البرهان يلتقي وفد البني عامر    وزارة العدل تحتسب المحامي العام الأسبق لجمهورية السودان السودان    ريمونتادا باريس تلقي برشلونة خارج دوري الأبطال    دبابيس ودالشريف    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    شاهد بالفيديو.. غرق مطار دبي    قوة مختصة من مكافحة المخدرات نهر النيل تداهم أحد أوكار تجارة المخدرات بمنطقة كنور وتلقي القبض على ثلاثة متهمين    ماذا حدث بالضبط؟ قبل سنة    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    قمة الريال والسيتي بين طعنة رودريجو والدرس القاسي    رونالدو ينتظر عقوبة سلوكه المشين    ولايات أميركية تتحرك لحماية الأطفال على الإنترنت    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    جيوش الاحتلالات وقاسم الانهيار الأخلاقي المشترك    قطر.. متقاعد يفقد 800 ألف ريال لفتحه رابطاً وهمياً    مصر.. ارتفاع حجم الاستثمارات الأجنبية إلى 10 مليارات دولار خلال 2023    خبير نظم معلومات: 35% من الحسابات الإلكترونية بالشرق الأوسط «وهمية ومزيفة»    مواطنو جنوب امدرمان يعانون من توقف خدمات الاتصال    تفاصيل إصابة زيزو وفتوح في ليلة فوز الزمالك على الأهلي    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    شركة تتهم 3 موظفين سابقين بسرقة عملائها    اجتماع للتربية فى كسلا يناقش بدء الدراسة بالولاية    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    ضبط الخشب المسروق من شركة الخطيب    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    الجمارك السعودية: دخول الأدوية مرهون بوصفة طبية مختومة    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مزاد الانتفاضة ما بين الصادق والترابي 2-2
نشر في حريات يوم 29 - 07 - 2012

وما يدل على جهل الشيخ الترابي بالظاهرة السلفية الوهابية من حيث الجوهر والمحاذير والنتائج الممستقبلية هو فتحه أبواب السودان طيلة التسعينيات مشرعةً لأسامة بن لادن ولكل السلفيين التكفيريين من تونسيين ومصريين وسوريين وجزائريين الخ وكان الشيخ الترابي بخفة العقل كأن يعتبر هؤلاء مظلومين من قبل أنظمة بلادهم. لا يدرك الترابي أن مشيخة الأزهر لم تسمح وحتى قرنين إلى الوراء أن تضع كتب بن تيمية وتلاميذه على أرفف مكتباتها ناهيك من وضعها كمقررات دراسية، ولكن الأزهر سقط أخيرا ورفع راية الاستسلام الوهابية في عصر السادات ومحمد سيد الطنطاوي والريال النفطي. ويحضر في ذهني الآن التونسي محمد عمر دولة الذي كان يشرف على ويضع البرامج الدينية من وجهة سلفية وهابية بحتة للتلفزيون القومي السوداني كأحد الأمثلة، يروج لمعتقده السلفي الوهابي عبر الشاشة القومية أن عقيدة السنة الأشعرية ليست صحيحة، بينما في نظره عقيدة بن تيمية هي الصحيحة. طبعت جامعة الرباط الوطني لمحمد عمر دولة كتابا ساذجا طبعة فاخرة، بعنوان: نحن ما بين المظاهر والجواهر. ويعتبر الكتاب من أوله إلى آخره نسخا وحشوا لأقوال بن تيمية وتلاميذه وعبد الحي يوسف الخ مع كثير من التملق والنفاق المصلحي. طبعت جامعة الرباط الوطني كتابه على نفقة دافع الضرائب السوداني. وأترك جانبا السؤال لم تطبع جامعة رسمية لأية دولة ما كتابا لشخص أجنبي حركي من كوادر السروريين المنظمين، ولا يرتقي مستواه العلمي إلى مستوى طالب جامعي في السنة الأولى.
وعند النظر إلى سلوك الحركيين السلفيين التكفيريين على عقيدة بن عبد الوهاب ومشتقاتهم مثل السروريين، وما يفعلونه من نهب وسلب وسطو للبنوك بالإكراه المسلح في لبنان واليمن ومصر وليبيا والجزائر الخ والمذابح الدموية البشعة التي يرتكبونها بالسلاح الأبيض بذبح عائلات أو قرى كاملة لمخالفيهم وكمية المتفجرات التي يصنعونها ويستخدمونها نسبة لمعتقداتهم التكفيرية تجاه أضرحة الصالحين أو المسلمين الموحدين التقليديين أو حتى المسيحيين في مصر والسودان، والجزائر، وتونس، وليبيا، والصومال، ونيجيريا، وجنوب الصحراء مالي (عاصمتها القديمة تمبكتو: أكبر مركز يحوي مخطوطات إسلامية قديمة في العالم، ويبدو أن هذه المخطوطات هي هدف صبية آل سعود لتدميرها لصالح عقيدة بن تيمية) والنيجر وتوجو، واليمن، والعراق، وباكستان، وأفغانستان، والشيشان، وروسيا، وآسيا، وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية الخ تجد أن القاسم الأعظم المشترك بين فرق السلفية جميعا هو سفك الدماء والقتل.
ومع ذلك يصمت شيوخ أهل السنة والجماعة الأشعرية على هذه الجرائم ضد الإنسانية خوفا من عقاب آل سعود.
