عثمان ميرغني يكتب: «منبر جدة» والتوافق السوداني المفقود    مجلس السيادةينفي ما يتم تداوله حول مراجعة الجنسية السودانية    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملامح المشروع الوطني السوداني (1)
نشر في حريات يوم 07 - 02 - 2014

نشكر الكاتب الصحفي علاء الدين محمود مجددا لتنبيهنا على أهمية بلورة مشروع وطني سوداني. ومن هذه المقالة وصاعدا أشجع بل أستفز كل الكتاب السودانيين إلى المساهمة في هذا الموضوع الهام. ليس بالضرورة ردا على مقالاتي حصرا، إذ يكفي أن يكتب الكاتب رؤيته المستقلة في هذا الموضوع . فالمشاريع الوطنية الكبرى لا تترك لقلة من أصحاب المصالح من الناس لكي يدبجوها مهما علا قدرهم، أفرادا أو حزبا أو جماعة، وإن تفاوتت المساهمات فهذا شيء طبيعي، ولكن العبرة استفزاز العقل الجمعي للسودانيين كافة عبر الحوار الجاد والجدل المنطقي والهادف رأسيا وأفقيا، حتى تتكامل العقول والأفكار مع بعضها البعض وصولا وطلبا للحد الأدنى.
بيد أنني أعترف أن المقالات "الصحفية" لها أيضا جانبها السلبي، إذ هنالك البعض ما زال يكتب في قضايا هامشية ويجرنا إلى قضايا ثانوية أو ذاتية تافهة جرا، وقد ننجر مع مرور الزمن ونصبح سطحيين نجيد "الهوهوة" و"الخربشة" كما تفعل صحافة التمكين حين تضعنا موضع الدفاع أو الهجوم، ومثاله حين ينصح الصحفي ضياء الدين بلال سيد الخطيب أن يسد "الباب البيجيب الريح!!".. أي أن يكذب!! لأنهم زعموا على لسانه إنه كتب خطاب الرئيس البشير!! واستجابت هيئة تسمى نفسها قومية لنصيحة صاحب العين الثالثة فهكرت سودانيزاونلاين ..وهكذا يسدون الباب!! كل ذلك بالمجموع قد يجعلنا ننحرف بالتدريج عن التفكير المنطقي والفلسفي الخلاق.. في رسم ملامح مشروع سوداني وطني!!
من أجل بلورة المشروع الوطني السوداني الذي قد يكون بديلا عن مشروع الدكتور حسن الترابي، أذكِّر السودانيين بالتاريخ الألماني. كمثال تاريخي حي، لم تكن ألمانيا قبل اوتو إدوارد ليوبولد فون بسمارك Otto von Bismarck رجل الدولة والسياسي البروسي- الألماني سوى دويلات وإمارات متقاتلة متشاكسة، وشغل بسمارك منصب رئيس وزراء مملكة بروسيا بين عامي 1862 و1890، وأشرف على توحيد الإمارات الألمانية وتأسيس الإمبراطورية الألمانية أو ما يسمى ب "الرايخ الألماني الثاني", وأصبح أول مستشار لها بعد توحيد إماراتها وكما يقال وحدها بالحديد والنار. ولد بسمارك في 1 أبريل من عام 1815، وتوفى في 30 يوليو 1889م.
والسؤال الآن: هل تكفي جهود بسمارك العسكرية والسياسية لخلق هذه الدولة الألمانية العظيمة كما نراها اليوم؟ الجواب لا تكفي.
هنالك عوامل أخرى لا تقل أهمية عن التوحيد القسري السياسي العسكري. أهم عامل لعب دورا كبيرا في تقدم ألمانيا الهائل بعد توحيدها على يد بسمارك هو شعور الألمان بالتخلف backwardness تجاه بريطانيا وفرنسا ربما زهاء خمسين عاما. لذا شمر الألمان عن سواعدهم أولا للتنظير للدولة الحديثة التي قامت على أنقاض "الإمارات" المتقاتلة المتشاكسة، وربما وضع السودان الحالي أفضل كثيرا من وضع ألمانيا قبل توحيدها. فرجل مثل الفيلسوف الكبير فريدريك هيجل معظم كتبه تدور حول ماهية الدولة، وحول العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم، والبحث والتفكير في الشروط والقوانين التاريخية اللازمة في نمو الأمم وتطورها الخ، فأكتشف هيجل قانون الجدل dialectic. لم يك هيجل وحده، بل بسبب الشعور العام بالتخلف والرغبة في اللحاق بعدوهم اللدود بريطانيا حميت غيرة الألمان فولدت الأمة الألمانية الحديثة العديد من الفلاسفة الذين يعتبرون اليوم من أساطين تطور الفكر البشري من ضمنهم أنجلس وماركس وماكس فيبر الخ، هذا إضافة للعديد من العلماء والمفكرين الذين أنجبتهم ألمانيا في كافة العلوم الطبيعة والإنسانية.
