روسيا ترفض لتدخلات الأجنبية في السودان ومخططات تمزيقه    البرهان يودع سفيري السودان لمصر واثيوبيا "الفريق أول ركن مهندس عماد الدين عدوي والسفير الزين إبراهين حسين"    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الناشط صلاح سندالة يسخر من المطربة المصرية "جواهر" بعد ترديدها الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله) خلال حفل بالقاهرة    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    السودان..البرهان يصدر قراراً    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدين والدولة في الدساتير السودانية … البروفسير محمد ابراهيم خليل
نشر في حريات يوم 27 - 06 - 2013


النصوص في دساتير البلاد الإسلامية:
1. دستور الحكم الذاتي لسنة 1953, أول دستور للسودان, لم يرد فيه أي نص على الوصف الديني للدولة أو مصادر التشريع, وتلك هي الصفة الغالبة على دساتير الدول الديموقراطية الحديثة. أغلب البلاد العربية الإسلامية كانت حينئذ تحت نير الإستعمار الغربي ماعدا المغرب والمملكة العربية السعودية وايران وافغانستان وتركيا ومصر وباكستان. وقد نصت أغلب دساتير هذه الدول على وصفها بأنها إسلامية أو أن دين الدولة هو الإسلام.
2. أشدها إيغالاً في هذا الوصف دستور المملكة العربية السعودية, الذي يصف الدولة بأنها عربية إسلامية, دينها الإسلام ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله. ولعله وصف طبيعي لدولة أُسِسَتْ أصلاً على مفاهيم دينية بحتة. أما المغرب التي أُسِسَتْ على مفاهيم مزاج بين الدين والحداثة فقد اكتفى دسّتُورها بالنص على أنها دولة إسلامية ذات سيادة كاملة, وكذلك نصت المادة الأولى من دستور باكستان على أنها جمهورية إسلامية. وقد اتخذت أفغانستان منذ العهد الملكي صبغة إسلامية وقويت النزاعات الإسلامية التي أدت الى اسقاط النظام الشيوعي, وينص الدستور الحالي (2004) في المادة الأولى والثانية والثالثة على التوالي, على أن أفغانستان جمهورية إسلامية وأن الإسلام دينها وأنه لا يجوز سَنْ أي تشريعات تتعارض مع تعاليم وأحكام الدين الإسلامي الحنيف.
3. أما باقي الدول العربية والإسلامية التي كانت مستقلة في ذلك الوقت, فقد اكتفت بتضمين النص على أن دين الدولة الإسلام, فلما استقلت سائر الدول العربية درجت كذلك على تضمين نص على أن الإسلام هو دين الدولة أو دين الدولة الرسمي وأن العربية لغتها. وذلك باستثناء تركيا, التي نص دستورها في المادة الثانية على أنها دولة علمانية مؤسسة على حكم القانون. إلا أن قليلاً من تلك الدساتير وصف الدولة نفسها بأنها إسلامية مثل موريتانيا (المادة الأولى) واليمن (المادة الثانية).
4. أما النص على مصادر التشريع فقد ورد في عدد من دساتير الدول العربية, باختلاف في التعبير. فالدستور اليمني تنص مادته الثالثة على أن الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات, والماده (2) من دستور سلطنة عُمان تنص على أن "الشريعة الاسلامية هي أساس التشريع".
ودساتير قطر والبحرين والكويت والإمارات العربية المتحدة تنص على أن "الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع".
وتجدر الإشارة بصفة خاصة الى الدستور المصري الذي ينص في المادة الثانية على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع", ودستور فلسطين الذي ينص في المادة الرابعة على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع". ودستور الجمهورية العربية السورية الذي ينص في المادة الثانية على الفقه الإسلامي كمصدر رئيسي للتشريع.
يلاحظ أن الخلافات في الصياغة تنحصر في:
أ‌- الشريعة الإسلامية, مبادئ الشريعة الإسلامية, الفقه الإسلامي.
ب- مصدر رئيسي, مصدر أساسي, المصدر الرئيسي.
النص في الدساتير السودانية:
5. سبق أن أشرنا الى أن دستور الحكم الذاتي لسنة 1953 لم يتضمن نصاً على دين السودان أو أن غالبية سكانه مسلمون ولا الى مصدر للتشريع.