وتعتبر دموية هؤلاء القتلة المعاصرين امتدادا لدموية محمد عبد الوهاب 1703-1791م وحليفه محمد ابن سعود ت 1765ه في بداية دعوتهما بدعم بريطاني غير محدود، وقد سفكا دماء قبائل الجزيرة العربية ف بمجازر جماعية تحت عنوان التوحيد والتنزيه. وبعد رحيل الرجلين الشؤمين، نقل أبناؤهما الملطخة أيديهم بالدماء نشاطهم الدموي إلى النجف الأشرف وكربلاء الجريحة، فذبح عبد العزيز بن محمد بن سعود وأبنه سعود أهاليها وسلبوا ونهبوا ما فيها من ذهب ومجوهرات لثلاث مرات على التوالي 1216، 1221، 1225ه، الموافق ميلاديا 1801، 1806، 1810م. وقد وصف محمد حامد الفقي – مؤسس جمعية أنصار السنة المحمدية في عام 1926م بمصر لصالح آل سعود – وجنده محمد رشيد رضا، ومن المتحمسين للوهابية، مجزرة كربلاء مشيدا بدور “جند الإسلام" (!) الوهابي، قائلا:
(توجه سعود في ذي القعدة من سنة 1216ه/1801م بجموع كثيرة (جيش مكون من عشرين ألفا من الأعراب) وقوة عظيمة إلى العراق والتقى في كربلاء بجموع كثيفة من الأعاجم ورجال الشيعة (وهم الزوار العزل طبعا) الذين استماتوا في الدفاع عن معاقل عزهم ومحط آمالهم، قبة الإمام الشهيد الحسين رضي الله عنه وغيرها من القباب والمشاهد. ولكن جيش التوحيد (!) قد تغلب بقوة إيمانهم (!) وصدق عزيمتهم في الجهاد (!) لهدم كل نصب وطاغوت (!) اتخذ مع الله شريكا في العبادات وجعل لله ندا في القربات، وشأن مشاهد كربلاء والكاظمية والنجف ومعصومة قوم (قم) وموسى الرضا عند الشيعة وتعظيمهم لها معلوم للقاصى والداني. فكانت موقعة هائلة وكانت مذبحة عظيمة سالت فيها الدماء أنهارا، خرج منها سعود وجيشه ظافرين ودخل كربلاء وهدم القبة العظيمة بل الوثن الأكبر (!) المنصوب على ما يزعمون من قبر الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما. وأقر الله بهدمها عين الإمام الحسين وعيون الموحدين الذين يتتبعون شرعة جد الحسين أشرف الخلق محمد صلى الله عليه واله وسلم ورضي الله عن الحسين وآله الطاهرين). المرجع “أثر الدعوة الوهابية” (ص 84)، محمد حامد الفقي.
حقا لم يصدق الفقي إلا في وصفه للدماء التي سالت أنهارا ولكن ليس لتقر عين الحسين وجد الحسين صلى الله عليه وآله بل لتمتلئ خزائن الوهابية من الأموال المنهوبة والمسلوبة ويرضى أسيادهم اليهود والنصارى، ولا ضرورة لمزيد تعليق على كلام هذا الشيخ المتكسب المستنفع بريالات آل سعودي وجنيه ماري تيريزا الذهبي.
ونعود للتساؤل: ما هو الاختلاف بين دموية السلف والخلف الوهابي؟ أي ما هو الفرق ما بين دموية القرن الثامن عشر بدءا من أعوام المؤسس 1703-1791م للوهابية والأعوام التالية في القرن التاسع عشر والعشرين والواحد وعشرين؟ لا فرق. فالوهابية هي هي وتزداد شراسة ودموية في كل عقدية بشكل مستطرد. كل ذلك الدم في الماضي حتى ينهب آل سعود سكان الجزيرة العربية، وبعد أن ظهر البترول في المرحلة الثالثة للوهابية – أهدى أحفاد المؤسسين فلسطين لبرسي ذكريا كوكس، وتحالفوا سياسيا مع الصهيونية والإمبريالية الغربية وأصبحوا أكثر شراسة وشبقا للسلطة وإراقة دماء المسلمين الموحدين بغطاء الدين، ثم يأتي بعض المتكسبين في السودان لكي يلقنونا الدين السعودي الجديد، علي عقيدة بن تيمية وحده لا شريك له. فما هو رأي الشيخ الترابي؟
الذي أحيا المرحلة الثالثة للوهابية بعد مماتها على يد محمد علي بيك الكبير والي مصر هو الصبي وقتها عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود 1873-1953م بدعم وتخطيط بريطاني قوي وعينت له مستشارا متمرسا رجل المخابرات البريطاني سنت جون فيليبي 1885-1960م. كان الرجلان يخدعان قيادة جيش الأخوان (إخوان الإرطاوية) طيلة أثني عشر عاما لتعمل سيوفهم على رقاب الموحدين، كأن يقال لهم أن أهل الطائف كفرة فتعمل سيوف الأخوان ذبحا في الموحدين؛ ذبح الأخوان السذج في الطائف مائة وخمسين ألفا من سكانه في معركة واحدة، وأترك جانبا ما يصاحب المجزرة من سلب ونهب ولصوصية لإخضاع كامل سكان الجزيرة للتاج البريطاني ولآل سعود..وهكذا دواليك تحت خدعة التنزيه والتوحيد. وبسيوف الأخوان العمياء أستعمر عبد العزيز بن سعود الجزيرة العربية لعائلته بحد السيف وتكفير المسلمين الموحدين، لكن قيادة الأخوان كشفت عمالة بن سعود لبريطانيا الكافرة في عام 1927م فعقدوا مؤتمرا في الإرطاوية فكفروه وأولاده وأعلنوا الحرب ضده، فأبادهم بن سعود جميعهم بدعم بريطاني مكثف خلال الأعوام 1927-1931م، وتسمى ثورة الأخوان الثورة العربية الكبرى.
