(1) التراكم المعرفي هو أحد أهم العوامل التي تحدِّدُ سمات وطبيعة العقل الجمعي للشعوب، بالإضافة لعواملَ أخرى، منها: مدى عمق الموروث المدني والحضاري، وانتشار الوعي والتعليم في المجتمع، وفعالية المواعين السياسية والاجتماعية المنظمة لحياة المجتمعات، والعقل الجمعي للمجتمع المستقر الحضري يختلفُ بدرجة كبيرةٍ عن الرعوي الرحال ، يظهرُ هذا الاختلاف ويتجلى في تباين التركيبة النفسية لأفراد كلا المجتمعين الذي تؤثرُ في إنسانهما جملةُ عواملَ ومؤثرات مختلفة، وتتخلق نتيجة لهذا الاختلاف ما يمكن أن نسميها (سيكولوجية "فرض العين") عند المجتمعات الحضرية و(سيكولوجية "فرض الكفاية") عند البدوية منها. (2) وِفْقا لهذا التصنيف يمكن قراءةَ وتحليل كثيرٍ من الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكذا يمكن أن نحددَّ طبيعة أي مجموعة بشرية بمراقبة سلوكها وممارستها؛ لنكتشف بيسر إن كانت حضرية أم بدوية، هذا التصنيفُ على بساطته نستطيعُ عبره مقاربة وتحليل ظواهر تبدو في غاية التعقيد مثل مسألة تعثر الثورة السودانية، ويمكن أن نقدم إجابة على السؤال المحير الذي أرَّق النخب الفكرية والسياسية في السودان، وهي ترى شعوب في المنطقة أفضل حالا تثور وتنتفض، وشعب السودان البائس يرقب تدهور أحوال معاشه في سكون وذهول وكأن على رأسه الطير. (3) السمة الملاحظة في المجتمعات الرعوية حديثة الاستقرار هو ضعف الإحساس بالوثاق الوطني، فنجد مغالبة الإرث البدوي لعوامل المدنية يُحِدُّ من عملية الانصهار العرقي، ويعطل بلورت الهوية الوطنية، ويجعل أمر التوافق عليها عسيرًا، ومراحل بنائها بالغة التعقيد، فقوة اللحمة في معادلة صياغة الهوية في المجتمعات البدوية تتمحور حول النواة المجتمعية "الأسرة"، عكس ما عليه الحال في المجتمعات الحضرية التي تتمكن بيسر من التراضي على هويتها الوطنية؛ بسبب تلاشي الحميَّة البدائية، وسيادة الوثاق الوطني الجامع بمفهومه الحضاري الشامل. (4) فالحمية البدائية في مجتمعات البداوة تظل تراوح عند حدود العشيرة، ومبلغ تقدمها بلوغ تخوم القبيلة، والتي عندها يتعطل الشعور بوجود "الآخر" من غير منسوبي القبيلة، ليغدو أمر إيجاد قواسم مشتركة تأسس لبلورة هوية جامعة أمرًا شديد العسر وبالغ التعقيد، يحتاج لجهد خرافي في ظل تجمعات بشرية غير مستقرة أو حديثة الاستقرار، تعاني من الجهل وانتشار الأمية، فالعلاقة بين العقل البدوي والهوية الوطنية علاقة "عكسية"، وتختلف عن العلاقة "الطردية" التي تميز العقل الحضري. (5) إرث البداوة يضعف أواصر اللحمة المجتمعية ويجعل صيرورة تطورها عكس اتجاه تطور وتماسك الهوية الوطنية وهو ينحو بها نحو النواة المجتمعية الأولى، فنجد الوثاق العائلي أوثق يليه العشائري فالقبلي، بينما يظل الوثاق الوطني العام باهتًا وضعيفًا، وفي مؤخرة اهتمامات الفرد، وعلى هذا الموروث والفهم نشأت وتأسست معظم المواعين المنظمة لحركة المجتمع السوداني من أحزاب سياسية و منظمات مجتمع مدني ثقافية /رياضية ومطلبية فجميعها قد طالها هذا