منع قناة تلفزيونية شهيرة في السودان    وزارة الصحة تلتقي الشركة المصرية السودانية لترتيب مشروعات صحية مشتركة    ماذا قال ياسر العطا لجنود المدرعات ومتحركات العمليات؟! شاهد الفيديو    تم مراجعة حسابات (398) وحدة حكومية، و (18) بنكاً.. رئيس مجلس السيادة يلتقي المراجع العام    انطلاق مناورات التمرين البحري المختلط «الموج الأحمر 8» في قاعدة الملك فيصل البحرية بالأسطول الغربي    شاهد بالصور.. ما هي حقيقة ظهور المذيعة تسابيح خاطر في أحضان إعلامي الدعم السريع "ود ملاح".. تعرف على القصة كاملة!!    تقارير صادمة عن أوضاع المدنيين المحتجزين داخل الفاشر بعد سيطرة الدعم السريع    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [1] مَائَةُ عامٍ مِنْ عُزْلَةِ الدُّرُوسِ المُهْدَرَة (مَبْحَثٌ فِي
نشر في السوداني يوم 06 - 07 - 2015


الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [1]
مَائَةُ عامٍ مِنْ عُزْلَةِ الدُّرُوسِ المُهْدَرَة
(مَبْحَثٌ فِي قِيمَةِ الاعْتِبَارِ التَّارِيخِي)
بقلم/ كمال الجزولي
"إلى رُوحِ جَدِّي لأمِّي مُحَمَّد وَدْ عَبْدَ الكَريمْ الأَنصَاري الذي
عَاشَ لأكثَرَ مِن نِصفِ قَرْنٍ بَعْدَ (كَرَرِى)، راكِلاً الدُّنيا بِمَا
فِيهَا، ومُتَرَقِّباً القِيامَةَ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ، يَومَ الجُّمُعَةِ القَادِمَةْ"!
***
"الخَيرُ فى ما اختارَ الله .. إلاَّ نصرَة مَا فِي"!
الأمير إبراهيم الخليل في اجتماع قادة التَّشكيلات عشيَّة كرري
"كانوا أشجع من مشى على الأرض،
دُمِّروا ولم يُقهروا بقوَّة الآلة"!
تشرشل في دفتر المراسل الحربي
"عَشَرةُ ألفِ شَهيدٍ وسِتَّةُ عَشرِ ألف جَريح تَنَاثَرُوا،
شَظَايَا مِن اللَّحْمِ والعَظْمِ المُفتَّتِ، عَلى طَريقِ الصَّلَفِ
الزَّاحِفِ مِن وَرَاءِ البِحَارِ باسْمِ المَدَنِيَّة والإِنسَانِيَّةِ،
بَلْ وبِاسْمِ اللهِ نَفْسِهِ"!
(1)
لست من أدعياء النُّبوءات لأزعم أنني، عندما فرغت من الصِّياغة الأولى لهذا المبحث، فجر الأحد 16 أغسطس 1998م، بين يدى مئويَّة كرري (2 سبتمبر 1898م 2 سبتمبر 1998م)، كنت قد نجَّمت، ورميت الودع، وقرأت الطالع، واستيقنت من أن عدواناً سوف يقع بصواريخ "الكروز" على "مصنع الشِّفاء" بالخرطوم بحري، في تمام السَّابعة والنصف من مساء الخميس 20 أغسطس 1998م! بل حتَّى الرَّعد والقصف تشابها علىَّ، للوهلة الأولى، فلم أميِّز بين هزيم وهزيم، ولا بلغت احتمالاتي الغافلة أبعد من هطول المطر في ساعة متأخِّرة من تلك الليلة! غير أن دوىَّ القصف ما لبث أن تميَّز وسط رعود لاهثة الإرزام، وتحت سماء متلاصفة الوميض. أما الكهرباء التي تبكيها، أصلاً، لمسة الرِّيشة، فقد تذبذب تيَّارها، هنيهة، ثمَّ ذوى، هنيهة، ثمَّ انقطع. ولمَّا عاد كانت كلُّ أجهزة الإعلام العالميَّة تبثُّ، بجميع اللغات الحيَّة، أن الرَّئيس الأمريكي بيلْ كلنتون قطع، فجأة، عطلته، وطار من منتجعه الرِّيفي النَّاعم إلى بيته الأبيض المتجهِّم، ليعلن، على رؤوس الأشهاد، أنه قد فرغ، للتوِّ، من تدمير مصنع لإنتاج الأسلحة الكيماويَّة في السُّودان، فتأمَّل!