أما اليوم أي بعد ثلاث قرون من دعوة محمد عبد الوهاب، نجح الأمريكيون والبريطانيون وآل سعود أن يصنعوا النسخة العصرية لمحمد عبد الوهاب في شخص أسامة بن لادن بأسلوب التقمص عبر الاستنساخ النفسي والعقيدي والتاريخي historical cloning & identification. وقد أدى أسامة بن لادن دوره التقمصي جيدا ولكن بسذاجة منقطعة النظير حين تدرب أولا تحت أمرة المخابرات المركزية الأمريكية والمخابرات السعودية وقاتل في الافغانستان ضد القوات السوفييتية (ومع ذلك!! صنع الإعلام السعودي والخليجي من شخص بن لادن العميل لدولة استكبارية كافرة “أسطورة وصحوة إسلامية” صدقها السذج في العالم العربي). وانتهى الحال بإبن لادن طريدا منبوذا. وهو في قبره استفادوا من “شبحه الدموي” حتى بعد موته الطبيعي المفاجئ في عام 2001م بفبركة أشرطة مزيفة لشخصه الضعيف على شاشة قناة الجزيرة لعقد كامل.
ونسأل الشيخ الترابي، هل هذا إسلام؟ هل الإسلام دين دموي؟ وهل لا يستعظم الإسلام دماء البشر والإنسان مطلقا؟ نقول بل يستعظمها مطلقا، فالبشر إما إخوان لك في الدين أو في الإنسانية. ولكن حين يصاب المسلم المغرر به بلوثة عقيدة وفكر الوهابيين الخارجي (الخوارج)، وينشره في عصرنا الحديث آل سعود وحليفهم حفدة بن عبد الوهاب بن سليمان (شوليمان) القرقوزي اليهودي التركي وأزلامهم في كافة أنحاء العالم بقوة أموال النفط، يصبح القتل باسم الله والتوحيد وبشبهة التكفير من الضرورات السعودية للحفاظ على مملكة النفط في يد أسرتهم، وهكذا تضع الوهابية نفسها في مصاف الحركة الصهيونية بل أشد خطرا وفتكا منها.
يمكن الاستنتاج أن الشيخ الترابي في العقدية 2000-2012م زالت غشاوته السياسية والدينية حين اصطبغ كل شيء حوله باللون الأحمر القاني بفضل دماء المسلمين السنة الأشاعرة التي تسفك عبطا – وأترك الدم الشيعي جانبا. وربما أصيب شيخنا باكتئاب حاد لاكتشافه جوهر القضية وليس شكلياتها الملتبسة، ونضعها في هذا القالب من الأسئلة. هل يكفي أن تفسر قضية “التنزيه والتوحيد” كل هذه الدماء المسكوبة أم أن هنالك خدعة مبطنة؟ هل المقصود ذبح كل المسلمين السنة الأشاعرة بشكل مكثف وغير مسبوق حتى يعتنقوا عقيدة بن تيمية فيرفع عنهم السيف؟ إذن لماذا يدعي الوهابيون إنهم من أهل السنة والجماعة؟ وإذا كانوا منهم لماذا يذبحون أهل السنة والجماعة الأشعرية ذبح الشاة بلا رحمة مثلما يفعلون في جنوب الجزائر وغيرها؟ ولماذا تنفي الوهابية إنها ليست مذهبا مغايرا لأهل السنة والجماعة وتدعي تكتيكيا إنها حركة إصلاحية فقط، هل لإتمام عملية الاختراق والخدعة؟
ولتقريب الإشكالية إلى فهم السني الأشعري، نقول، تعتبر الشيعة في نظر الوهابية المجرمة ليسوا بشرا بل “شيء” – لقد تم تشييئهم بأسلوب إقصائي عدمي قطعي (تفسير: عكس التشييؤ الأنسنة). ومن صفات “الشيء” إنه كائن غير إنساني أو كائن غير حي بلا روح يسهل إعدامه وإفنائه مثلا الحجر الخ، وبعد التشييؤ تأتي بقية الصفات السلبية الأخرى للتبرير مثل كونهم كفرة أنجاس يسبون الصحابة الخ. وكما يمكنك إفناء شيء، تستحق الشيعة في نظر العقلية الوهابية الإجرامية الإفناء أي التصفية المادية – والإعدام (من العدم) annihilation إما ذبحا أو قتلا أو تفجيرا بشكل مطلق. فلقد رأينا مثلا في العراق لا يكتفي مراسيل آل سعود بتفجير ضريح الحسين أو الكاظم أو العسكريين بسمراء من أجل التنزيه والتوحيد، بل يستهدفون “أجسام” جمهور الشيعة بالتفجير، فعلى مدار عشرة أعوام وإلى اليوم يضع مرتزقة ومراسيل آل سعود يوميا أطنانا من المتفجرات في الأسواق الشعبية الشيعية يروح ضحيتها في المرة الواحدة المئات من الشيعة العراقية وغير العراقية الأبرياء.
نفس موقف العقيدة الوهابية من الشيعي هو موجه ضد السني الأشعري – أغيار، ولكن ما يمنع الوهابية أن تتطرف تجاه السنة الأشعريين كتطرفهم نحو الشيعة عدة اعتبارات. أولها أن عدد السنة الأشعرية يبلغون المليار ونصف المليار، بينما الوهابية ومشتقاتها في أحسن الفروض لا يزيدون عن بضعة ملايين – أي مثل السمكة في المحيط. بما أن الشيعة تتباين وتتمايز عن السنة الأشعرية في بضعة نقاط ليست عدائية، يسهل على الوهابية الاستفراد بالشيعة بالكيفية أعلاه – إي إفنائهم، بينما من المستحيل أن تبرز الوهابية وجهها الحقيقي أمام مليار والنصف مليار مسلم سني أشعري. لذا تمارس الوهابية الاختراق والخديعة والمداورة تجاه العالم السني الأشعري، وتعمل على كل الأصعدة لكسب الأشعريين لصفوفها عبر الإغراءات، وإن اضطرت أن تذبح الوهابية السنة الأشعرية ذبح الشاة – توهم الوهابية إعلاميا إنها حالة متطرفة شاذة تقع مسؤوليتها على بعض الأفراد المتطرفين.