لذا طبقا لهذه اللمحة التاريخية الصغيرة عن ألمانيا، نحن في حاجة إلى ولادة مفكرين وفلاسفة سودانيين للتنظير للسودان في كافة الوجوه وعلى الخصوص للتنظير للدولة السودانية المدنية الحديثة، ومن ضمنها بشكل خاص منظرين في عبقرية جغرافية السودان (أوصى بشدة بقراءة كتب الدكتور الراحل المصري جمال حمدان، للأسف لم أقرأ له حتى كتابا واحدا). ليس أقل من توحيد الجنوب مرة أخرى كما ستفهم لاحقا، عبر علاقة كونفيدرالية، وإنشاء دولة سودانية قوية مركزية في محيطها يدور حولها أثنا عشر دولة.
وفي تقديري الشخصي، كان عنوان مشروع "السودان الجديد" عنوانا سطحيا طفوليا سخيفا، بل كان مضرا إذ ساهم في تشطير الهوية السودانية تشطيرا إضافيا. فعندما تتأمل محتوى مشروع "السودان الجديد" لا ترى فيه مشروعا شموليا نهضويا مثل مشروعنا من المنظور الجيوسياسي لتحفيز كافة السودانيين لصنع دولة قومية إقليمية كبرى أو عظمى يلتف حولها السودانيون، بل يتحدث جوهر أطروحة "السودان الجديد" عن حقوق فئة سودانية متظلمة وتطالب بحقوقها السياسية والاجتماعية في السلطة والثروة – ولا أكون مخطئا بالقول أن أطروحة "السودان الجديد" كانت من تأليف الراحل جون قرنق.
فهل ورقة "السودان الجديد" ورقة تكتيكية، وهل كان الراحل جون قرنق وحدويا؟
أنا شخصيا لا أعتقد أن الدكتور جون قرنق كان وحدويا، وإلا توصل للرؤية الكلية مثل رؤيتي هذه، لأن تصور دولة إقليمية كبرى يتناقض مع مصلحته في فصل الجنوب. كذلك ورقة "السودان الجديد" هي ورقة تكتيكية من قبل الراحل دكتور قرنق. أسوأ ما في هذه الورقة إنها استفزت بعض القبائل مثل الجعليين، بافتراض أن مشروع "السودان الجديد" هو "مشروع عنصري" يعمل على إزاحة كسبها التاريخي. ولكن الأسوأ قاطبة هو الدكتور حسن الترابي، ومن خلفه الخط السلفي الوهابي، حين اعتبروا مشروع "السودان الجديد" هو خصما على العربية والإسلام. هذه مغالطة كبيرة فاتت على السودانيين نقدها!! والدليل على ذلك، لم يدين الدكتور حسن الترابي هذه المقولة التي كان يروج لها العميل السعودي جعفر شيخ إدريس، بل نصحوه بلطف أن يصمت والمغادرة والإقامة في السعودية ليدعم سرا جماعة الطيب مصطفى وصحيفته (ج. شيخ إدريس يحمل جواز سفر سعودي دبلوماسي). وحتى بعد طرد الطيب مصطفى من صحيفة الانتباهة ظلت هذه الصحيفة توزع في السعودية، وهذه نقطة لا تفوت على السياسي المحترف. فالسعودية عادة لا تسمح مطلقا لصحيفة أجنبية دخول أراضيها إلا ويكون أصحابها بائعين أنفسهم للنظام السعودي وخطه السلفي الوهابي. على قاعدة: "من يرغب في ريالنا عليه أن يكون خادما له".
الملحوظ أن الدكتور حسن الترابي صمت عن مقولة "خصما على العربية والإسلام""، لأنه رغب أن يستفيد من هذه المغالطة المنطقية لصالح مشروعه الإسلامي. الطريف أن العكس هو الصحيح. كلما تمددت الحركة الشعبية بقيادة قرنق شمالا بعد توقيع اتفاقية نيفاشا كلما تعرب السودانيون الجنوبيون وتماهوا مع النسيج السوداني. وأذكر أن جون قرنق نفسه استفاد من هذه التهمة البليدة حين قال معلقا على المقولة بسخرية لاذعة: "تعالوا للجنوب أعملوا مساجدكم وانشروا اللغة العربية!!". ولم تكن العبارة إلا في صالح تكبير الدخان التكتيكي على أنه وحدوي!!
ولكن حسن الترابي هو من يهمنا لا جون قرنق!!