كذلك جاء أول دستور للسودان المستقل, دستور السودان المؤقت 1956 خلواً من أي نص على دين الدولة أو غالبية الشعب أو على أن الشريعة هي مصدر للتشريع. بعد مضي عام منذ الإستقلال كونت الجمعية التأسيسية لجنة للدستور ضمت عدداً من المفكرين والسياسيين من غير الأعضاء. وكان من أهم المسائل التي طُرِحَت للبحث: إقتراح أن دين الدولة الإسلام, وأن الشريعة هي مصدر من المصادر الأساسية للتشريع, وإقتراح آخر بالفدرالية, ويهمنا في هذا الصدد الإقتراح الأول الذي تقدم به الأستاذ ميرغني النصري والذي عارضه عدد من الشماليين وكل الأعضاء الجنوبيين وعلى رأسهم الأب ساترنينو والسيد تسلادس بايزاما. وبالرغم من معارضة عدد كبير من أعضاء اللجنة إلا أنه عند عرضه للتصويت, أَيد الإقتراح 17 عضواً ولم يعترض عليه أحد ونصه: "الإسلام هو دين الدولة" و "الشريعة الإسلامية هي أصل أساسي من أصول التشريع في جمهورية السودان".
وقد تغيب عن أغلب الجلسات بما فيها تلك التي جرى فيها التصويت كل الأعضاء الجنوبيين.
وقد حال الإنقلاب العسكري الأول الذي وقع في 17 نوفمبر 1958 دون تمكن الجمعية التأسيسية الأولى من إصدار دستور دائم للبلاد.
6. خلال السنة الإنتقالية التي أعقبت الإطاحة بذلك النظام, قامت الحكومة الإنتقالية بوضع الدستور المؤقت لسنة 1964 على غِرار دستور سنة 1953 بتعديلات غير ذات بال. وقد جاء الدستور الإنتقالي – كسابقه – خلواً من أي نص على دين الدولة أو مصادر التشريع واستمر العمل بذلك الدستور خلال فترة الديموقراطية الثانية بين 1965 – 1969 بيد أنه كان من أول اهتمامات الجمعية التأسيسية التي كانت انتخبت في أعقاب السنة الإنتقالية وضع دستور دائم للبلاد, وانطلاقاً من ذلك فقد قامت بتكوين لجنة قومية للدستور ولجنة فنية للدراسات. وبالرغم من أن الأخيرة قد قامت بدراسات مستفيضة لكل جوانب الدستور إلا أن موضوع الفيدرالية, وأسلمة الدولة أو علمانيتها قد شغلا حيزاً كبيراً من وقتها, وجديرٌ بالذكر أيضاً أن النواب الجنوبيين قد قاطعوا أغلب جلسات اللجنتين إحتجاجاً على عدم تفهم زملائهم الشماليين لمغبات الزج بالدين في الدولة ورفض مطلب الفيدرالية.
7. في معرض دفاعه أمام اللجنة القومية عن علمانية الدستور, أبدى عضو اللجنة الفنية السيد ناتالي الواك تخوفه من أن تؤدي إسلامية الدستور الى إعاقة التقدم الإقتصادي, ليس ذلك فحسب بل إنها قد تهدد الوحدة الوطنية. مهما يكن فقد جاءت مسودة الدستور الدائم لسنة 1968 خلواً من أي نص على الفدرالية, بل إن المادة الثانية نصت على أن جمهورية السودان دولة موحدة, في الوقت ذاته نصت المادة الأولى على أن السودان "جمهورية إشتراكية ديموقراطية تقوم على هدى الإسلام", ومضت المادة الثانية فنصت على أن "الإسلام دين الدولة الرسمي واللغة العربية لغتها الرسمية".
وأفردت المادة 113 للنص على مصدر التشريع على الوجه التالي:
"الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي لقوانين الدولة".
وتمضي المادة 114 فتحرم سن أي تشريعات تخالفها.
أما المادة 115 فتفرض على الدولة العمل على تعديل القوانين الحالية للتأكد من موافقتها للشريعة الإسلامية, وتنص المادتان كما يلي:
المادة 114:
"يعتبر باطلاً كل نص في أي قانون يصدر بعد إجازة هذا الدستور ويكون مخالفاً لأي حكم من أحكام الكتاب والسنة …".
المادة 115:
"على الدولة أن تُصدر من التشريعات ما تُعدل به جميع القوانين التي تُعارض أي حكم من أحكام الكتاب والسنة, وأن تنفذ أحكام الشريعة الإسلامية التي كانت معطلة, على أن تصدر تلك التشريعات بالتدرج الذي تقتضيه الضرورة وفق ما يرى المشرع".