لا شك أن بن تيمية من الهالكين ليس لأن علماء عصره دمغوه بالنفاق وإنه حقا من المنافقين فحسب، بل لأن ضلالاته أيضا تسببت في سفك دماء المسلمين الموحدين على مدى قرون. كل الدماء المسفوكة هي في عنقه وفي عنق من أمن بعقيدته الفاسدة، جميعهم في نار جهنم وبئس المصير. إنها لعظيمة حقا الدماء التي سفكت في الجزائر، واليمن، وأعظمها حرمة كمية الدماء التي سفكت في العراق بشكل خاص وهي تسكب إلى اليوم لكي لا تستقر دولة العراق ومن ثم تنتج تسعة ملايين برميلا في اليوم منافسة لآل سعود ولأسباب اقتصادية أخرى هامة، مثل كي لا تفلت السيطرة الأمريكية على تسعير عملة الدولار دوليا عبر السيطرة على براميل الزيت السعودية المنتجة. ولبنان البطل كم هم اليوم يتآمرون عليه لوهبنته لطعن سوريا من خاصرتها، وثم ليبيا الجريحة، وثم أقاليم السودان التي يمزقونها باسم شريعة بن تيمية خاصة دارفور – وانفصال جنوب السودان ليس بمنأى عن اللعب السعودي لصالح واشنطون. والآن حاكما السعودية وقطر يسفكان دماء الشعب السوري، وتبدو نهايتهما قد دنت على صخرة بشار الأسد.
ولا تفوت على ذكاء الشيخ الترابي حجم المتغيرات السياسية، فبعد الخداع المتخفي الذي أستمر لسنوات أضحت السعودية اليوم تكشر عن أنيابها علنا وتلعب ورقها بالمكشوف مع القوى الصهيونية والإمبريالية ضد القضية الفلسطينية والشعوب العربية وعلى الخصوص ضد الشعب السوري ونظامه ويعني ذلك في التحليل السياسي أن النظام السعودي يتخبط ويشعر بدنو انهياره. بينما أعورهم مفتي عام السعودية عبد العزيز آل الشيخ ودجالهم الديني المتشعوذ، ما زال يقوم بنفس الدور الذي قام به أجداده قبل ثلاثة قرون. وصف المواطنين المحتجين شرق البلاد ب”الغوغاء” وما يقومون به ب”الأمر الخطير”، معتبرا أن الدولة تقوم بواجبها، وأن من واجب أهل القطيف أن “يشكروا الله على النعمة”. وأكد في موقف سابق له أنه لو ثبت وصول الدعم بأمانة ودقة إلى “الجيش السوري الحر” فإن هذا الدعم يعتبر من الجهاد في سبيل الله (وليس في سبيل إسرائيل!!). وأضاف: “كل ما يقوي شوكة هؤلاء ويضعف شوكة النظام السوري الدموي مطلوب شرعا” (طبقا لدين آل سعود)، هكذا!! دون أن يرد عليه “مخلوق” صحفي أو رجل دين، كلهم أو جلهم في العالم العربي والإسلامي مختونين على سنة آل سعود ويتكسبون السحت من موائدهم.
أين الشيخ الترابي وأين رأيه في الدين السعودي الجديد وما رأيه في كل هذه الدماء المحرمة المسفوكة عقدية بعد عقدية؟ هل ينكر الترابي أن آل سعود يصنعون الحروب الواحدة تلو الأخرى؟ ولم يربط الشعب السوداني مصيره بنظام آل سعود المجرم الدموي؟ فهل حقا لم يصطدم وعي الشيخ الترابي بحقائق الوهابية الإقليمية الخفية إلا متأخرا جدا؟ لم الصمت؟
قبل شهرين فقط (!) أكتشف رئيس الجمهورية عمر البشير أن أصابع أمير قطر ضالعة في تمزيق السودان من الخلف فهاج وماج وأزبد في جلساته الخاصة، وتوقع المراقبون أن يقطع البشير علاقة السودان الدبلوماسية بقطر ولكنه لم يفعل – لماذا بلع عمر البشير كل شيء، ولماذا بلع كل شيء بصمت؟
صمت!! صمت!! صمت!!
إذن لا المؤتمر الوطني ولا المؤتمر الشعبي جديرين بقيادة شعب السودان – وتعزى أزمة السودان الحالية بدرجة كبيرة إلى انعدام وجود القيادة السياسية والفكرية الموهوبة والمخلصة والمتجردة والمنحازة لوطنيتها، ولن تجدها قطعا في هذين المؤتمرين. كلا من رجال المؤتمرين يؤمنان بالجبت والطاغوت: الدولار واليورو والريال السعودي والقطري الخ، وعقولهم الصغيرة هي رهينة لفهم مغلوط في الاقتصاد. لم يفهموا قط وظيفة النقد. فالجرذان أمثال علي عبد الله يعقوب، وعبد الله حسن أحمد، ومحمد يوسف محمد، وعصام أحمد البشير، وعبد الرحمن سوار الذهب، ومصطفى عثمان إسماعيل، وصابر محمد حسن، والشريف أحمد عمر ود بدر، والعبيد فضل المولى، والطيب مصطفى (الذي يلهث خلف ريالين سعوديين لصحيفته، وأيضا محمد لطيف صاحب الأخبار) أي كل عرَّابِي دول الخليج والقائمة طويلة..الخ هؤلاء بالمجموع يؤمنون أن “ورقة” الدولار أو “ورقة” الريال السعودي أو القطري أو البحريني هي الحل. لن يفهموا أولا بالإمكان عمل كل شيء من تنمية اقتصادية وتجارة خارجية ب “ورقة” الجنيه السوداني – ولا يحتاجون قط لهذه “الورقات” الأجنبية المذكورة. وثانيا لن يفهموا بأن الاستثمارات الخليجية القليلة في السودان الهدف منها هو مصادرة القرار السياسي الوطني وصنع طابور خامس عميل لدول الخليج.