هذه المقولة الغبية أو البليدة "الخوف على العروبة والإسلام" تدل على بلادة من أطلقها، ولم تك سوى ردة فعل لمشروع "السودان الجديد". التخويف من الحركة الشعبية في زمن نائب رئيس الجمهورية الدكتور جون قرنق، والترويج إنه وحركته خصمان على العروبة والإسلام لها أمثلة تاريخية ولكن بشكل معكوس!! ففي الهند البريطانية خاف البريطانيون من المسلمين الهنود إستراتيجيا، إذ يوما ما سيكتشف الهندوس أن بقرتهم هذه ليست مقدسة، وربما يعتنق الهندوس والقارة الهندية الإسلام. لذا عمل آل سعود وبريطانيا معا لكي يعزلوا المسلمين الهنود في "قفص" أسمه باكستان. وروج وقتها المودودي السلفي الوهابي المتسعود وطاقمه لفضيلة "الوطنية" من أجل وطن جديد!! (مهاتيم غاندي كان رافضا هذا الانفصال وفشل في إقناع الهنود المسلمين عدم الانفصال).
الخوف البريطاني السعودي إذن كان سببه أن "يعتنق الهندوس الإسلام" على المدى الاستراتيجي البعيد.
بينما نجد العكس في السودان!! ففي حالة سودانيي جنوب السودان الذين دخلوا الإسلام، ولا يمانعون دخول الإسلام إذ القضية الخلافية ليست الدين، عمل الترابي إسلاميا وأمريكيا وسعوديا على فصل الجنوب "خوفا على العربية والعروبة والإسلام". وهذه طرفة!! وسقطة منطقية مقابل ما حدث في الهند بعد المقارنة والمقاربة. ببساطة، وضع آل سعود والبريطانيون بعض القنابل في بعض المساجد ومثلها في المعابد الهندوسية وأشعلوا الفتنة التكفيرية، فأستولدوا دولة أسمها الباكستان.
وحين أكتشف الدكتور الترابي والسلفيين أن مقولة الخوف على العربية والعروبة والإسلام بليدة منطقيا .. ماتت المقولة في مهدها، ولكن تجد نفس المقولة يرددها وزير خارجية السعودية سعود الفيصل وجهاز مخابراته من أجل تفجير العراق يوميا وتدميره بذريعة "الخوف على عروبة العراق" من "الفرسنة" الإيرانية – لذا عليهم استعادة العراق. وقطعا لن يقول لك سعود الفيصل تفجير العراق هو خوفا من أن ينتج العراق تسعة ملايين برميلا في اليوم إذا أستقر. لأنه لو أستقر العراق سينتج التسعة ملايين برميلا، وستفقد الولايات المتحدة السيطرة على عملة الدولار، لذا حكم آل سعود وواشنطون على العراق ألا يستقر أبدا وواصلوا في تفجيره شعبا وأرضا..
وكما تلاحظ … جزء كبير من السياسة هو لعب بالألفاظ من أجل التشويش العقلي، ويمكن عند هذه النقطة السؤال: لماذا وافق حسن الترابي وحركته إعطاء الجنوب تقرير المصير ثم الترحيب بانفصاله؟ بل مساعدته على الانفصال؟ الجواب يكمن في مشروع دولة الترابي الإسلامية. فوجود السودانيين الجنوبيين حاضرا بمسيحييهم ومسلمينهم، بمثقفينهم وغير مثقفينهم يفرض دولة مدنية على الجميع. لذا قالوا لنتخلص من الجنوب حتى يصبح السودان الشمالي دولة إسلامية خالصة. نفس هذه العملية تجدها في العراق، وسوريا، ولبنان ومصر. تسعى واشنطون بتخطيط إسرائيلي صهيوني لتفريغ هذه الدول الأربعة من المسيحيين باختلاق عوامل صانعة الهجرة، أي عامل طرد ديموغرافي، وتساعد كندا وأستراليا باستقبال المهجرين لتجديد دماء شعبيها الخ، لأن الوجود المسيحي في هذه الدول العربية الأربعة يفرض دولة مدنية ديمقراطية، وواشنطون وإسرائيل ترغبان أن يشتعل المشرق العربي ما بين الفرقاء المسلمين كي يرفعوا السيف فوق رقاب بعضهم البعض.
أضف إلى ذلك كله، أن عقيدة حسن الترابي، وكافة الإخوان المسلمين الحركيين قطبيين أو غير قطبيين، لا تؤمن بعقيدة الوطن والجغرافية والعلم والنشيد. يؤمنون فقط بالعقيدة الإسلامية التي يجسدها التنظيم. وعليه، مكتب الإرشاد بقيادة المرشد أو التنظيم الدولي لديهم أهم من الوطن والجغرافية الوطنية. لذا قال محمد مهدي عاكف قبل سقوط المخلوع مرسي بأيام: طظ في مصر!! وداسوا بأقدامهم علم مصر في ميدان رابعة!! قالها طظ في مصر كردة فعل لغضب المصريين من الإخوان عندما اكتشفوا تآمرهم مع أمريكا وإسرائيل لإلحاق أو ضم 40% من سيناء لدويلة حماس التي تسمى غزة (369 كم مربع). ولنفس الأسباب العقائدية النافية للوطنية فرط حسن الترابي وتنظيمه بأرض جنوب السودان، والقول إنه لم يعطي حسن الهضيبي البيعة عام 1973م هراء، لأن العقيدة والفكر واحد. ويعتبر الاستثناء الوحيد للترويج للوطنية الجغرافية هو عند نشوء دولة باكستان، حين روج للوطنية الإسلامية الوهابيون والإخوان بفقه الضرورة لإرضاء رغبة آل سعود وبريطانيا، طبعا ل "إنقاذ" الهنود المسلمين من سكاكين الهندوس التي تحركها أصابع بريطانيا وآل سعود بخفية!!