8. يجدر أن نذكر أن لجنة السياسات الدستورية لم تتعرض – في إجتماعاتها الكلية plenary sessions – الى موضوع الصياغة, وأن المواد سالفة الذكر وما فيها من تفصيلات لم تناقشها اللجنة الفنية التي كانت معنية بالجدل حول الموضوعين الأساسيين: دين الدولة وأن الشريعة الإسلامية مصدر أساسي للتشريع, وقد كان الرأي السائد بين الأعضاء أن الشريعة الإسلامية إنما هي تعبير شامل ليس فحسب للأحكام والمقاصد الكُلِيَّة والقيم الإجتماعية المُضَمَّنة في القرآن والسنة, بل من الإجتهاد وإعمال الفكر وتباين في الرأي كذلك ما يتفرع عنها, وهي بحسبانها كذلك من شأنها أن تثري الموسوعة التشريعية لدول المجتمع الإسلامي المعاصر.
مهما يكن فإن الجمعية التأسيسية الثانية لم تتمكن من إجازة مسودة 1968 حتى وقع إنقلاب مايو 1969 الذي أطاح بالديموقراطية الثانية والدستور الإنتقالي لسنة 1964 وحَلَّ الجمعية التأسيسية قبل أن تعرض مسودة 1968 للتصويت.
9. في عام 1973 أقدم نظام نميري على إجازة دستور أطلق عليه إسم الدستور الدائم. نصت المادة الأولى من ذلك الدستور على أن السودان "جمهورية ديموقراطية إشتراكية موحدة" وورد في المادة 15 أن الأسرة أساس المجتمع, وقوامها التكامل على هدى الدين والأخلاق والمواطنة. وجاء في المادة التالية:
أن الدين في جمهورية السودان هو الإسلام ويهتدي المجتمع بهديه بوصفه دين الغالبية وتسعى الدولة للتعبير عن قيمه وأن المسيحية دون عدد كبير من المواطنين ويهتدون بهديها وتسعى الدولة للتعبير عن قيمها وأن الدولة تعامل كافة المواطنين بما فيهم أهل الديانات الأخرى على أساس المساواة المطلقة.
أما فيما يتعلق بمصادرالتشريع فلم يرد عليها نص في ذلك الدستور.
10. عند إستعادة الديموقراطية عام 1985 كان المتوقع أن يعمل المجلس العسكري الإنتقالي – لا بدستور النظام المايوي الذي أطاحت به ثورة أبريل, ولا بمسودة 1968 التي لم تجز قبل إنقضاء الديموقراطية الثانية – بل بالدستور الإنتقالي لسنة 1964 الذي كان آخر دستور إرتضاه النظام الديموقراطي. ولكن المجلس العسكري الإنتقالي قام بإصدار دستور إنتقالي في سنة 1985 تضمن نصوصاً ممعنة في الخلافية, يهمنا منها في هذا الصدد حكم المادة الرابعة التي تنص:
"الشريعة الإسلامية والعرف مصدران أساسيان للتشريع. والأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم".
النص أن تكون الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً للتشريع أمر إعترض عليه الجنوبيون أعضاء لجنة الدستور في عام 1957, وفي عام 1968 ولم تتمكن الجمعية التأسيسية في فترات النظام الديموقراطي من إجازته فكيف جاز للمجلس العسكري الإنتقالي أن يصطنع صلاحيات لا تؤهله لها طبيعة تكوينه ولم تضفها عليه القوى الأساسية التي فجرت ثورة أبريل وكلفته بتسيير شئون الحكومة أثناء السنة الإنتقالية؟
11. لم تتمكن الحكومة الديموقراطية الثالثة – بسبب إنشغالها بالخلافات الحزبية ومسائل إنصرافية أخرى – من إتخاذ أي إجراء يرمي الى إعداد مسودة للدستور الدائم حتى أطاح بها إنقلاب الجبهة الإسلامية في يونيو 1989. ويبدو أن العمل إستمر بذلك الدستور الإنتقالي حتى صدر دستور سنة 1998.