دهشت، لا للخبر في حدِّ ذاته، فتلك أمور فقدت قدرتها على الإدهاش في عالم اختفى المكافئ لكفَّته الثَّقيلة، فاختلَّ ميزانه، وخيَّم عليه ظلام القطبيَّة الأحاديَّة، وإنَّما دهشت للتَّوقيت. فقد بدا لي العدوان احتفالاً آخر بالذكرى المئويَّة لكرري، لكن .. على الطريقة الإستعماريَّة! ولئن كانت التَّذكرة واستدعاء الدُّروس والعِبَر هي بعض أغراض الاحتفالات عموماً، فإن غرض ذلك الاحتفال كان تذكيرنا، على وجه الخصوص، بأن الشَّجاعة والجُّبن شىء، وأن النَّصر والهزيمة شىء آخر! وأننا نزحف، بهذا المعنى، لا نزال، في المربع الأوَّل لهزيمتنا، لم ننس شيئاً، ولم نتعلم شيئاً! وأنه لا يغيِّر من هذه الحقيقة، قليلاً أو كثيراً، كون تلك الهزيمة نفسها موشَّاة، للعجب، بآيات الشَّجاعة والإقدام! فلو أن الشَّجاعة وحدها تضمن النَّصر لكان ذلك قد تحقَّق، وأيْمُ الله، لأجدادنا الأماجد في كرري، ولما كان الآخر يرتع، ما يزال، في بحبوحة نصره المؤزَّر المدعوم بتفوقه الحضاري، دونما حاجة، البتَّة، لمثل هذه القيم، رغم اعترافه، بل وإشادته أحياناً بها إشادَتك برسومات الكهوف، واصطناع الفأس من الحجر، واستيلاد النَّار بفرك غصنين! فقد تصرَّمت أزمان مذ تعلم أن يركلها، ويستعيض عنها بثمار العلم والتكنولوجيا. ولعلَّ في ذلك شىء من المعنى الذي ذهب إليه الجنرال شوارسكوف، على أيَّام انشغاله بتحشيد التكنولوجيا العسكريَّة الحديثة عشيَّة "عاصفة الصحراء"، بعد زهاء القرن من كرري، عندما سأله الصحفيون عمَّا ستفعله قوَّاته عند الالتحام ب "النشامى"، وهو الوصف الذي راج، وقتها، في الدَّلالة على "رجولة" الجُّندي العراقي، فأجاب متسائلاً بدوره: "وما حاجتنا إلى ذلك إذا كان باستطاعة أيَّة مجموعة من المجنَّدين المثليين gays، أو المجنَّدات، حسم هذه الحرب لصالحنا، طالما كانوا يحسنون، أو كُنَّ يحسنَّ استخدام أجهزة التَّحكم النَّائي remote control والضغط على الأزرار"؟! ويا لها من "حقيقة" فاجعة، ولكنها "الحقيقة" على كلِّ حال!
ذلك ما خطر لي خلال الدَّقائق القصار اللاتي أعقبن الحدث، والإعلان الرِّئاسي الأمريكي عنه، مثلما خطر لي أن نفس هذا المبحث الذي كان جاهزاً، أصلاً، للنَّشر، قبل أيَّام من ذلك، ربَّما يصبح صالحاً، أيضاً، للإحاطة، على نحو ما، بالمناسبة الجَّديدة، في ما لو أجريت عليه تعديلات طفيفة لا تقلقل فكرته الأساسيَّة قيد أنملة، بل، على العكس، تكثِّفها، ففعلت. ولكنني آثرت إرجاء النَّشر ريثما يهدأ غليان المشاعر، فللصَّدمة والغضب وقت، وللتَّفكير والتَّدبير وقت!
(2)
وإذن، ومع أن النَّشر الحالي يجئ في مناسبة أخرى، هي الذِّكرى المائة والثَّلاثين لوفاة الإمام الثَّائر محمَّد احمد المهدي، متأثِّراً بحمَّى التايفويد بأم درمان، في الرَّابعة من بعد ظهر الإثنين الثَّاني والعشرين من يونيو 1885م، الموافق التاسع من رمضان 1302ه، إلا أن المبحث نفسه كان مكرَّساً، في أصله، للاحتفال بالذكرى المئويَّة لاستشهاد عشرة آلاف رجل، وجرح ستَّة عشر ألفاً آخرين، خرجوا، ضمن أربعين ألفاً، من بوَّابة أم درمان الغربيَّة، ثمَّ انعطفوا نواحي شمالها الشَّرقي، ليؤدُّوا صلاتهم الأخيرة ذات فجر ملبَّد بغمام خريف بعيد ما تزوَّدوا بغير "الحامض من رغوته"، كما في عبارة الشاعر محمد عبد الحي!