محاولة وزير المالية علي محمود استلاف التجربة التركية للسيطرة على الموارد المالية العامة أتت متأخرة جدا بعد أن تم نهب مدخولات البترول بالكامل، وهي محاولة لا طائل منها. بل هذه المراجعة المالية أو غيرها السياسية مثل اعتذار علي عثمان محمد طه إنهم كانوا سفهاء مع المال العام عبر التبذير والنهب المصلح على سبيل المثال لا الحصر، كل هذه المراجعات تدخل في خانة التوهيم حتى يستعيدوا ثقة الشعب السوداني مجددا. بل هي مراجعات مدعاة للسخرية – فشخص مثل العبيد فضل المولى يذهب إلى لندن لمهمة شخصية ويصرف لنفسه لهذه الرحلة خمس عشرة ألف دولارا نثريات، بينما طائرة سودانير قابعة في جدة لا تستطيع أن تطير بعد أن ملأت خزانها بالكيروسين – لأن ما دفعوه للتعبئة ينقص 1700 دولارا. وحين اتصلوا به في لندن يستجدونه ال 1700 دولار قال لهم بالحرف: ألغوا الرحلة!! هذه الحادثة هي التي قصمت ظهر شعب السوداني حينما فر العبيد فضل المولى بجلده بقرار إعفاء رئاسي جمهوري – بعد معركة مع بابكر نهار – ويا له من إعفاء سعى له العبيد سعيا بأسنانه ورجليه!!
العبيد فضل المولى رجل مخابرات الإسلاميين سابقا بالسعودية ونزيل سجونها لسنوات كان يتعمد تدمير شركة سودانير في العشرة الأشهر الأخيرة حتى يقولوا له “حل من “…” كما اللهجة الفلسطينية الخشنة – فدكتور نافع علي نافع كان يصر على عدم مغادرة العبيد فضل المولى لمنصبه قبل أن يسلم العبيد للمدير العام الجديد الفايلات القديمة للشركة ويفسر له العبيد كل شاردة وواردة مالية. بينما رغبة العبيد هي أن يفر بجلده وب “الصندوق الأسود” لسودانير دون مساءلة جنائية. وسنده في عملية الهروب الكبير علي عثمان محمد طه و”ولده” الشريف أحمد عمر ود بدر الذي أعتقله الأمن الاقتصادي مؤخرا على مرتين وبقسوة – وأدى اعتقال ود بدر بلحاظ سودانير إلى الأزمة المشهورة في قضية “التجنيب” المالي، التي يدافع عنها علي عثمان دفاع المستميت، إلى موت أربعة ضباط من جهاز الأمن أطلقوا على بعضهم البعض الرصاص.
كل هذا التراشق المميت سببه الصراع حول قضية اقتصادية أخترعها لهم صابر محمد حسن منذ 1993م تسمى “التجنيب”. والسؤال الآن موجه للمؤتمر الوطني: إذا حل العبيد فضل المولى من “طيز” المؤتمر الوطني أو أمنه الاقتصادي، فكيف يجوز له أن يحل من “طيز” الشعب السوداني؟ العبيد الآن حر طليق يتمتع بثروة هائلة وأختتم سيرته الذاتية الحافلة بالفساد المالي والنسوي بإغواء المندوبة المالية لشركة البتراء الأردنية الحسناء “شنو رأيك نمشي القاهرة تمتعيني وأمتعك؟”، فكان ردها له “ليه ما نمشي أحسن لببيرووت؟” وشربته المندوبة مقلبا وفضحته وطارت الفضيحة كل مطار؛ تطالب الشركة الأردنية سودانير ب 100 مليون دولارا فأرسلت الشركة المندوبة المالية الحسناء. حقا العبيد هو المثال الحقيقي للفساد في دائرة وعناية علي عثمان محمد طه الذي يتربع على قمة الجهاز التنفيذي، وما كلام علي عثمان محمد طه في البيئة الفاسدة والدروس الأخلاقية التي يطلقها عبر الأثير والصحف ليست سوى للاستهلاك ورجرجة محامي يجيد الثرثرة البلاغية!!
أين وصلنا؟ إذن فاكتئاب الشيخ الترابي قد يعزى إلى عوامل عديدة وليس لعامل واحد أو أثنين فقط مثل تدفق دماء المسلمين في الإقليم العربي مثل شلالات نياجرا – وبالطبع لجهله أيضا بالوهابية، حتى قناته المحببة قناة الجزيرة كشفت عن وجهها البريطاني والإسرائيلي القبيح الخ، صدمة ما بعدها صدمة. وبما إن انقسام الإسلاميين في ديسمبر 1999م كان محض تمثيلية نفذتها “القمة” دون أن يدرك حتى موقعي مذكرة العشرة إنها تمثيلية، لم يكن متوقعا أن يؤدي الانقسام المسرحي إلى نتائج وخيمة في حسابات الشيخ الترابي – وأن يؤدي إلى نتائج كارثية، مثل تفرد بدريي المؤتمر الوطني تدريجيا بمقدرات البلاد المالية واستيلاهم عليها وغيرها مثل نهب الأراضي، ومدخولات البترول – لقد تحولوا إلى لصوص سلابين مثل الخوارج. ولا تعجب لغرام المؤتمرجية البدريين بالوهابيين الخليجيين – أصبحوا قدوة لهم في كل شيء حتى أنهم يتزوجون مثان، وثلاث ورباع. ثم فصل البدريون الجنوب إرضاءً لأشواق سعودية بحتة – وهو تكتيك سعودي وإستراتيجية ثابتة في إضعاف الجيران.