12. نظراً الى الإتجاه الايديولوجي للنظام الحاكم وغياب القوى السياسية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني, ليس غريباً أن يتضمن ذلك الدستور النصوص الخلافية التي سبقت الإشارة اليها. ليس من بين هذه النصوص ما ورد من حكم تقريري في المادة الأولى بأن الإسلام دين غالبية السكان, ذلك نص تقريري يصف الواقع ولا تعترض عليه الأقليات الدينية. ولكن المادة الربعة تمضي فتقول:
"الحاكمية في الدولة لله خالق البشر. والسيادة فيها لشعب السودان المستخلف يمارسها عبادة لله وحملاً للأمانة وعمارة للوطن وبسطاً للعدل والحرية والشورى وينظمها الدستور والقانون".
لاحظ تعبير الحاكمية الذي يذكر بسيد قطب وأبو الأعلى المردودي والذي استهجنه بعض الفقهاء المعاصرين بمن فيهم بعض مؤسسي حزب الأخوان المسلمين في مصر.
وتنص المادة 65:
"الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة استفتاء ودستوراً وعرفاً هي مصادر التشريع ولا يجوز للتشريع تجاوزاً لتلك الأصول. ولكنه يهتدي برأي الأمة العام وبإجتهاد علمائها ومفكريها, ثم بقرار ولاة أمرها".
13. ثم ننتقل الى آخر مرحلة من مراحل التطور الدستوري حتى اليوم: الدستور النتقالى لسنة 2005 الذى تمخض عن اتفاقية السلام الشامل.
المادة الأولى تصف طبيعة الدولة كما يلى:
1) جمهورية السودان دولة مستقلة ذات سيادة, وهي دولة ديموقراطية لا مركزية تتعدد فيها الثقافات واللغات وتتعايش فيها العناصر والأعراق والأديان.
2) تلتزم الدولة باحترام وترقية الكرامة الإنسانية, وتؤسس على العدالة والمساواة والإرتقاء بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية وتتيح التعددية الحزبية.
3) السودان وطن واحد جامع تكون فيه الأديان والثقافات مصدر قوة وتوافق وإلهام.
تنص المادة الثانية على أن "السيادة للشعب, وتمارسها الدولة طبقاً لنصوص هذا الدستور والقانون, دون إخلال بذاتية جنوب السودان والولايات".
وتنص المادة الثالثة تحت عنوان "حاكمية الدستور القومي الإنتقالي" على أن:
"الدستور القومي الإنتقالي هو القانون الأعلى للبلاد, ويتوافق مع الدستور الإنتقالي لجنوب السودان, ودساتير البلاد وجميع القوانيين".
أما مصادر التشريع فقد أفرغت في المادة الخامسة على الوجه التالي:
1) تكون الشريعة الإسلامية والإجماع مصدراً للتشريعات التي تسن على المستوى القومي وتطبق على ولايات شمال السودان.
2) يكون التوافق الشعبي وقيم وأعراف الشعب السوداني وتقاليده ومعتقداته الدينية التي تأخذ في الإعتبار التنوع في السودان, مصدراً للتشريعات التي تسن على المستوى القومي, وتطبق على جنوب السودان أو ولاياته.
3) في حالة وجود تشريع قومي معمول به حالياً, أو قد يُسَنْ, ويكون مصدره دينياً أو عُرفياً, يجوز للولاية وفقاً للمادة 26 (1) (أ) في حالة جنوب السودان, التي لا يعتنق غالب سكانها ذلك الدين أو لا يمارسون ذلك العُرف أن:
أ- تسن تشريعاً يسمح بممارسات أو ينشئ مؤسسات في تلك الولاية تلائم دين سكان الولاية وأعرافهم, أو
ب- تحيل التشريع الى مجلس الولايات لإجازته بواسطة ثُلثي جميع الممثلين في ذلك المجلس أو يبتدر إجراءات لسن تشريع قومي تنشأ بموجبه المؤسسات البديلة الملائمة.
14. وبامعان النظر في هذه الأحكام تبدر الملاحظات التالية:
أ‌- وصف طبيعة الدولة في المادة الأولى, وصف تقريري لاغبار عليه ولا خلاف حوله.
ب- حكم سيادة الشعب في المادة الثانية خلا من العبارات المضمنة في المادة الرابعة من دستور سنة 1998 الخاصة بممارسة السيادة "عبادة لله … الخ ". ثم أن عبارة: "دون إخلال بذاتية جنوب السودان … الخ" حشو لا معنى له. كيف يتصور أن سيادة الشعب التى يمارسها "طبقاً لنصوص هذا الدستور والقانون", كيف يتصور أن ممارسة السيادة على هذا النحو يمكن أن يكون فيها إخلال بذاتية الجنوب.