العوار. (6) بالنظر للأحزاب السياسية -خاصة التقليدية منها- نجد أن ثقلها الجماهيري يعتمد بصورة مطلقة على هذا الفهم، فالأعضاء فيها غير معنيين ببرنامج الحزب ولا سياساته، والولاء يحكمه الانتماء للطائفة وزعيمها الذي أسبقت عليه الصدفة نوعا من القداسة، والعجيب أن هذا النهج قد تسرب وانتقل بصورة ما لأحزاب الحداثة في اليمين واليسار، مما يدل على شمولية الأزمة، وعمق الموروث المتجذر حتى في عقل النخب التي نكصت عن لعب الدور التنويري في المجتمع، واختارت طوعا الخضوع لشبكة التقاليد والأعراف السائدة، ناقضة غزلها بيديها؛ خشية الاتهام بالصبأ، وانعكس هذا المسلك سلبا على رؤى وبرامج الأحزاب الحديثة، وأصاب أطروحاتها بالعشى المبدئي، فغدت مثلها مثل غيرها من الأحزاب التقليدية مواعين طائفية بدثار وهياكل حداثوية. (7) معظم الأحزاب السودانية المعاصرة مشبعة بالثقافة البدوية وتوجهاتها غير مستقرة مبدئيا الشئ الذي حد من فعاليتها وعاق عملية نضجها وبلوغها مرحلة الرشد السياسي، هذا الواقع انعكس سلبا على تطلعات أفرادها وحدُّ من قدرتهم على الانعتاق من ضيق الأفق "التقليدي" المتشكك بالفطرة في جدوى البرامج الحزبية النابعة أصلا من سيكولوجية "فرض الكفاية" المعطوبة ؛ غير المعنية بقضاء حوائج الشأن العام. (8) سيكولوجية "فرض الكفاية" ترى أن النضال السياسي شأن نخبوي إذا ما قام به البعض سقط عن العامة، وفي هذا الفهم الفطير تمكن أسباب (اسْتِبْهَامِ) الثورة السودانية، وارتباك حراك التغيير ، والدليل على ذلك ما حدث من تفريطٍ وتراخٍ أثناء وبعد الانتفاضتين الشعبتين في أكتوبر 1964م وإبريل 1985م، اللتان تم إجهاضهما بسهولة ، حين أفرغ جوهر الحراك الشعبي من مضمونه الثوري ، ولم تحقق الثورتان من الأهداف سوى هدف يتيم هو إسقاط نظم الحكم الدكتاتورية الفاسدة ، وحتى هذا الهدف الذي تحقق بدماء عزيزة سرعان ما تم الالتفاف عليه وإجهاضه بإنتاج نظم ديمقراطية كسيحة، لم تستطع إحداث التحولات الثورية المطلوبة. (9) لا مخرج للسودان من وحل هذه "الحلقة الشريرة" إلا بتحديث المواعين التنظيمية القائمة وإصلاحها، أو إعادة إنتاج مواعين جديدة إذا ما تعذر التحديث والإصلاح؛ شرط أن تكون المواعين المستحدثة مواكبةً لروح العصر، ولها القدرة على التعاطي الايجابي مع الشأن العام وفق سيكولوجية "فرض العين"، التي تؤمن بأن النضال الوطني فرض عين على كل فرد سوداني قادر راشد. (10) إن الأحزاب السياسية السودانية الأجدر بالبقاء وتصدر المشهد السياسي اليوم هي التي ينبثق فكرها من الواقع السوداني في توافق مع معايير العصر التي تشبع بها عقل الأجيال الحديثة، لانها الأقدر على التعبير عن آمال وطموحات هذه الأجيال التي تخلصت بقانون التراكم من أدران مجتمع البداوة، وجمعت من الوعي والمعارف الإنسانية ما يؤهلها للانتقال من حلقة تاريخية الى حلقة أكثر تقدماً في درج الحضارة. اسْتِبْهَامِ الأمرِ يعني ارْتِباكِهِ (القاموس المحيط). ** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون. 4/9/2014م