بل يعزى كذلك اكتئاب الشيخ الترابي إلى اكتشافه أن مجهوده الحركي التنظيمي والتنظيري الفكري الإسلامي على مدى عقود لم يخرج قط عن مستوى الدوران السطحي حول العناوين والشعارات الإسلامية. وعليه أعتبر الشيخ الترابي نفسه فاشلا – وهذا الفشل أمض على نفسه الكريمة. بتعبير آخر الشيخ الترابي يجيد السباحة إسلاميا على سطح “البحر” ويمتلكه الخوف من الغوص في عمق هذا “البحر”، وفي مطلع حياته السياسية شبه نفسه وتوابعه بالكيزان التي تغرف من طرف “البحر” فألتصق بهم اللقب سخريةً – الدين بحر ونحن كيزان له.
بالمجموع المختصر، دفع الشيخ الترابي ثمنا باهظا لهذا الخوف غير المبرر من طلب الغوص، ولقد نسى أن الله تعالى لا يمضي الخطأ في الدين قط.
فمن أخطاء الشيخ الترابي التاريخية منذ الستينيات إنه ترك لأعضاء “جبهته الإسلامية” التثقيف الديني كمسألة شخصية أي تركها حرة لذات العضو، ولا نعني أنه كان يجب أن يصنع لهم “وجبات” دينية جاهزة كما تفعل السلفية الوهابية، بل كان عليه أن يصنع لهم “خارطة طريق” أو ما يسمى “”historiography، وكان من المفترض أن تقوم حركة بحوث إسلامية حقيقية منذ منتصف الستينيات بتأسيس أكاديمية حقيقية تهدف إلى مراجعات إسلامية حقيقية – ولكن الشيخ الترابي لم يفعل، لقد سقط في الفخ السعودي منذ ديسمبر 1965م.
فعلى سبيل المثال لا الحصر لكي نبين أخطاء الشيخ الترابي، فقد سعي آل سعود وآل الشيخ لابتلاع العالم العربي من ضربة البداية فصنعوا لهم “صيادين” في الدول العربية وأشهرهم اللبناني محمد رشيد رضا 1865-1935م صاحب جريدة ومطبعة المنار بمصر بتمويل سعودي ذكي. ومن ثمرة جهده أصطاد محمد رشيد رضا لآل سعود حسن البنا عام 1906–1949م الرجل الذي أشتهر لاحقا، ومحمد حامد الفقي 1892-1959م مؤسس جمعية أنصار السنة المحمدية عام 1926م، وحافظ وهبة 1889-1967م مستشار الملك عبد العزيز، ومحمد الأمين الشنقيطي 1905-1974م قطب الوهابية في المغرب العربي، والمصري أحمد أمين 1886-1954م المدافع عن العاهل السعودي عبد العزيز والقائمة طويلة. وكان هنالك علماء في ذلك العصر بالمرصاد لعملاء آل سعود مثل العلامة الأزهري يوسف الدجوي وهو أشهرهم.
حتى عباس محمود العقاد 1889-1964م لم تعدم “عبقرياته” من نفحات وبركات الريال السعودي عبر الواسطة المرشد الهضيبي. عباس محمود العقاد الذي يعتبر كذبة أدبية كبيرة يمدحونه آل سعود إلى اليوم بينما يشتمون ويلعنون الدكتور طه حسين على منابر المسلمين لأن عميد الأدب العربي أكد خرافة أسطورة عبد الله بن سبأ – وهذا سر الكراهية. كتب العقاد كتابا في عبد العزيز آل سعود سماه: مع عاهل الجزيرة العربية. وقصة الكتاب ترجع إلى 10 يناير 1946م، حين حلّ عبد العزيز آل سعود ضيفا على مصر وعلى ملكها فاروق بدعوة منه، واستقلا اليخت الملكي المصري المحروسة، واستمرت الرحلة البحرية بين جدة والسويس ثلاث أيام، من 7 إلى 10 يناير، وكان مع فاروق في هذه الرحلة وفد كبير من الزعماء والوجهاء المصريين الذين أعدهم فاروق لمرافقة ضيف مصر، وعلى رأس هؤلاء عباس محمود العقاد الذي ألقى في حفل الاستقبال بمصر قصيدة طويلة يقول فيها:
أسد العرين يخوض غيل الماء**** يا بحر راضك قاهر الصحراء
حياة باديها وحاضرها معا **** ً فأغنم تحية يومه الوضاء
يوم من البشرى يردد ذكره **** ركب السفين وجيرة البيداء
- إلى أن يقول:
الشرق والإسلام قد سعدا **** بمن يعلو بآلهما إلى الجوزاء
في ظل فاروق وظل صديقه **** عبد العزيز يتم كل رجاء
ومن ضمن من اصطاد محمد رشيد رضا المدعو الألباني – وهو بيت القصيد في هذه الفقرة. يمدح جوزيف القرضاوي محمد رشيد رضا بشدة في قناته دون أن يفهم المشاهدون السذج سبب المدح ولم يكن سوى خدمات محمد رشيد رضا لآل سعود التي لا تقدر بثمن في اصطياد الضحايا لآل سعود. من أسمه محمد ناصر الدين الألباني 1914-1999م فهو ألباني الجنسية ومولود بها، وفي صغره هاجر به أبوه من ألبانيا إلى دمشق. ورغم أن كل مسلمي أوروبا بلا استثناء يدينون بالمذهب الحنفي مطلقا لم يكن الألباني وأبوه استثناءً، لكن محمد رشيد رضا نجح في ضم الابن الحنفي إلى جوكية الوهابية.
