت على الطريقة الثورية الحركات الدافورية المسلّحة بمرور الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة في دافور، فلابد أن مشاعر متضاربة بين الرثاء المفجع والذهاب ثورياً في مسار الثورة أو حرب الإبادة الجماعية التي عرفها العالم وتفاعل معها وهو ما لم يحدث مع حروب السودان المتداعيِّة منذ تشكله السياسي بنمو شائه. فمهما تكن شرعيِّة مطالب الحركات إلا أن الفصل بين خطابها السياسي وأدائها العسكري غير المحسوم غيب عنها البُعد بين التحرر من هيمنة المركز الإثنية وتحرير مواطنيها من قضبة الدولة المركزية، وانعكاس نتائج الثورة على من تقاتل باسمهم. الأمر الذي لم تفلح فيه الحركة الشعبية لتحرير السودان عقيب وفاة قائدها الراحل جون قرن فعجلت بالرحيل جنوباً ضمن حدود الدولة التي حددها الاستفتاء. فإن ما يهزم تحركات الحركات المسلحة في غزواتها صوب العاصمة ومدن الوسط الخطاب التحريضي للإعلام الرسمي ذي النبرة العنصرية عالية الوتيرِّة. فعبور جماعات الهامش لحدودها الجغرافية ولايتي دارفور وكردفان يعني ترُّحل إثني غير مرغوب فيه أو مرحب به حتَّى بين أكثر اشرس العناصر معارضة للنظام القائم. فقبل أن تتدارك هذه الحركات حجم القوة المتفاوتة Asymmetry of Power بينها والنظام يجب أن تستعيد وعيها السياسي في المقومات التي تُشكِّل بنية النظام الاجتماعية. والغريب أن الكتاب الأسود الذي صدر عقب مفاصلة الاسلاميين الشهيرة في 1999م فصل عبر مسحه الانثولوجي ركائز هذا النظام وبمصادر موارده البشرية التي تمثل وجه النظام ومعضلة الحكم في السودان بمفهوم الحركات. مثلما استطالت الحروب مُتفجِّرة على امتداد مساحة البلاد، أعقبتها جولات تفاوض لاهثة احتوتها اتفاقيات متناسلة، فكانت بتعبير الكاتب العراقي سعد البزاز حرباً تلدُ أخرى. فغياب الإرادة والمناورات من جانب الحكومة جعلت من استحقاقات الاتفاقيات مكان تنازع سلطوي، فكأنما قسمة السطلة والثروة المفردتان اللتان دخلتا في أدبيات السياسة السودانية مؤخراً هدفاً تستميت من أجله الحكومة كنظام غير قابل للزحزحة وفق أماني المعارضة، وقوى معارضة لا تصل إليه إلا وفق ما يحدده النظام. وعليه أطبق الصِّراع على إرادة السلام كفعل يسعى لا إلى اقتسام موارد شحيحة وإنما إلى اعتراف يدعمه حق المواطنة في الحوار السلمي والوعي الوجودي بشيء أسمه السودان. إن رؤى الحلّ لأزمة الحرب في الواقع الذي وصل إليه السودان يستحيل تطبيقه من سلطة قابضة، وقوى شتيت معارضة غير واقعيّة فالنتيجة أن يستعد الطرفان للتعايش في مرحلة ما بعد الحرب في أرض حتماً هي الخراب. فإذا لم يستوعب السلام كهدفٍ استراتيجي وإرادة وطنية للحفاظ على البنية الموروثة، فإن كل من مفهومي الحرب أو السلام سيقوض بنية الآخر.