ستَّة وعشرون ألف صدر لم تنقصها البسالة أو الاستعداد للفداء والتَّضحية، لكنها أثقلت بهموم جبهة داخليَّة سرى إلى نخاعها الشَّوكي سوس الاستبداد بالسُّلطة، وصدَّعها، لحدِّ التآكل، قهر المظالم الاجتماعيَّة والجِّهويَّة تُباعد بين "أولاد العرب" و"أولاد البلد".
ستة وعشرون ألف عقل لم يَعُزْها الإيمان ولا الذَّكاء، غير أن العزلة الخانقة فرضت عليها ألا تبلغ من عِلم السِّلاح أكثر من بقايا مدافع هكس الجَّبليَّة قصيرة المدى، وبنادقه البطيئة ماركة "ريمنتون"، و"أبو صرة"، و"أبو روحين"، و"بيادة"، و"أورشليك"، و"خشخان"، وألا يطوف عليها ولو محض طائف من رشاشات "المكسيم"، أو دانات "المنثار SHARPHEL"، أو شظايا "الخراطيش CASE SHOTS"، أو بوارج الأساطيل المدرَّعة (ع زلفو؛ كرري، ص 359 360 412).
عشرة آلاف شهيد وستة عشر ألف جريح تدافعوا، كما الضَّواري الكواسر، وملء الصدور نشيد واحد ما أكثر ما دوَّى، في ذاكرة الثَّورة، عبر الوديان، والبراري، والصحاري، والجِّبال، والسهول، والغابات:
"في شان الله .. في شان الله"!
لكن قليلاً ما تهيَّأ له، في ذلك النهار الأغبر، التحام ينقع الغلة أو يجلو الشَّجاعة. فأذرع المدفعيَّة الطويلة، مفخرة العدوِّ التي لم تكن قد أتيحت لأولئك البواسل أدنى معرفة بها، ظلت، وعلى مدى ساعات أربع هنَّ عمر الموقعة، تحصد الصُّفوف المتراصَّة "لعظمة الرجولة الصامدة" (Churchill, W.S.; The River War, An Account of the Reconquest of the Sudan, London, 1949)، الصفَّ وراء الصفِّ، تماماً مثل إعمالك ممحاة على أسطر بقلم الرَّصاص فوق صفحة بيضاء، بينما الحناجر لا ينقطع صداحها بنداء الفرسان النَّبيل:
"سِدُّو الفرَقة .. سِدّو الفرَقة"!
عشرة آلاف شهيد وستة عشر ألف جريح تناثروا، شظايا من اللحم والعظم المفتَّت، على طريق الصَّلف الزَّاحف من وراء البحار باسم المدنيَّة والإنسانيَّة، بل وباسم الله نفسه! وسيِّدي الخليفة، في مثار النَّقع ذاك، منتصب على ظهر جواده الأشهب، فلكأنه "في عين الرَّدى وهو نائم"، لا ينفكُّ يسأل أمراءه البواسل فرداً فرداً:
"أوصيت بعدك منو في إمارة الرَّاية"؟
فتأتيه، على الفور، الإجابة الواثقة المطمئنَّة من فوق كلِّ دوىٍّ وقعقعة:
"سيدى خليفة المهدى مخيَّر، وإن كان ولا بُدْ ففلان ود فلان"!