هذا الألباني أصبح المرجع الحديثي لآل سعود، بل هو “المرشح” أو “الفلتر” العصري، سيان أن يكون الحديث من صحيح البخاري أو مسلم، فلابد أن يمر بالألباني أولا وإن لم يضع عليه قلمه الأحمر أو الأخضر لا يكون الحديث حديثا في شرعة ودين آل سعود. وهكذا من أجل لي عنق الكثير من الحقائق الإسلامية عبر الحديث النبوي الموضوع، اختصروا الطريق على الباحثين في المهلكة السعودية بوضع الألباني في طريقهم ك “فلتر” رسمي للدولة. وبفضل فلتر الألباني مثلا يصبح حديث الآحاد حديثا حسنا، وقد تكفرك هيئة كبار العلماء السعودية لو شككت فيها أو رفضتها، وهي أهم نقطة اختلاف ما بين المذاهب السنية الأربعة والمذهب الوهابي. المذاهب السنية الأربعة قد تعمل بها أو لا تعمل بإعمال التحوط والحذر، بينما يأخذها المذهب الوهابي كأحاديث قطعية. علما أن هنالك جملة كبيرة من آحاديث الآحاد وقد تنهار الأيديولوجية الدينية الأموية من أساسها إذا رفضها العلماء الحقيقيون، لذا المذهب الوهابي السعودي الذي يرفع راية الأمويين يتمسك بها ولا يسمح بالطعن فيها. ومن أحاديث الآحاد المشهورة حديث حادثة الإفك، والخلفاء الراشددين من بعدي للعرباص، وتوريث الأنبياء، ومثل حديث عمرو بن العاص المشهور: إذا حكم الحاكم وأجتهد وأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر. الطريف في هذا الحديث إنهم يتعمدون إخفاء إسم عمرو بن العاص ولا يقرنون اسمه به حتى لا ينتبه المسلم وهو حديث آحاد لم يرويه سوى بن العاص، هذا إضافة إلى أن متن الحديث نفسه يقضي على الحديث بالضربة القاضية على أنه موضوع، وكما قال محمد بن حزم الظاهري، يكفي أن تعلم أن الله لا يمضي الخطأ في الدين أبدا. هذا الحديث استشهد به الصادق المهدي في آخر بيان له، وغيره كثير، وقد ألفه بن العاص لمعاوية بن أبي سفيان حتى يفعل معاوية بدين محمد وبصحابة محمد رسول الله كما يشاء.
أين من كل هذا والشيخ الترابي؟
ألم يكن في مقدور الشيخ الترابي منذ الستينيات أن يضع آليات مقابلة لملاعيب آل سعود يحصن بها السودان وعقول السودانيين ويفتح بها فتحا مبينا عظيما؟ ما لآل سعود والذبابة؟ هل تعتبر معركة الذبابة معركة ضد هيمنة وتغول آل سعود على الدين؟ العكس صحيح، لقد فرحوا بهذه المعركة أيما فرح – وإبتسم معي: راجعوا قائمة الألباني فكفروا الترابي. وبدلا من صناعة التاريخ بطباعة الكتب التراثية طبعات شعبية رخيصة وإنشاء مؤسسات البحث والبحوث حقيقية الخ، اكتفى الشيخ الترابي بصناعة التاريخ في الهواء، يطلق القضايا الخلافية الثانوية مثل حديث الذبابة من خلف المايكروفونات.
الآن الإسلام يتم تحديد شكله ومضمونه من قبل البيت الأبيض من واشنطون – وكيف بنا بالشيخ وقد بذل الطاقة على مدار عقود ذهبت كلها ذهبت سدى تحصدها اليوم السعودية وبريطانيا وإسرائيل وطبعا واشنطون. بل الأنكي على نفس الشيخ الترابي أن مقولاته الشهيرة أن أمريكا لا ترضى بحكم الإسلاميين أصبحت من بقايا العصر البليستوسيني – لم تكن سوى تخاريف جليدية في منتصف الثمانينيات. فأي دين أو إسلام بقي للشيخ حسن الترابي اليوم؟ ليس سوى القشور. لذا وإخلاصا لطبيعته لم يستطع الترابي مواجهة الحقائق الفعلية التي تتعلق بالأزمة السورية، ولم يرغب أن يفهم أن سقوط النظام السوري يعادل سقوط إسرائيل في الحجم والأهمية التاريخية، وسكن الرجل ولم يرغب أن يعترف أن آل سعود وآل الثاني قد بسطوا هيمنتهم على واقع الإقليم العربي بالمكشوف وفي شراكة مفتوحة مع الكيان الصهيوني. لذا أضطر الشيخ السوداني المعذب أن يركب سرج دول الخليج على استحياء من دار حزب الأمة القومي – داعما الشعب السوري على استحياء، وكما يبدو وطبقا لما ذكرنا سابقا في مقالنا الأول ربما لصالح دولة الخلافة التي يتخيلونها ستكون…ويعتقدون أنها ستكون بمنأى عن يد آل سعود وزبانيتهم إذا أحسنا الظن.
ومع ذلك، ومع الوعي المتزايد باطراد مع ثورة الانترنيت والمعلوماتية ذهب ذلك العنفوان الإسلامي الستيني الغامض الجذاب إلى لا رجعة، واختفى ذلك الوميض من الأمل الساذج في نفوس المخلصين مثل الشيخ الترابي. وساهم في إحباط الجميع إشعاعات الثورة الإسلامية الإيرانية، إذ بفضل الإشعاع الثقافي للثورة الإسلامية الإيرانية وبفضل الانترنيت أصبحت العديد من “الدوقمات” الإسلامية السنية نسبية – بل أصبحت في موضع المراجعة والمحك في الغرف المغلقة، لذا تجد الذين يحملون بين جوانحهم بعضا من العلم صمتوا إلى درجة الصفر، بينما الغثاء منهم أمثال القرضاوي، والغنوشي، والعوا الخ، والمستنفعين الجدد بالريال السعودي وهم كثر في العالم العربي والإسلامي مثل الطيب مصطفى، وسعد أحمد سعد، وعبد الحي يوسف الخ تحولوا جميعا إلى طبل أجوف زاد ضجيجهم حول الشريعة والدستور الإسلامي!!
