[email protected] بسم الله الرحمن الرحيم سامح الله وزارة التربية والتعليم على وقوفها صامتة وهي تتفرج على الجرم الكبير الذي يرتكب في حق أطفال هذه البلاد.. فما يحدث في المدارس الحكومية يمثل اغتيالاً شنيعاً لمستقبل أولئك الأبرياء الذين أجبرتهم ظروفهم على ارتياد مدارس الوزارة… تلك المدارس التي لا تتوافر فيها أبسط مقومات الحياة من مياه شرب نقية وأكسجين! يتكدس أكثر من مائة طفلٍ صغير في فصلٍ واحدٍ مما يعرض حياتهم لخطر الموت اختناقاً.. نكتبُ اليوم عن الماء والهواء، وليس عن البيئة المدرسية ودورات المياه والكتب والزي الجميل والترحيل والمقاعد والأدراج والمناشط التربوية، فكل هذه الأشياء أضحت ترفاً لا يستحقه أولئك المساكين. أولئك المساكين الذين يخرجون من بيوتهم في الصباح الباكر ليذهبوا إلى تلك الأماكن المسماة زوراً وبهتاناً بالمدارس، يذهبون في الصباح الباكر ويعودون إلى بيوتهم منتصف النهار وهم لا يعلمون ما الغرض من تلك الرحلة العبثية؟!.. فهنالك مدارس حكومية لا يوجد فيها معلمون! أخبرني صديقي الأستاذ حسين عن مدرسة في أرياف بحري لم تعيِّن الوزارة فيها سوى مُعلمٍ واحد فقط، فهو المدير والوكيل ومعلم جميع المواد، ويستعين هذا المعلم المسكين بمجندي الخدمة الوطنية لمساعدته في التدريس، رحم الله بابكر بدري الذي مات قبل أن يشهد هذا المعلم الموهوب! يحدث هذا في العام 2013م وفي الخرطوم بحري.. فما بالنا بمدارس الولايات الطرفية؟ إذن كفانا خداعاً على أنفسنا أيها الآباء والأمهات.. ولنتعامل مع الحقائق.. فالحقائق تقول إن التعليم في هذه البلاد ليس من أولويات الحكومة، والحقائق تقول إن المستقبل سيكون لتلاميذ المدارس الخاصة والنموذجية، أما تلاميذ المدارس الحكومية فلن يحصدوا سوى الفشل والندم. ليس هذا كلامي أنا بل هذا ما تقوله وثائق ومستندات وزارة التربية والتعليم، أكتبُ هذا المقال وأمامي قوائم بأسماء التلاميذ المتفوقين في امتحانات شهادة الأساس بولاية الخرطوم للأعوام 2010، و2011م، و2012م، والحقيقة الصادمة أن تلاميذ المدارس الحكومية لا يمثلون سوى نسية ضئيلة من المتفوقين في هذه القوائم وكل تلاميذ المدارس الحكومية المتفوقين امتحنوا من مدارس أقرب إلى الخاصة في طبيعتها، فإمَّا أن مدارسهم تجد دعماً من بعض أهل البر والمؤسسات الكبرى، أو أن مدارسهم تقع في أحياء راقية، والمدارس الحكومية المتفوقة محدودة جداً كمدرسة الطيب سعيد، ومدرسة كلية التربية ومدرسة العمارات ومدرسة المعارف ومدارس الموهبة والتميز، وكل هذه المدارس تتلقى دعماً خاصاً من الوزارة في تعيين المعلمين وميزانية التسيير وتوفير المستلزمات الدراسية، أي أنها حكومية الاسم خاصة الدعم ولذلك ينافس تلاميذها في قائمة المتفوقين، أمَّا بقية المدارس الحكومية في الحاج يوسف والكدرو ومايو وأمبدة والكلاكلة وغيرها من مناطق الهامش فلا يوجد منها تلميذ واحد في قائمة المتفوقين طيلة السنوات الثلاثة الماضية.. وهكذا هو الحال في امتحانات الشهادة السودانية.. فالتفوق حكر على المدارس الخاصة والنموذجية وبعض المدارس التي تجد دعماً خاصاً.. والأمر لا يحتاج إلى الإطلاع على نتائج المائة الأوائل الذين تعلنهم الوزارة بشفافية في كل عام.. بل يمكن لأي متابع أن يدرك هذه الحقيقة الواضحة بمطالعة إعلانات النجاح والتهنئة التي تنشرها المدارس الخاصة في الصحف اليومية.. أين المدارس الحكومية من هذه المهرجانات؟ فالمنافسة غير عادلة.. فكيف لأندية السنترليق أن تنافس في نهائيات كأس العالم؟ أتحدى أي مسؤول في الدولة أن يُرسل أبناءه للتعلم في المدارس الحكومية، لقد عملتُ في التدريس لسنواتٍ عديدة وأعلم تماماً أين يدرس أبناء المسؤولين، فكلهم قد درسوا في المدارس الخاصة والمدارس الإنجليزية، ابتداءً من أبناء نائبي الرئيس وأبناء وزير التربية والتعليم، إلى أبناء أصغر موظف في تلك الوزارة.. وكلهم تلاميذ مهذبون ومجتهدون. ولكن.. أليس من حق أبناء الفقراء أن يجدوا حظهم في تعليم عالي الجودة أسوة بأبناء ولاة الأمر والسلطان؟ فإذا كان المسؤول عن التعليم لا يرسل أبناءه إلى المدارس التي يتولى مسؤوليتها فلمَ نرسل نحن أبناءنا إلى تلك المدارس؟ تخيل أن صاحب المطعم الذي تشتري منه الفول يومياً يبيعك العشاء ويطلب عشاء بيته من مطعمٍ آخر.. فما الذي ستفهمه من ذلك؟.. أظن أن الأمر بات واضحاً الآن.. فما تشتريه لأطفالك سيضر بصحتهم.. فإذا أردت مستقبلاً باهراً لأولادك فالمدارس الحكومية ليست المكان المناسب لهم.. فإذا كانت الحكومة قد عجزت عن تعليمهم فأنت أولى بهم.. وإذا أبت الوزارة أن تعترف بفشلها وإخفاقها كن أنت شجاعاً وتحمل مسؤولية أبنائك.. لا تغامر بهم وتقتل مواهبهم، وتبدد أحلامهم في دراسة الطب والهندسة. فقد أخبرني أحد أصدقائي أن ابنته التي تدرس الطب بجامعة الخرطوم قالت له: "إنها لا حظت أن جميع زملائها بالدفعة جاءوا من المدارس الخاصة والنموذجية.. وجميعهم من أبناء المقتدرين". فإذا كان ابنك تلميذاً في مدرسة حكومية فالاحصاءات تقول إن احتمال التحاقه بكلية مرموقة يساوي صفر في المائة، فالمركب توشك أن تغرق، والحل السريع هو أن تقفز بأطفالك من هذه المركب، وليس من الحكمة أن تلوم الحكومة في هذا التوقيت.. فإذا رفض الطبيب أن يعالج ابنك المغمى عليه، هل ستقتص من الطبيب أولاً أم ستفكر في البحث عن علاج لابنك الذي يواجه خطر الموت؟ إذن دعونا نتجاوز الحكومة ووزارتها من أجل مصلحة أبنائنا، ودعونا نبحث عن تعليمٍ أفضل لأبنائنا.. فربما ينجح هؤلاء الصغار فيما عجز عنه الكبار.