ج- قارن عنوان المادة الثالثة من الدستور الانتقالي "حاكمية الدستور القومي الإنتقالي" بالمادة الرابعة من دستور سنة 1998 التي نصت على أن الحاكمية لله.
د- لم يعد التوافق الشعبي وقيم وأعراف الشعب السوداني وتقاليده … الخ مصدراً للتشريع الذي يطبق على شمال السودان بل إقتصرت على تلك التي تطبق على الجنوب.
نشأة الربط بين الدولة والدين:
15. باستقراء التاريخ يمكن القول بأن فكرة الربط بين الدين والدولة كانت بدءاً من ظواهر المجتمعات الوثنية التي كان يمارس فيها السحر والكهنوت نفوذاً كبيراً, واستمر حتى ظهور الدولة البدائية Primordial State. ففرعون كان حاكماً والهاً في آن واحد: "أنا ربكم الأعلى". وحتى عندما لم يتَّصِف الحاكم بالألوهية فقد كان مرتبطاً بها ارتباطاً وثيقاً في أذهان الناس, مثلاً الدولة الفارسية القديمة (حتى قبل الفيلسوف زرادشت), كان يظن أنها نزلت من الآلهة (انظر دائرة المعارف البريطانية "المجلد السابع" ص 871).
أما مجتمع التوحيد, فقد فصل منذ أول عهده فصلاً واضحاً بين الإله والحاكم وبين الدين والدولة. ومن ذلك أن بني اسرائيل كانوا ينكرون صفة النبوة لمن اتخذ مظهر الملك حتى إذا اتصف بالحكمة والتقوى فداؤد وسليمان عندهم ملوك لا أنبياء. ليس غريباً اذن أن يميز المسيح عليه السلام بين ما لقيصر وما لله.
بيد أن الأمر قد تغير عندما بدأت الوثنية تشوب مفاهيم التوحيد الخالص. فما أن تنصر قسطنطين الأول في أول القرن الرابع الميلادي حتى بدأت تظهر أفكار التعددية في مفهوم الله, واكتسب الإمبراطور الروماني قداسة لا تضفى عادة على البشر. وسرعان ما اتخذت الدولة إسماً قدسياً عندما قام البابا بتتويج شارلمان إمبراطوراً عام 800م فنشأت الإمبراطورية الرومانية المقدسةHoly Roman Empire التي استمرت ألف عام حتى 1806م.
وعندما اختلف ملك انجلترا هنري الثامن (1547 – 1491) مع البابا حول مسائل دنيوية بحتة, بعضها سياسي وبعضها شخصي يتعلق بتعدد الزوجات والطلاق, فصل الكنيسة الإنجليزية من روما وجعلها جهازاً روحياً في إطار الدولة ونصب نفسه رئيساً لها (انظر دائرة المعارف البريطانية, المجلد الثامن ص 771).
على نقيض ذلك لم يطلق اليهود على دولتهم الأولى إسم دولة جهوڤا أو الدولة الإلهية وإنما عرفت بأنها دولة بني إسرائيل.
وعندما وضع الرسول الكريم أول دستور مكتوب في تاريخ الحضارة الإنسانية لم يسمه الدستور الإسلامي أو العهد الإسلامي أو الصحيفة الإسلامية وإنما سماه "صحيفة المدينة".
ونجد بعد الخلفاء الراشدين دولة بني أمية, ودولة بني العباس, والدولة الفاطمية, والدولة العثمانية.
16. قبل أن نتطرق الى تداعيات النص في الدستور على تسمية الدولة بأنها إسلامية أو أن دينها الإسلام أو أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع, لعله يجدر أن نتدبر ما إذا كان الإصرار على تضمين هذه النصوص نتيجة لإلزام إسلامي حتمي لا محيص عنه, أم أنه مجرد رد فعل علق بالمجتمعات الإسلامية المعاصرة جراء سيطرة الإستعمار الغربي, وخوف تغول الغرب الفكري والثقافي؟
ماهو الأثر القانوني لنصوص دين الدولة ومصادر التشريع؟
17. دون الدولة الإسلام
لايبدو أن لهذا النص – من الناحية القانونية البحتة – أي أثر قانوني. صلاحيات أجهزة الدولة المختلفة تحكمها النصوص الدستورية الخاصة بها.
