عبد العزيز حسين الصاوي من قبيل البديهيات القول بأن المجتمعاتالعربية لاتملك خبرة ديموقراطية حديثة، حتي الاستثناء اللبنانيمهدد الان بفقد هذه الصفة، بينما استثناءا الربيع العربي التونسي واليمني علي كف عفريت.النماذج المستنسخة عن النموذج الغربي البريطاني– الفرنسي قادمة مع الموجة الاستعمارية تعذر تجذرها في البيئة العربية. فهيولدت متهمة في ملاءمتها للواقع التاريخي المحليمن المنظور الوطني العلماني وفي أصالتها من المنظور الديني الاسلامي،وفي عداليتهاالاجتماعية من المنظور الاشتراكي.. اتهامات اكتسبت وهجا جذابا علي ضوء مابدا حينها انجازات باهرة للنموذج الاشتراكي المغاير، بينما عجزت الرافعة المحلية للنموذج الغربي ممثلة في حركات الاستقلال الوطني في الدفاع عنه.فهذه كانت وقتهافي بواكير انبثاقها عن التركيبة الاجتماعية-الثقافية التقليديةلم تتخلص بعد كلية من تداخلها المعرفي معها، غير مؤهلة لدفاع سجالي يتطلب اقتناعا راسخا بالديموقراطية، ولاتطبيقي يتطلب أداء برلمانياحكوميا ومعارضا كفؤا. بعد ذلك تولت النخب الاحدثالتي تشكل وعيها التغييري متشربا خصائص تلك المرحلة، خلخلة تلك التركيبة العتيقة بتأييد شعبي كاسح فجرهبالدرجة الاولي صعودالمستبد الناصري العادل. ولكنها بدلا من خلخلةالمكون الديني الجوهري للوعي العام ايضا ساهمت في إعادة إنتاجهبشكل اكثر فعالية من السابق عبرإضعاف حصانة القوي الحديثة سنا ومهنة التي نتجت عن التصنيع والاصلاح الزراعي ضد الفهم المغلق للدين،مما جعلها حقلا خصبا للولادة الثانية للاسلام السياسي بدء من الستينيات المتأخرة، وذلكبسبب الطبيعة الفوقية والتلقينية للتثقيف ( الاشتراكي العلماني ) دون معاناة فكرية حقيقة تنتج عن التنافس المفتوح مع الايديلوجيات الاخري. كما ترافق ذلك معإبطال المحاولات الاولية باتجاه التجديد الدينيالتي كانت قد شرعت فيها مجموعات من كبار مثقفي اواخر التاسع عشر مسلمين ومسيحيين بالتفاعل مع المنتجات الفكريةوالفلسفية لتجربة التنوير الغربية، وبقيت مسامات تسربه مفتوحة خلال المرحلة ( الليبرالية ) السابقة. فالناصرية وشبيهاتها إذ اقامت نظما ذات بعد واحد لاتتسع حتي للنقد الصديق، استخدمت مزيجا من نفوذهاالمعنوي- الشعبوي وادوات الدولة لحرمان البؤر الحيةفي حركات وتيارات التغيير اليسارية من تطوير قابليتها الافضل لتطوير تلك المحاولات بحكم انشغالها الجدي بالقضايا الفكرية والتخطيط المستقبلي، وذلكبأرغامها إما عليحصر جهودها الفكرية ضمن خطوط محددة قبليا، شرحا علي المتون، او الانشغال الكلي بالاحتماء من مطاردات السلطة إذا اختارت مسارا مختلفا الى الاهداف المشتركة بينهما. وفي الحالتين أدي ذلك إلى اهدار فرصة ثمينة لتطوير تلك القابليات بقطع الصلة مع تيارات التجديد في الفكر الاشتراكي واليساري الاوروبي التي كانت تتخمر خلال سبعينيات القرن الماضي فلم تجد طريقا الي الساحة العربية إلا من خلال أفراد، مثل الياس مرقص . إرساء معادلة العلاقة بين التغيير والاستبداد علي هذا النحو العضوي انتهي بمرور الوقت الى تسييد قوي الاسلام السياسي قيادة للحراك التغييري الذي نشأ ضد الأنظمة التي صنعت المعادلة. فبالرغم من ان الاسلاميين تحملوا القسط الاكبر من قمع الاستبداد التقدمي معتليا قمته في قوانين بعثية عراقية وسورية تحكم بالاعدام علي مجرد العضوية، إلا انهم كانوا اكثر المستفيدين منها. فهم، بعكس غير الاسلاميين، ينالون تعويضا مجزيا عن الخسائر التي تلحق بهم يوفره مناخ طارد لكل مايعوق عودتهم لنمواصلب عودا من