لقد "كانوا أشجع من مشى على الأرض، دُمِّروا ولم يُقهروا بقوَّة الآلة"، هكذا دوَّن تشرشل في دفتر المراسل الحربي (Ibid). وكتب ستيفنس: "لقد بلغ رجالنا درجة الكمال، ولكنهم هم فاقوا حدَّ الكمال. كان ذلك أعظم وأشجع جيش خاض حرباً ضدَّنا .. حملة بنادقهم يحيط بهم الموت والفناء من كلِّ جهة، وهم يجاهدون عبثاً لإطلاق ذخيرتهم القديمة الرَّديئة عديمة الأثر في وجه أقوى وأحدث أسلحة التَّدمير" (مع كتشنر إلى الخرطوم، ص 211 ضمن: زلفو؛ كرري). وكتب فيليب وارنر، بعد زهاء السَّبعين سنة من كرري: "ربما وجدنا، إذا نقَّبنا في تاريخ الإنسان، جماعة ماثلت في شجاعتها الأنصار، ولكننا، قطعاً، لن نجد، مهما نقَّبنا، جماعة فاقتهم شجاعة" (قيام وسقوط إمبراطورية أفريقية، ص 9 ضمن المصدر). لقد كانت تلك حقاً "أفضل خصال البشر عندما يتجرَّدون .. في أعنف اختبار .. من كل ضعف وخور" (زلفو؛ كرري، ص 495). حتى عبد الرحمن ود احمد، شقيق الأميرين محمود وإبراهيم الخليل، مضى يشقُّ طريقه بثبات إلى الجَّبهة الأماميَّة، متلمِّساً لنفسه، وسط كلِّ ذلك الموت المصبوب على الرُّؤوس، مكاناً وسط الصَّخر بعصاه التي لا تفارقه، رغم معارضة الأمير يعقوب "جراب الراى" الذى كان يشفق على ذلك الفارس الأسطوري، كونه كان .. ضريراً! (نفسه، ص 418).
(3)
ومع ذلك، ما الذي كان يمكن أن تحقِّق كلُّ تلك الأرتال من الشَّجاعة، والبسالة، والفداء، والتَّضحية، دون منٍّ ولا أذى، مع جبهة داخليَّة أريد لها، من جهة، أن تعيش، بلا انقطاع، حياة الثُّكنة العسكريَّة القائمة في روح الطاعة، والانضباط، والاستعداد الدَّائم لخوض حروب تكاد لا تنقضي، بينما أعماقها تعلكها، من جهة أخرى، وتسرى بالوهن المميت في أوصالها، سياسات الارتداد عن الإقرار القديم بالتعدُّد، وحِدَّة الفرز الطبقي، والاستقطاب الجِّهوي، واستبداد النُّخبة الأوتوقراطيَّة بالأمر دون سائر الناس، الشىء الذي مهَّد لمختلف صور المظالم، وممارسات التَّقريب والإبعاد، والتَّناحر بين القادة المدنيين والعسكريين على السُّلطة والثَّروة، بكلِّ السُّبل والوسائل، المشروع منها وغير المشروع، مثلما كانت تهبط بقدراتها، من جهة ثالثة، عزلة "السِّتار الحديدي" عن عالمها المحيط، باستراتيجيَّاته العظمى، وقوانين حراكه التاريخي، وطبوغرافيا تناقضاته الرَّئيسة، قبل أن تكتب عليها تصاريف العصر الكولونيالي، أن تجابه، في نهاية ذلك المشهد الدراماتيكي، قمة تكنولوجيا الحرب وتكتيكاتها، في خواتيم القرن التاسع عشر، دون أن تكون قد سمعت، مجرد السَّمع، بشىء منها، بينما أبطالها ".. يجاهدون عبثاً لإطلاق ذخيرتهم القديمة الرَّديئة عديمة الأثر"؟!
ما الذي كان يمكن أن تحقِّق كلُّ تلك الشَّجاعة سوى أن تثبُت ، ألا تبهرج ، ألا تسوخ مفاصلها في التراب، بل وأن تقذف بنفسها في لجج دواس مأساويٍّ خاسر، حين الموت أدنى من شِراك النَّعل وأقرب من حبل الوريد، وأن تردِّد، من أعماق بطولتها الإنسانيَّة المُهدَرة، مع الفتى الرِّزيقي الذي أبرأته عبقرية المكان والزَّمان الأمدرمانيَّين من كلِّ وساوس العصبيَّة الجِّهويَّة، القائد الفذِّ لجيش "الكارا"، سيِّدي الأمير الشَّهيد إبراهيم الخليل:
"الخير في ما اختار الله، المهديَّة مهديَّتكم إلا نِحنا قدَّنا بنسدُّو .. المهديَّة مهديَّتكم إلا نصرة ما في"! (نفسه ، ص 263 410 411).
فإذا بتلك الصيحة تتماوج، بين غيوم يأسها الخانق وحُرقة غبينتها الغائرة:
"نصرة ما في .. نصرة ما في .. نص .."!
من "دهم" إلى "أبو سنط"، ومن "سركاب" إلى "أبو زريبة"، تترجَّع أصداؤها المرعبة من نواحي "الإزيرقاب" و"أم قرقور" و"راحة القلوب":
"نصرة ما في .. ما .. في .. ما .."!