ودعونا نحلل بعض النقاط في خطاب رئيس الجمهورية الذي كتبه الترابي وأشعل به فرقعة لم تنتهي. لقد ذكر الخطاب عبارات ومنها النشيد الوطني، تقول في معناها بالمجموع: (الحرب هي السلام!!).
وهذه عبارات الخطاب حرفيا: (يقول المؤتمر الوطني إن القتال حصن لحماية الحق والكرامة وسيظل، لا يحتاج السودانيون ولم يحتاجوا قط إلى كثير شحذ عند تعيينه… فنشيدنا الوطني صادق إذ يقول: "إن دعا داع للفداء لم نهن" هو إذن وسيلة، إن لدفع الضيم، أو رد المعتدي، أو الأخذ بيد الجاني، هو وسيلة أساسية، وسيلة إلى السلام، والسلام هو الغاية هذه الوسيلة الفاعلة الضرورية لا يجوز تعطيلها ما دعا داع، أما الغاية فلا تجوز الغفلة عنها أبدا. لأن الغفلة عنها، تحويل للعراك عن تعيينه بغايته النبيلة، إلى كونه رياضة أو إدمانا، أو وسيلة لغايات أخرى، تتعلق بالمصالح الخاصة، حزبية أو فئوية أو قبلية).
ولا تخلو الفقرة من مغالطات منطقية، حين تجعل الفقرة الحرب صنو السلام، وهذا التكتيك اللفظي أستخدمه يوشكا فيشر عندما أخذ يبرر إرسال قوات ألمانية إلى البلقان بلا طائل، وقال وقتها: الحرب سلام!! ولكن على مين؟ فالشعب الألماني هو من اخترع الفلسفة والمنطق، فهل يأتي ابن المهاجر المجري المتصهين ويبيع لهم الماء في حارة السقايين؟ فحين يقول الترابي الحرب سلام، فهو منطق ضعيف. أضف إلى ذلك أن المؤتمر الوطني يضع نفسه موضع الوطن، والوطن موضع المؤتمر الوطني، فماذا لو رفض الشعب السوداني لقواته المسلحة أن تطلق الرصاص على مكون من مكونات الشعب (الجبهة الثورية!) مثلما فعل عبد الفتاح السيسي؟ ألم ترفض الشرطة المصرية والقوات المسلحة المصرية إطلاق الرصاص على الشعب المصري وتمردا على محمد مرسي؟ ووصفهما الترابي بأنهما خانا من ولاهما؟ ألا تؤيدني أن عبارة الترابي تعكس احتقاره للشعوب؟ بل يراها كافرة. إنه لا شك يحتقر الشعب السوداني. وإذا افترضا أن مرسي فاز بغلبة الصناديق وهو لم يفز لقد فاز عليه أحمد شفيق، فهل تكفي شرعية الصندوق؟ ماذا لو جرح رئيس الجمهورية الدستور حين يرغب أن يلعب "لعبة التمكين" بتحطيم القضاء، والإعلام والجيش الخ. ألم يجرح ريتشارد نيكسون روح الدستور الأمريكي فأقالوه impeached؟ .. أعتقد أن الترابي أفرغ كل ما لديه، وظهرت أنيابه الحقيقية، ولا يستحق منا سوى الشفقة.
وعندما بدأ الإخوان المسلمون بإطلاق الرصاص على الشعب المصري وتفخيخ شوارعه بالسيارات المفخخة، وقتل قواته المسلحة وشرطته في سيناء، استفتى السيسي الشعب المصري لضرب الإرهاب الإخواني السلفي. شتان ما بين الواقع المصري والواقع السوداني. ليستفتي حسن الترابي الشعب السوداني هل تحارب قواتنا المسلحة شعبها أي الجبهة الثورية؟ هل يستطيع؟ لن يفعل.