السابق لكونه متجذرا في الشعيرات الشعبية الدقيقة وإنافتقر الىمكون نوعي يجعله مصدرا محتملالتغيير حقيقي : نظم تعليمية يختنق فيها الكيف تحت وطأة الكم الثقيلة وتنميةتتولاهابيروقراطية الدولة في غيبة مجتمع مدني يكبح جماح تغولها علي حق الطبقات الشعبية في الثرو ة القومية، فلا تنتج عدالة اجتماعيةولاطبقة وسطي،وعندما تنشغل الجيوش بأدارة الدولة والمجتمع عن واجباتها المهنية تنحتم الهزيمة المذلةفيكتمل الانغلاق الذهني فكرا وعاطفة. بذلك اكتملت مقومات تهيؤ الميدان لانتصار كاسح لخبرة التغيير الدينية المنزع علي غير الدينية في التنافس بينهما عندما حلت ساعة التغيير البوعزيزية متخذا شكل كتلة نخبوية- شعبيةكبيرةمهيأة لاستقبال النداء الديني دون غيره، ينزاح التوازن فيها لمصلحة الاكثر تقليدية كلما ارتفعت درجة احتدام معركة التغيير ليصبح السلفيون الجهاديون وغير الجهاديين القسم الاكثر فاعلية وتأثيرا. الوضع السوري هو النموذج المصفي لهذا التحليل الايل الى مأزق يلتقي فيه استعداد ورغبة الخاسرين للاستعانة بالتدخل العسكري الغربي، الامريكي خاصة،مع عدم استعداد ورغبة الطرف المدعو،ليقينه باستحالة عدم تكرار السيناريوين العراقي والليبي حيث تحول المنقذ إلى العدو الاول بين عشية وضحاها بعد ان أدي مهمته.قد يكون هناك تفسير اخر للنفور الامريكي عن فكرة التدخل العسكري مفاده إن الصراعات السورية خدمة لاسرائيل، غير ان هذا الاعتبار المعقول يوازي في اهميته الاعتبار المضاد وهو الإمكانية الارجح لاستحالة السيطرة علي هذه الصراعات بالشكل المطلوب نظرا للتأييد الشعبي الواسع الذي تحظي به الممانعة بعضهعلنيومعظمهبسكوتالارتداعالذاتيوالمفروضبهيبةالمقدسوالوطني – القوميالمقدسن. عندها ستؤول الامور الى نظام متشدد يأولل الصراع مع إسرائيل والغرب علي ماعداه بحكم طبيعته دون اكتراث للتكاليف البشرية والمادية، ولايلبث ذلك ان يصبح مبرر وجوده ومصدرا لشرعيته في اعين كتل شعبية واسلامية واسعة ترزح، كما السوريين، تحت نفس السقف المنخفض للوعي الديني. علي ان القطعيات والاطلاقات التي تحكم رد الفعل العربي المسلم ضد امريكا والغرب بما لايترك إلا فرجة ضيقة للغاية لتنمية وعي مدروس بحدود القبول والرفض للسياسات الامريكية وتاليا كيفية ممارسته بأكثر الاشكال فعالية، ليست وليدة اختلال التوازن المريع لصالح مخرجات الاستبداد علي مستوي الوعي الديني فقط، لانها تتلقي دعما من مصدر غير اسلامي وغير مسلم احيانا. هناك بعض مجموعات المثقفينالعرب ذوي الخلفيات القومية واليسارية الذين وجدوا في اطروحات الرأسمالية المتوحشة والنيوليبراليزم والعولمة- الامركة منصة أطلاق ( علمانية ) ضد الغربي- الامريكي بديلا يبقيهم علي قيد الحياه السياسية والفكريةبعد ان تمت أسلمةالقضية الفلسطينية وحلت الوحدة الاسلامية محل العربية والاستكبار محل الامبريالية والاستعمار. وبينما تجد هذه المجموعات حلفاء سياسيين من شاكلة الفنزويلي شافيز واحمدي نجاد الايراني والبريطاني جورج قالواي، فأن حليفها الاهم هم الصحفيون والكتابالغربيون اليساريون والليبراليون، اصدقاء قضايانا العادلة،أعداؤها دون قصد. عن هؤلاء، مع ناشطي حقوق الانسان والسلام، يصدر النقد الاكثر حدة وجذرية للسياسات الغربية الرسمية وللنظام الرأسمالي فتستقبلهاجهزة عربية – اسلامية مبرمجة لمسخه عداء سطحيا عاتيا لكل مايمثله الغرب. هنا ترحيب من نوع ما بالتدخل الغربي يتحول فيه الليبرالي الغربي الى أداة لتهميش رصيفه العربي ومعه قضية القضايا : التنمية الديموقراطية.