وحقوق الأفراد: حرية التملك, الحرية الشخصية, حريات التعبير والتجمع, المساواة أمام القانون, كلها منصوص عليها بتفصيل في فصل يفرد لهذا الغرض. ولا سبيل الى الزيادة فيها أو الإنتقاص منها استناداً الى نص يجعل الإسلام دين الدولة.
مهما يكن فإنها قاعدة أساسية من قواعد تفسير النصوص القانونية أن تعطى الكلمات والعبارات المعاني الطبيعية التي تستعمل بها عادة.
وبإعمال هذه القاعدة يعدو أن يكون للعبارة معنى سوى أن الدولة تعتنق الدين الإسلامي. وذلك قول "ليس فيه معنى سوى أنه فضول" . لقد رأينا أن مثل هذه التسميات في أوربا كانت لها أسباب سياسية لا علاقة لها بالدين.
18. مصادر التشريع
قبل أن نناقش ماإذا كان ثمة فرق بين أن تكون الشريعة الإسلامية أصلاً من أصول التشريع أو مصدراً من مصادره أو أن تكون مصدراً أساسياً أو المصدر الأساسي, دعنا نحاول أن نفهم مدلول عبارة "الشريعة الاسلامية".
لعله جدير بالملاحظة أن هذه العبارة لم ترد في الكتاب ولا في السنة, على الأقل لم تستعمل فيهما بمعنى مجموعة لقوانين محددة, بل استعملت في آية واحدة بمعنى "نهج في الحياة": "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فأتبعها" 18:45.
كذلك استعمل اللفظ المرادف لغوياً في آية أخرى بنفس المعنى: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً" 48:5
واستعمل الفعل "شَرَعَ" بمعنى" "اختط" أو " سنَّ" في آيتين: "شرع لكم من الدين ماوصى به نوحاً والذى أوحينا اليك" 13:42, "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" 21:42.
ولم ترد عبارة الشريعة في أي من الوف الأحاديث المدونة في صحيح البخاري أو مسلم, إلا أن دائرة المعارف الإسلامية تقول إن اللفظ قد ورد في حديث واحد في مسند الأمام احمد بن حنبل بمعنى "منهاج" وذلك شبيه بالتعبير الذي كان يستعمله علماء اليهود والنصارى الذين كانوا يعيشون بين العرب ويتحدثون لغتهم (كانوا يستعملونها كأنما هي مقابل للكلمة العبرية"misva" ويتحدثون عن "شريعة موسى" بمعنى الرسالة المتكاملة التي دعا اليها من توحيد وسلوك وقوانين). وبالرغم من أن فقهاء المسلمين فيما بين القرنين السابع والتاسع الميلادي قد أحرزوا تقدماً كبيراً في استنباط المصطلحات للتعبير عن المفاهيم الفلسفية والجدلية والفقهية إلا أنهم لم يستعملوا كلمة شريعة كمصطلح محدد Term of art إلا ما كان من باب ايرادها مرادفاً ل "حكم" "فرض", سنة. ومع ذلك فقد ظلت تستعمل بمعنى "منهاج" أو رسالة.
مهما يكن فإن عبارة الشريعة الإسلامي لم يستعملها فقهاء أي من المذاهب الأربعة ولا حتى الإمام الشافعي الذي وضع علم أصول الفقه لم يستعملها في الرسالة (انظر دائرة المعارف الأسلامية,Leiden, BRILL (1997), PP. 321-328). بل حتى في عهد الفقيه الحنفي ابن عابدين ظلت الكلمة تستعمل للتعبير عن علوم الشريعة المنزلة من عند الله أي أنها كانت تستعمل كمرادف لكلمة "الفقه" (انظر مقدمة ابن خلدون, طبعة صادر, بيروت, ص 359).
يبين مما سبق أن لفظ "الشريعة الإسلامية" بمعنى مدونة القوانين الإسلامية, لم يستعمل إلا في عصور متأخرة.
ما هو الأثر القانوني للنص على أن الشريعة الاسلامية مصدر للتشريع؟
19. بافتراض أن حداثة العبارة لا تقف حائلاً دون ايرادها في دساتير الدول الإسلامية المعاصرة وجعلها المصدر الأساسي أو مصدراً أساسياً لتشريعاتها, فما هو الأثر القانوني لهذا النص؟
أولاً: ليس في القرآن سوى عدد لا يتجاوز الثلاثين من الأحكام ذات الصفة القانونية الملزمة Positive Law منها بضع أحكام تتعلق بالعقوبات, والباقي بالأحوال الشخصية.