ما هو حل هذه الأزمة التاريخية التي يعيشها الشعب السوداني؟ الحل واضح، أن يسلم الإسلاميون سدة الحكم للشعب السوداني بلا قيد أو شرط بانتخابات حرة نزيهة كما حدث في مصر. لو أتت بهم انتخابات حرة نزيهة كان بها، وإن لم تأت بهم عليهم أن يتقبلوا ذلك ويصبحوا حزبا مثل بقية الأحزاب يعيدون دراسة أخطائهم بالمراجعة الشاملة الحقيقية وليست المجازية. ولكن بدون حل القضية الاقتصادية جذريا لن يستقيم وضع السودان أبدا. إحدى الإسهامات التي قدمتها في الاقتصاد كتابي: جهاز الاحتياطي الفيدرالي وبنك انجلترا على طاولة التشريح السودانية!! هذا الكتاب وصل إلى يد البروفيسور عبد الرحيم علي بالصدفة البحتة، وفي هذا الكتاب رؤية متكاملة لحل القضية الاقتصادية تمكن السودان وشعبه من الإعتاق من قبضة دول الخليج، فبؤس التصور وفقر الخيال الاقتصادي هما الكارثة التي تركع الجميع حين لا تجد الدول العربية الفقيرة أو شعوبها حلا لقضاياهم سوى التطلع للريال السعودي أو للدولار الأمريكي.
عند هذه النقطة من كتابتي لهذه المقالة، قرأت خبر بيان حزب المؤتمر الشعبي الأخير، يقول:
رفض المؤتمر الشعبي أي حوار أو تفاوض مع المؤتمر الوطني الحاكم, وأكد – في بيان أمس – العمل مع تحالف قوى الإجماع الوطني وقوى الثورة الأخرى لأجل إسقاط النظام. وأضاف البيان أنه لا حل لمشكلات البلاد “إلا بذهاب النظام وتكوين حكومة انتقالية وفق ميثاق قوى الإجماع الوطني". ووجه البيان رسالة إلى نظام الحكم، قائلا “إن محاولات بث الفرقة والخلاف داخل صفوف قوى الإجماع الوطني لن تبلغ مرادها". ووصف البيان نظام البشير بالمتهالك والفاسد, وأضاف “بدلا من الرجوع إلى الحق والإقرار بفشله في إدارة شؤون البلاد، والحفاظ على وحدتها وكرامتها وإرجاع السلطة للشعب، يمارس (النظام) هوايته المفضلة بالهروب للأمام بإطلاق الأكاذيب والشائعات". وشدد الأمين عبد الرازق نائب الأمين السياسي للحزب -في مؤتمر صحفي أمس– على “أن المبادئ التي فاصلت بين المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي واعتقلنا وسجنا واستشهد بعضنا بسببها لا تزال ماثلة..الخ". نقول نحن، جميل.
ويضيف الخبر: أنّ الأمين العام للمؤتمر الشعبي هاتف القيادي الإسلامي في تونس راشد الغنوشي، ولم يتحدث إليه عن أي مبادرة. وأكد الأمين عبد الرازق، أن «نقاط الاختلاف تعقدّت أكثر، ولا يوجد ما يجمع بينهما، لا سياسياً ولا فكرياً»، مضيفاً أنّ الحزب مستعد لإقناع تلك الدول بضرورة سقوط نظام البشير.
هل هذا البيان مزايدة أم موقف حقيقي؟
يبدو أنه مزايدة قطعا، فكلما توجه الصادق المهدي بفكرة أو بمذكرة شاملة مثل مذكرة السلام الحالية لرئاسة الجمهورية يرتفع صياح المؤتمر الشعبي بإسقاط النظام – أي وضع عصي (الانتفاضة) في دواليب عربة الصادق المهدي. لماذا؟ لأن مبادرة الصادق الشمولية تقترح قطعا تغيير بنيوي في بنية النظام القائم، وهذه مسألة لا يرغبها الشيخ الترابي.
قلنا في المقالة الأولى أن الترابي يمسك بكرتي المؤتمر الوطني والشعبي معا وهو الذي يديرهما بخفية، ومحصلتها أن الصادق المهدي قد خُيِّر الجلوس على أحد قرني ثور على أيهما جلس ينطحه الشيخ الترابي، فالمطلوب إذن من الصادق وغيره من رؤوس أحزاب المعارضة أن يتم تجميدهم في ثلاجة “تحالف قوى الإجماع الوطني” التي يقودها الترابي. فحين يتقدم الصادق لعمر البشير بمبادرة شمولية لحل الأزمة، فهي تعني فيما تعني تغيير بنية الدولة والنظام العام، ثم إذا أتت انتخابات نظيفة صحيحة، فما الذي يضمن للإسلاميين أن يبقوا ممسكين بلجام الدولة؟ لذا المطلوب ترابيا أن تدور رؤوس المعارض في دائرة مفرغة. وهل يسمح الدكتور نافع علي نافع لا سمح الله “بورقة” يضعها الشعب السوداني في الصناديق تنزع منهم السلطة؟ لذا الشيخ الترابي يلعب لعبة مركبة وذكية، فحين يطلق حزبه هذه البيانات والتصريحات الصحفية لإسقاط النظام دون أن يحرك قواعد حزبه الرخو (رخو عن عمد وهي نقطة في صالح المقالة) كمن ينفخ الهواء في آلة الطرومبيت النحاسية. فهو ليس يجمد أحزاب المعارضة في ثلاجة “تحالف قوى الإجماع الوطني” فحسب، بل أيضا يمسك في الخفاء بعصا غليظة، فلا مانع لديه أن تجرب أحزاب المعارضة الخروج إلى الشارع فلن يتردد الشيخ الترابي في كسر عظامهم كما فعلوا بالدكتورة مريم وغيرها و “إن” كانت بنت الصادق المهدي، فأسوة البدريين هو الخليفة الثاني في التاريخ الإسلامي حين هم عمر بن الخطاب بحرق بيت فاطمة، وقيل له فاطمة بنت رسول الله بالداخل، قال عمر: وإن.
معذرة هنالك حلقة ثالث وأخيرة.
شوقي إبراهيم عثمان
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.