ثم بأي مقياس نحكم أن جماعة الإخوان بدعم من حماس والقاعدة مجاهدون والقوات المسلحة المصرية فئة باغية في نظر الترابي، وقواتنا المسلحة تصون كرامتنا والجبهة الثورية باغية ومجرمة ومن شذاذ الآفاق ومرتبطة بجهات أجنبية؟ فالحكم على الحالتين بمكيالين لا يبرئ حسن الترابي ودولته من جريمة إشعال الحروب لصالح دولته الإسلامية التي حرقت الأخضر واليابس. فمرسي كان يعد العدة لبناء جيش من "المجاهدين" يوازي القوات المسلحة المصرية بدعم إسرائيلي أمريكي. ونفس الشيء فعله حسن الترابي فرَّغَ القوات المسلحة من كل العناصر الوطنية اللا إخوانية وجعل من القوات المسلحة السودانية قوات تابعة للمؤتمر الوطني، ثم صنع جيشا موازيا للقوات المسلحة من الدفاع الشعبي، والأمني الخ كل هذه التغييرات الهيكلية في القوات المسلحة كانت تحت دخان ذريعة الجهاد في الجنوب. فمتى تستيقظ القوات المسلحة السودانية؟ معركة الجنوب هي الغبار المسرحي الذي أسفله فصل الترابي "الجنرالات الوطنيين" المحترفين من الجيش، وسارع بإعدام بعضهم.. فهي تصفية بلا عقل أو روح أو فكر!!
وهنالك أمثلة من التاريخ، فعندما رفضت بعض القبائل خلافة أبي بكر وامتنعت من دفع الزكاة والصدقات له حاربها أبو بكر بعنوان خروجهم من الإسلام والارتداد.. أي بغبار الردة "تمكن" من السياسية!!
نفس الشيء يكرره حسن الترابي عندما يرفض الشعب السوداني وقطاع كبير منه دولته وحكومته اللتان بناهما بالخديعة، حين يصف الشعب السوداني بالعلمانية (=الكفر) وذلك القطاع الكبير بالعمالة للأجنبي. والعمالة للأجنبي حقا تثير السخرية، فالشيخ حسن الترابي ودولته غاطسين لمشاشهم في مستنقع العمالة للإمبريالية الأمريكية وللصهيونية عبر دولة قطر والتنظيم الدولي المتحالفين مع إسرائيل ب "أمارة" (عزيزي بيريز!!). وبعد أن دمرت دول البترودولار النفطية المتحالفة مع الإمبريالية الأمريكية الجيش العراقي، ثم الليبي وساهمت دولة الترابي في إسقاطه على لسان عمر البشير، ثم يعمل الحلف النفطي الإمبريالي الآن لتدمير الجيش السوري والمصري.. فمن هو إذن العميل؟ لصالح من تدمر هذه الجيوش العربية المسلمة؟ أهو لله أم لرسوله؟
كما يصمت تلاميذ بن تيمية في القرن الثامن الهجري ويتهربون، يفعل حسن الترابي!! لن يجب على هذا السؤال قط. هل تدمير هذه الجيوش العربية لله ورسوله؟
قطعا لصالح الإمبريالية الأمريكية المستكبرة وربيبتها دولة إسرائيل. وأسالوا مصطفى عثمان إسماعيل!! وما زال مصطفى عثمان إسماعيل صاحب الجواز البريطاني يحتل وزارة سيادية، بل تمت ترقيته ليس لكفاءته، بل ل "طاعته" العمياء ولمواهبه العالية في كتم "الأسرار". المضحك والمثير للحيرة أن مصطفى عثمان إسماعيل يكتب أطروحته لنيل الدكتوراه بعنوان محاربة أمريكا!! على مين يا درش؟! أقرأ مقالنا الساخر عن م. ويكيليكس هنا:
http://www.alrakoba.net/articles-action-show-id-11975.htm
http://www.hurriyatsudan.com/?p=35215
فأوراق ويكيليكس التي فضحت مصطفى عثمان إسماعيل في حديثه مع البرتو فيرنانديز تنبئ أن فعلته ليست عملا فرديا، والدليل بقاؤه وزيرا سياديا، وهذا ما يثير الريبة حقا. بل هو عمل جماعي يقوده حسن الترابي، ولا تنسى أيضا تصريح والي القضارف السابق، واليوم تجد في المؤتمر الوطني الكثيرين من يقول لك "لم لا نتصالح مع دولة إسرائيل؟" وبالرغم من ذلك تتحفنا صحافة التمكين للنظام بجرعات ثابتة للمنظراتي الإخواني فهمي هويدي الذي يعمل بماكينة "أصابتني بدائها وأنسلت!!"؛ فهذا المأجور يتوقع كما كتب أن تفاجئه إيران بالتفاهم أو التحالف مع إسرائيل. أما السيسي في نظر الأبله هويدي فأمريكي!! لو راح القرد يا هويدي فماذا يعمل القرداتي!! صراحة أنا لا أشك البتة أن المؤتمر الوطني هذا عش دولي للجواسيس، ومزرعة ماسونية كبيرة. فماذا يعني بذل الجهد لقلب الحقائق سوى أنك مذنب ومتواطئ؟ وماذا يعني تهكير سودانيزاونلاين بسبب مقالاتي!!