لتخفق بها أجنحة الغربان تنذر بالاستباحة السَّاحقة، واليتم الماحق، والترمُّل الثقيل، ونعيقها، من على البعد، يستحث نساء المدينة المكلومة، وصبيتها، بما يستحثهم عليه مشهد الثُّقب الفاغر في سنام "القبَّة": أن اخرجوا أجمعين، أخرجوا .. أخرجوا، موشَّحين بتراب الكارثة، وبسخامها، ورمادها، كأكلح ما يكون احتفال عبوس بمقدم "سردار الشُّؤم" فى وضح نهار الثَّاني من سبتمبر 1898م؟!
(4)
ما من شكٍّ في أن فكرة "المهدي المنتظر" قد وفَّرت، خلال النصف الأوَّل من ثمانينات القرن التاسع عشر، أيديولوجيَّة النُّهوض الثَّوري اللازمة لعموم أهل السُّودان في وجه مظالم الحكم التركي. فهي، وإن لم تقض على الفروقات الاجتماعيَّة التي بقيت شاخصة في أفق الثَّورة، إلا أنَّها استطاعت أن تصوغ، بكفاءة نادرة، في مرآة الممكن التَّاريخي، صرخة الولادة الأولى للوعي القومي في مرحلة تكوينه الجَّنيني (م س القدال؛ تاريخ السُّودان الحديث 1820 – 1955م، ص 164). ولأنَّ بمقدور الأيديولوجيَّة، حين تتغلغل، عميقاً، في العقول والوجدانات، أن تحوِّل الجَّماهير إلى قوَّة ماديَّة لا تُقهر، فإن أكثر شعوب السُّودان قد تداعت، بمختلف لغاتها ولهجاتها، لدعوة "المهديَّة الثَّورة"، من كلِّ فجٍّ عميق، لا لتلغى تعدُّد كياناتها ".. فتلك النُّظم جزء من واقع لا يمكن إلغاؤه بالتعليمات" (الصَّادق المهدي؛ يسألونك عن المهديَّة، ص 236)، وإنَّما لتتجاوز، لأوَّل مرَّة، وإلى حدٍّ كبير، تنافر العنصرين المستعرب وغير المستعرب، ولتنتظم ، موحَّدة في تنوُّعها، ومتنوِّعة في وحدتها، خلف قيادة سيِّدي الإمام الفذَّة، وتحت راياته المتعدِّدة، صوب هدف واحد مشترك هو الإجهاز على الحكم الأجنبي، في تحالف عريض استطاع أن يستوعب، خلال مرحلة الثَّورة، كل أشكال التعدُّد الاجتماعي، والعرقي، والجِّهوي، والقَبَلي، والدِّيني، واللغوي، والثَّقافي، وأن يهيِّئ لعبقريَّات أبناء الشَّعب ".. الفقراء الذين لا يُعبأ بهم"، كما كان الإمام الثائر يصفهم، طريق التَّفتُّح في كلِّ مجالات الفكر العسكري، والإدارة السِّياسيَّة، والاقتصاديَّة، والماليَّة، والتَّعليميَّة، والقضائيَّة، وغيرها، في مسيرة واحدة قاصدة، تكاتف فيها التَّعايشي والمحسي، الحمري والرُّباطابي، المسيري والبديري، الدِّينكاوي والدُّنقلاوي، النُّوباوي والبجاوي، الكاهلي والعبَّادي، وغيرهم، وغيرهم. حتى القبائل التي تخلفت سروجها يوم الزَّحف لم تعدم بطوناً، أو أفخاذاً، أو حتَّى أفراداً من ذوى البأس انخرطوا في عصبة التعدُّد السُّوداني تلك، والتي راحت طاقاتها تتفجَّر، وتتدافع، كما الحمم البركانيَّة، وسط دوىِّ "النِّحاس" الهادر، وصفير "الأمباية" الصَّدَّاح، باتِّجاه "القمة المنطقيَّة لمواقع النموِّ في المجتمع" (نفسه؛ ص 236 237)، من معركة "أبا"، وتشكيل مجتمع "قدير"، إلى تحرير الخرطوم، وتأسيس أم درمان عاصمة للسُّودان الطالع بأسره، عنوة واقتداراً، من سخام القهر التُّركي، تاريخئذٍ، إلى طلاقة "الرَّايات" الزَّاهيات، و"التَّهاليل" الحُرَّة، و"الجُّبب" المرقَّعة حدائق أمل، وتفاؤل، واستبشار، وألوان عزَّة، وكرامة، واستقلال، فكيف استحال كلُّ ذلك إلى رماد يوم كرري؟!
(نواصل)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.