أما السنة فبالرغم من أنها تتضمن عدداً كبيراً من الأحكام إلا أن الإختلاف حولها يغلب على الإتفاق عليها, كما أن بينها تناقضاً مربكاً. والأحاديث الخاصة بربا النشيئة وربا الفضل من الأمثلة على ذلك التناقض والغموض.
والإختلاف أكبر عندما ننتقل من هذين المصدرين الأساسيين الى الإجتهاد, إذ لا ينحصر الإختلاف على المذاهب الأربعة بل يتعداه الى عدة المدارس المتفرعة عنها.
ثانياً: حتى إذا افترضنا أن ثمة أحكاماً تتصف بالإتساق والإنسجام والوضوح, حينئذ تكون الشريعة نفسها هي تلك الأحكام والقوانين لا مصدراً من مصادر التشريع, إلا إذا جاز أن نقول "الأحكام مصدر تشريع الأحكام" أو "القوانين مصدر تشريع القوانين".
مصادر التشريع هي الدوافع التي تمليه: المصلحة العامة, القيم الروحية, الأعراف الإجتماعية وهكذا, تلك مصادر يستوحى بها عند تشريع الأحكام الملزمة على الناس إذ يضطربون في حياتهم اليومية.
ثالثاً: لا مناص إذن من أن نفهم الشريعة الإسلامية في هذا المضمار على أنها لا تعني سوى المبادئ الإحتماعية والقيم الروحية المضمنة في مئات الآيات القرآنية وعدد كبير من الأحاديث النبوية والتي يسميها بعض الفقهاء "المقاصد الكلية": العدل, البر, الإحسان, العطف على الفقراء والمساكين, المساواة, العمل الصالح, ومجانبة الظلم والبغي والعدوان.
هذه هي المقاصد التي تصلح بل تجدر أن تكون مصدر التشريع.
تداعيات تضمين النص في الدساتير السودانية:
20. فهم الشريعة الإسلامية على أنها مجموعة قوانين محددة, وتطبيقها وتضمينها في الدستور على أنها كذلك, أدى الى أضرار إجتماعية بالغة والى خلل في القيم وسوء فهم لروح الإسلام, نذكر منها على سبيل المثال:
أولاً: فسرت عبارة الشريعة الإسلامية على انها لا تعني سوى تطبيق عقوبات الحدود, والقصاص والتعزير. هذا هو الفهم الذي دعا نظام النميري الى الإحتفال بمرور عام على الغلو في القطع والقتل والصلب, بحسبانه مرور عام على تطبيق الشريعة, وقد سمعت من مصدر موثوق أن البرفسير جارودي اعتذر عن حضور تلك الإحتفالات قائلاً إن الذي يمارس حينئذ في السودان ليس هو الشريعة.
ثانياُ: صرف النظر عن مقاصد الشريعة الكلية المفرغة في مئات الآيات والأحاديث, والتي تصلح مصدراً للتشريع في المجتمعات الإسلامية المعاصرة ولتأسيسها على قواعد العدل, وحكم القانون والديموقراطية والرفاهية الإجتماعية.
ثالثاً: إيهام الناس بأنه حسب الحاكم ان يجلد ويقطع ويصلب وأن ذلك يكفي أن يجعله حاكماً إسلامياً دون إعتبار لتحقيق مقاصد الشريعة الكلية التي لا يصلح المجتمع بدونها.
رابعاً: أفرد الدستور الإنتقالي لسنة 2005 باباً خاصاً عنوانه "وثيقة الحقوق" ونصت مواد ذلك الباب (27 – 48) على الحقوق والحريات الأساسية, وعلى واجب الدولة في كفالتها وصيانتها. وقد إنضم السودان الى اتفاقيات وعهود دولية تكفل تلك الحقوق, أهمها, العهد العالمي للحقوق السياسية والإجتماعية (1976).
لكن النص في الدستور على أن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع وفهمنا الضيق لمعنى تلك العبارة, اضطرنا الى ازدواجية بين الدستور والقوانين التشريعية من جهة, وبين التزامات الدولة بموجب العهود والإتفاقيات الدولية وممارستها في حكم البلاد من جهة أخرى. نسوق الأمثلة التالية على سبيل المثال لا الحصر.