وبالعودة للمشروع الوطني، نجزم، بدون تنظير للدولة على مستوى المثقفين والمفكرين السودانيين لن تقوم دولة سودانية وطنية حديثة، فمشروع الدولة لا يترك للصدفة، كما إنه لا يولد وحده عفوا طبقا للمثال الألماني وبقية الأمم الناهضة. ففي كل أمة نهضت هنالك رجال حبوا أوطانهم وشعوبهم ولعبوا أدوارا مهمة في النهوض ببلادهم. بل ترك هذا المجال لقلة غير موهوبة، وكما حدث.. أهمل حزب الأمة هذه المسألة رغم أن الصادق الصديق المهدي درس ثلاث سنوات فلسفة وعلوم سياسية PPE ببريطانيا. أما الدكتور حسن الترابي لقد اثبت إنه طبلة فارغة، ولا أرى فيه إخلاصا لا للإسلام الحقيقي ولا لجغرافية السودان وشعبه. فإخلاصه الحقيقي هو للإسلام السياسي الإقليمي والدولي ربطا بدول الخليج وأمواله ومهادنة السلفية الوهابية التكفيرية، مؤملا أن يدخل التاريخ فاتحا حتى لو تمزق السودان قطعا متناثرة.
وبلحاظ كذباته المشهورة وخداعه المستمر شطب الترابي نفسه من شريحة المفكرين، فالمفكر الحقيقي لا يكذب أبدا على شعبه. وبفضل العقلية القطبية وضعف فكره السياسي، دمر السودان.
ومع أربع وعشرين سنة من الخداع المستمر بل منذ 1964م، أتعجب ألا تلد الأمة السودانية شخصا أو جماعة سياسية تدحض شخص الترابي رغم سهولة دحضه. ويمكن ملاحظة أسلوبه جيدا، فمنذ خطابه المسرحي الذي ألقاه عمر البشير لجأ الترابي إلى الصمت، وإذا راجعت أسلوبه إلى أربع عقود إلى الخلف تجده لا يتكلم مطلقا في قضايا السودان المصيرية بينما هو يفتلها بخفية في الغرف المغلقة، مترفعا، محتقرا للشعب السوداني، متعللا بمحاربة الشيوعية في الستينيات لقبض رشوة الملك فيصل عام 1965م، وبفضلها، وعثور الترابي على آلتين، إحداهما الدعم الخليجي الذي يخفيه بمهارة لمحاربة الشيوعية والعلمانية، والأخرى اللعب برافعتين غبيتين الصادق والميرغني، ينجح الترابي في كل مناورة بأسلوب ميكافيلي في الصعود درجة على سلم المجد الشخصي، وينتهي السودان وشعبه رهينة في يده.
ولكي تفهم نقاط ضعف الدكتور حسن الترابي السياسية والفكرية الإسلامية الدينية، تأمل قول الدكتور حسن مكي الأخير في الترابي. قال: أن والد الترابي يفهم في الدين أفضل من أبنه!! ويدعم هذه النقطة ملاحظة أخرى أن الترابي يتحاشى إيران وعلماء إيران – أي يتحاشى علماء ومفكري الشيعة عموما. ليس لأن القرب من إيران "تابوو" خليجي كما يروج صحفيو التمكين للترابي، بل لأن الترابي لا يستطيع التفوق على علماء الشيعة القدامى والمعاصرين رغم إنه عيال على كتبهم ينهل منها بخفية. وبهذا التكتيك، التلميح دون التفصيل، والاختفاء وقلة الظهور، والجلوس مع صحفيين ضعفاء هزيلين مثل احمد منصور الذي ثبت إنه لص شقق حين كان طالبا بكلية الآداب السنة الثالثة بجامعة المنصورة،
http://www.youtube.com/watch?v=_3nqVwjBXq8
وأنخرط أحمد منصور في الإسلام السياسي لكي يغطي على خلفيته الحقيقية، وبممارسة هوايته في اللصوصية أستطاع أن يقفز ب "فهلوة" من صحيفة "المجتمع الكويتية" تملكها جمعية خيرية للإخوان المطوع رأسا لكي يجلس في قناة الجزيرة. هذا الذي لا يستطيع سوى اللعب بحواجبه هو المذيع التلفزيوني المفضل لدى الدكتور حسن الترابي. ولكن حين تقرأ مقابلة صحفيي صحيفة إيلاف السعودية مع الترابي، وهم مشبعين بالفكر السلفي الوهابي، ستذهل أن الشيخ حسن سلفي وهابي استقراءا من ردوده، دفاعا عن نفسه ضد هجوم صحفيي إيلاف كونه ليس سلفيا 100%. وفي هذه المحاورة مع صحفيي إيلاف يرى الترابي أن المجرم فيصل بن عبد العزيز كان مخلصا للإسلام، وإنه أفضل من جمال عبد الناصر. وسقط الرجل الترابي في نظري تماما. ماذا يفيدنا علمه، وهو كذاب يخفي ما لا يظهر؟ ويلوى عنق الحقائق خدمة للبلاط السعودي مثل التابعي حسن البصري للمروانيين؟
وليس ضعف حسن الترابي هو شيء نحن نكتشفه، بل أكتشفه تلاميذه من قبل وبحق. ولا نقصد أمثال الصادق عبد الله عبد الماجد والحبر وعلي يعقوب وعصام أحمد البشير – فهؤلاء غير موهوبين!! بل أمثال أشخاص مفكرين كالدكتور بهاء الدين حنفي، وغازي صلاح الدين، وحسن مكي الخ؛ فالدكتور حسن مكي غضب عليه الترابي فعاقبه بوضعه على الرف، بينما الدكتور غازي صلاح الدين والدكتور بهاء الدين حنفي، وثمانية مثلهما، كانوا كثيري النقد لشخص الترابي داخل التنظيم، فدحرجهم الشيخ حسن الترابي كي يوقعوا على مذكرة العشرة.
فرضية مسرحة المفاصلة عام 1999م هي فرضية حقيقية، ليست إشاعة ولها ما يثبتها من الدلائل والقرائن.
ولكن يجب أن ينتبه القارئ، أن الموقعين على مذكرة العشرة لم يدركوا ولم يدروا أبدا إنها مسرحية، لقد كانوا هم أنفسهم ضحية خدعة الدكتور حسن الترابي. والقصة.. لقد تم اختيار العشرة بدقة لكونهم أكثرهم نقدا للترابي، وأكثرهم حنقا فكريا وتنظيميا، فاندفعوا بحماس للتوقيع على المذكرة بصدق، ولعب علي عثمان دور "المزحلقاتي". فمسرحية المفاصلة إذن ربما يعرف حقيقتها فقط عمر البشير، وعلي عثمان (الذي جلس مطولا يبتزهم بها!!) وربما نافع علي نافع، وتسرب خبرها من علي عثمان لمصطفى عثمان إسماعيل ومن الأخير للغندور، وهذا يفسر لم نجح هذان الأخيران في الطفو على سطح بحر هائج. نجحا لأنهما كانا يعلمان بسر "الفولة" فأسبغا ولاء الطاعة المطلق للبشير نفاقا حتى الثمالة، رهانا على فرصة الصعود مستقبلا – ولقد نجحا في ذلك أيما نجاح.
أما بقية الإسلاميين ما تحت أصحاب مذكرة العشرة فقد انقسموا بصدق كلا حسب ميوله وتطلعاته، نحو القصر أو المنشية. ولم تخلو المسرحية من صولات ردح وسباب ما بين البشير والترابي حين وصف الأول الأخير بالماسونية. بينما العضوية الأدنى مارست التعسف بروح تلقائية مثلما فعلوا بمحمد الأمين الخليفة، وهذا ما أعطى المسرحية درجة من الإتقان يصعب التشكيك فيها.
لماذا أبتلى أهل السودان بشخص حسن الترابي؟
الإسلام في السودان لم يك ناقصا حتى يأتي رجل من ولاية الجزيرة فيتمه أو يكمله مثل الدكتور حسن الترابي. كل ما في الأمر كانت هنالك مثالب اجتماعية مثل شرب الخمر والزنا والميسر الخ، إضافة إلى الجهل والأمية وبقايا فواحش استعمار تركي غاشم، بل كان الاستعمار البريطاني أفضل منه عدلا وإنسانية واستنارة. وحكم الأتراك بلاد العرب وشعوبه أربع قرون ونصف. كانت قرونا مظلمة بمعنى الكلمة، ومن ضمنها السودان ولكن متأخرا على يد الوالي المصري محمد علي باشا. كانت هنالك ممالك مسيحية وإسلامية في السودان الخ، إضافة إلى شد السودانيين الرحال للأزهر، وهنالك بقية حضارات قديمة مثل الحضارة النوبية، ومع ذلك كان السودان وحتى 1965م نسبيا أكثر استنارة وتنويرا من الكثير من الدول العربية وشعوبها خاصة الخليجية. فما هو إذن الشديد القوي الذي حول السودان بدءا من عام 1965م إلى هدف للدعوة الإسلامية؟
هل كان السودان والسودانيين يحتاجون إلى دعوة إسلامية؟ هل بسبب الخمر، أم الميسر أم الزنا في الستينيات؟
نحن نُصِّر على التذكير برشوة الملك فيصل بن عبد العزيز للنخبة السياسية السودانية عام 1965م وكان وعاء هذه الرشوة كلا من الهادي عبد الرحمن المهدي ومحمد أحمد محجوب، وشاركهما في الغنيمة الشاب الدكتور حسن الترابي. ونجزم، بدءا من عام 1965م لم يتحطم المعبد الديمقراطي فحسب، بل أصبح السودان هدفا للدعوة السلفية الوهابية بغطاء محاربة الشيوعية، ولم تك هذه الشيوعية في حسابات المجرم فيصل بن عبد العزيز سوى محاصرة القائد الخالد جمال عبد الناصر. وكان "الإرهابيون" أي الإخوان المسلمون طبقا لتوصيف 2013م يشكلون رأس الرمح في المشاغبة التي قادها آل سعود لتثبيت حكمهم وترضية للأمريكي وللصهيوني ولحلف الناتو. اليوم يتذكر الإسلاميون بأثر رجعي، مثل الدكتور حسن مكي، أن الحصاحيصا –موطن رأسه- تآخى فيها المسجد، والخمارة، وبيت الدعارة.. حين أستدعى ذكرياته في بداية دخوله لثانوية حنتوب، وفي هذا المناخ يذكر "طالب الثانوي الغض" حسن مكي قراءته لمعالم الطريق لسيد قطب الذي أعجب به في توصيف المجتمع الجاهلي المعاصر – وكان الكتاب سبب انخراطه في الحركة الإسلامية وقتها بحنتوب الثانوية.