من بين تلك الحقوق الأساسية حرية العقيدة (المادة 28), وهي حق كفلته المادة 8 من العهد العلمي المذكور, ولكن قانون العقوبات السوداني يوقع عقوبة الإعدام على الردة (المادة 129).
المادة السابعة من العهد العالمي المذكور تحرم العقوبات القاسية والمهينة لكرامة الإنسان, ولكن المادة 171 من قانون العقوبات تفرض قطع اليد على السرقة والمادة 168 تعرض من يحكم عليه بما يسمونه "الحرابة" Armed robbery بالقتل والصلب وبالقطع من خلاف. والمادة 28 تنص على عقوبة القصاص.
تلك عقوبات لم يبتدعها الإسلام وإنما ابتدعتها نظم سبقتنا بآلاف السنين وعرفها فرعون وقانون حمرابي.
خامساً: فهم الشريعة الإسلمية على أنها مدونة قانون يشمل, ليس القرآن والسنة فحسب بل كذلك اجتهادات الفقهاء في ظروف اجتماعية وإقتصادية تختلف اختلافاً كبيراً عن العصر الحاضر وتفصل بيننا وبينها قرون التخلف والجمود التي ألمت بالمجتمع الإسلامي, ذلك الفهم فرض علينا عدم التفريق بين الربا الذي حرمه القرآن الكريم والفائدة المصرفية على القروض والإيداعات البنكية.
لا جدال أن الربا حرام "وأحل الله البيع وحرم الربا" 275:2, "اتقوا الله وذروا مابقي من الربا إن كنتم مؤمنين" 278:2 ولكن القرآن لم يعرف الربا وإنما اكتفى بوصفه:
"وما أتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله".
ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى يضاعف الأجر: "وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً" 40:4, "إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم …" 17:64.
إذن فالسعي للربا ليربو في أموال الناس لابد أن يكون معناه لكي يتضاعف: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة" 130:3.
هذا هو الربا الذي كان يمارس في الجاهلية وهو يختلف عن العمليات المصرفية في أوجه, إذ أنه كان يمارس في خفية, وأنه لم يكن يخضع لضوابط وأن الدافع وراءه كان استغلال الضعفاء والفقراء, بينما تمارس البنوك عملها جهراً تحت رقابة الدولة وخضوعاً لضوابط قانونية وحد أعلى للفائدة تفرضه البنوك المركزية, والهدف منه تيسير القروض لحاجة عامة الناس والمستثمرين على السواء, "لكيلا يكون (المال) دولة بين الاغنياء منكم" 7:59.
لو قد برزت الى خير الوجود مصارف تحت إشراف الدولة في عصور الإجتهاد, ولو قد كان تدني قيمة العملةDepreciation ظاهرة دائمة من ظواهر الأوضاع الإقتصادية والمالية كما هو اليوم, لما ساوى الفقهاء بين الربا والقرض المصرفي. ولكن فقهاء عصرنا لا تتأنى لهم أصالة الفقهاء السابقين فساووا بين الفائدة المصرفية والربا, وأفتوا بأن تمارس المصارف عمليات المضاربة والمشاركة وهي عين الربا.
لقد أدت تلك الممارسات الى زيادة كلفة رأس المال, وبالتالي الى ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة, كما أدت الى اقصاء الفقراء والمساكين من ميدان العمليات المصرفية وقصرها على المستثمرين, فأصبح المال دولة بين الأغنياء, وصار المستثمرون والبنوك هم وحدهم المستفيدين على حساب البقرة الحلوب: المستهلك الضعيف.
الخاتمة:
21. سعياً الى تفادي التداعيات سالفة الذكر أقترح مناقشة الصيغة التالية كبديل للصيغة الحالية:
"المصلحة العامة ومبادئ العدالة الإجتماعية والقيم والمقاصد الكلية المضمنة في كتاب الله وسنة رسول الله (والواردة في اصحاحات العهد الجديد الأربعة) هي مصادر التشريع".
أو
"المصلحة العامة ومبادئ العدالة الإجتماعية والقيم والمقاصد الكلية المضمنة في كتاب الله وسنة رسول الله (والواردة في اصحاحات العهد الجديد الأربعة) والعرف والتقاليد التي لا تتعارض معها هي مصادر التشريع".
15 يونيو, 2011م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.