فمن أين يعلم طالب الثانوي الغض حسن مكي – الذي تمتلئ روحه بالنظافة والمثالية كأي شاب قارئ نهم في عمره- أن التشوهات الاجتماعية في الحصاحيصا وغيرها هي من مخلفات الاستعمار التركي من جهة والعادات الاجتماعية من جهة أخرى؟ ومن أين يعلم أن هذه الصورة النمطية لمجاورة الخمارة للمسجد الخ علاجها في العلوم الإنسانية مثل الاقتصاد والاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس السلوكي الخ وليس علاجها سيد قطب أو ابن تيمية؟ فمن أين يعلم الطالب الصغير حسن مكي أن سيد قطب هو "القنبلة" السعودية الأمريكية لتفجير جمال عبد الناصر؟ هذا الرجل العظيم الذي حمل على أكتافه كل الاستعمار القديم والحديث، وأول من أبتلي بعربان النفط الذين تحالفوا مع البريطاني والأمريكي من أجل جنيه ماري تيريزا المضروب. لم يربط طالب الثانوي حسن مكي معالم سيد قطب إلا بتلك الخمارة، ولكنه لم يدرك أن سيد قطب دواء مغشوش. هكذا قامت الحركة الإسلامية في السودان وسط طلبة الثانويات الذين لا يدركون حقيقة أبعاد الصراع الإقليمي والدولي!!
فهل كل هذا لا يدركه حسن الترابي؟ هل لا يدرك حسن الترابي أن تلك المثالب الاجتماعية مثل شرب الخمر والزنا والميسر الخ، علاجها في دائرة العلوم الإنسانية مثل الاقتصاد، والاجتماع، والأنثروبولوجيا وعلم النفس السلوكي الخ؟ بلى يدرك، لكنه شيطان القيادة هو الذي زين له أن يركب مركب العقيدة السلفية الوهابية ويُنظِّر (الصلاة لا العقيدة!!) ليقفز على الدولة. وإذا لم يرغب الشعب السوداني في الصلاة، فهل تصنع له مطوعين يحملون الكرابيج مثل المهلكة السعودية؟ مرحي بالمفكر الإسلامي!! من ينكر أن الترابي ودولته بنظريته الكئيبة (الصلاة لا العقيدة!!) فتح الباب على مصراعيه للسلفية الوهابية التكفيرية في السودان؟
ربما نحتاج إلى مقالة أخرى، وفيها نشير ماذا يكون دور صحافة التمكين القادم في تلميع الشيخ حسن الترابي مجددا، وكيف سيلمعونه!! وهو من أحتسب شتائم نفس الصحفيين عقب المفاصلة المسرحية 1999م، وماذا يمكن أن يقول عصام أحمد البشير الآن حين قال وقتها "ثمن حرية الترابي وخروجه من السجن اعتزاله للسياسة"!! وماذا يمكن أن يقول علي عبد الله يعقوب حين اتهم الترابي وهو سجين بأنه يخترع دينا جديدا؟ الغريب بل الطريف أنا الوحيد من كان يدافع عن الترابي!!
لا علينا، يهمني في المقالة القادمة التحدث عن المصطلح الزائف "العلمانية" وفضحه، وكيف سيستفيد به أو منه حسن الترابي وجوقته الصحفية في دائرة التمكين الإعلامي. لقد بدأ يطنطن به الصادق الرزيقي وطارق المغربي، وهذه علامة لما قد يأتي من معزوفة موسيقية للمرحلة الجديدة القادمة. كذلك، دور الجبهة الثورية في عرقلة مشروع دولة الترابي الإسلامية، وما هي طبيعة العرقلة، ولماذا يصر المؤتمر الوطني أو بالأحرى حسن الترابي تصفية الجبهة الثورية؟ ومن هو الذي أطلق إشاعة أن مجموعة الراحل خليل إبراهيم تابعة للمؤتمر الشعبي؟ ونواصل…


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.