"حكامات السودان".. شاعرات يطفئن نار الحرب بقصيدة    منى مجدي: السلام رسالة وأنا معه حتى آخر العمر    الهلال يتأهل ويواجه الجيش الرواندى في نصف نهائي سيكافا    سفارة السودان القاهرة وصول جوازات السفر الجديدة    تبدد حلم المونديال وأصبح بعيد المنال…    ميسي يحقق إنجازا غير مسبوق في مسيرته    ترامب: الهجوم على قطر قرار نتنياهو ولن يتكرر مجددا    جلسة طارئة لمجلس الأمن لبحث الغارات الإسرائيلية على الدوحة    في الجزيرة نزرع أسفنا    السودان..تصريحات قويّة ل"العطا"    اعتقال إعلامي في السودان    نوتنغهام يقيل المدرب الذي أعاده للواجهة    الصقور خلصت الحكاية… والهلال اليوم تبدأ الرواية    شاهد بالفيديو.. حسناء الإعلام السوداني تستعرض جمالها بإرتداء الثوب أمام الجميع وترد على المعلقين: (شكرا لكل من مروا من هنا كالنسمة في عز الصيف اما ناس الغيرة و الروح الشريرة اتخارجوا من هنا)    أعلنت إحياء حفل لها بالمجان.. الفنانة ميادة قمر الدين ترد الجميل والوفاء لصديقتها بالمدرسة كانت تقسم معها "سندوتش الفطور" عندما كانت الحياة غير ميسرة لها    شاهد بالصور.. القوات المسلحة تتمدد والمليشيا تتقهقر.. خريطة تظهر سيطرة الجيش والقوات المساندة له على ربوع أرض الوطن والدعم السريع يتمركز في رقعة صغيرة بدارفور    شاهد بالصور.. مودل وعارضة أزياء سودانية حسناء تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة من "العين السخنة"    شاهد بالصور والفيديو.. شاب سوداني يشعل مواقع التواصل الاجتماعي ببلاده بزواجه من حسناء تونسية وساخرون: (لقد فعلها وخان بنات وطنه)    شاهد بالصور.. القوات المسلحة تتمدد والمليشيا تتقهقر.. خريطة تظهر سيطرة الجيش والقوات المساندة له على ربوع أرض الوطن والدعم السريع يتمركز في رقعة صغيرة بدارفور    شاهد بالصور والفيديو.. شاب سوداني يشعل مواقع التواصل الاجتماعي ببلاده بزواجه من حسناء تونسية وساخرون: (لقد فعلها وخان بنات وطنه)    شاهد بالفيديو.. أطربت جمهور الزعيم.. السلطانة هدى عربي تغني للمريخ وتتغزل في موسيقار خط وسطه (يا يمة شوفوا حالي مريخابي سر بالي)    شاهد بالصورة.. محترف الهلال يعود لمعسكر فريقه ويعتذر لجماهير النادي: (لم يكن لدي أي نية لإيذاء المشجعين وأدرك أيضا أن بعض سلوكي لم يكن الأنسب)    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    بث مباشر لمباراة السودان وتوغو في تصفيات كأس العالم    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    والي الخرطوم يدين الاستهداف المتكرر للمليشيا على المرافق الخدمية مما يفاقم من معآناة المواطن    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    هذا الهجوم خرق كل قواعد الإلتزامات السياسية لقطر مع دولة الكيان الصهيوني    إيران: هجوم إسرائيل على قيادات حماس في قطر "خطير" وانتهاك للقانون الدولي    نجاة وفد الحركة بالدوحة من محاولة اغتيال إسرائيلية    ديب ميتالز .. الجارحى ليس شريكا    "فيلم ثقافي".. هل تعمد صلاح استفزاز بوركينا فاسو؟    «لا يُجيدون الفصحى».. ممثل سوري شهير يسخر من الفنانين المصريين: «عندهم مشكلة حقيقية» (فيديو)    التدابير الحتمية لاستعادة التعافي الاقتصادي    ضبط (91) كيلو ذهب وعملات أجنبية في عملية نوعية بولاية نهر النيل    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    تمويل مرتقب من صندوق الإيفاد لصغار المنتجين    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    مواعيد خسوف القمر المرتقب بالدول العربية    وزارة المعادن تنفي توقيع أي اتفاقية استثمارية مع شركة ديب ميتالز    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تفاصيل جديدة حول جريمة الحتانة.. رصاص الكلاشنكوف ينهي حياة مسافر إلى بورتسودان    قوات الطوف المشترك محلية الخرطوم تداهم بور الجريمة بدوائر الاختصاص وتزيل المساكن العشوائية    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    من صدمات يوم القيامة    "وجيدة".. حين يتحول الغناء إلى لوحة تشكيلية    فعاليات «مسرح البنات» في كمبالا حنين إلى الوطن ودعوة إلى السلام    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    حادث مأسوي بالإسكندرية.. غرق 6 فتيات وانقاذ 24 أخريات في شاطئ أبو تلات    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    أخطاء شائعة عند شرب الشاي قد تضر بصحتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إمبراطوريات الرعب
نشر في حريات يوم 12 - 09 - 2015

والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفة فلعِلة لا يظلم – المتنبي
كتب الأستاذ شوقي بدري مؤخراً بالصحف الإسفيرية ورقتين دسمتين ومتميزتين قارن فيهما بين المهدية ونظام الإخوان المسلمين الحالي بالسودان، مقدماً الأدلة الموضوعية من مذكرات جده بابكر بدري، ذلك المجاهد الخرافي الذي انضم للإمام المهدي طائعاً مختاراً، لاحقاً به قبيل دخوله الخرطوم فى مطلع 1885، وشارك فى تلك المعركة وفى العديد من الحروب التى خاضها الخليفة عبد الله بعد ذلك، خاصة تجريدة الأمير عبد الرحمن النجومي التى اتجهت نحو مصر بهدف غزوها، وفى حقيقة أمرها كانت مجرد حيلة للتخلص من ود النجومي نفسه والكثير من (أولاد البحر) مثل بابكر بدري، لأنهم من الوعي والطهارة والشجاعة بمكان، وذلك ما يخشاه الخليفة، مثل صدام حسين الذى افتعل حرباً ضد إيران الخميني عام 1980 ليقذف إلى أتونها بمن أراد أن يتخلص منهم من أجمل الضباط وأكثرهم كفاءة. وعاد بابكر بدري بعد الحبس والتشرد فى توشكي ودراو وصعيد مصر والقاهرة، وأقام بأم درمان تاجراً حراً، ولكنه أنصاري جاهز كجندي إحتياطي يستدعيه الخليفة متى شاء، وحدث ذلك بالفعل فى شتاء 1898 حيث كان بابكر بدري جزءاً من جيش الأنصارالذى تصدى للجنرال هربرت كتشنر فى كرري. ونحمد الله الذى كتب النجاة لهذا المقاتل العبقري ليعمر طويلاً ويعيش أنضر سنوات عمره بين رفاعة وأم درمان – تاجراً ثم مفتشاً للغة العربية بوزارة المعارف ثم مؤسساً لتعليم البنات بالسودان، بادئاً ببنات أسرته ومتطوراً حتى أسس وأدار مدارس الأحفاد للبنين والبنات التى لا زالت مشعلاً للتعليم والاستنارة وخدمة الوطن فى قلب أم درمان؛ وفى تلك الأثناءصنف مذكراته ذات الثلاثة أجزاء التى سرد فيها قصة حياته وتجاربه الشخصية مع المهدية من ألفها ليائها، بصدق وأمانة وموضوعية وشجاعة أدبية وسلاسة وطلاوة تجبرك على قراءة هذا السفر مرات ومرات دون كلل.
وتشير المقاربة التى أجراها شوقي بين المهدية والنظام الحالي إلى أن الدكتاتوريات الثيوقراطية الفظة شديدة الشبه ببعضها البعض، وهي تستخدم نفس الأساليب والمعاول فى البطش بالخصوم وفى التمكين والتشبث بالحكم وسرقة مقدرات البلاد إلى أن يتم الإنهيار الكامل للوطن برمته. وهكذا، فإن التاريخ يعيد نفسه، ولقد كتب الله على شعب السودان أن يعيش نفس المسلسل القميء مرتين خلال قرن واحد.
ولقد تناول كاتب آخر نفس موضوع التناسخ هذا في دراسة طولها أكثر من خمسمائة صفحة، وهو البروفيسير فرانسيس فوكوياما صاحب "جذور االنظام السياسي" – 2011 م –The Origins of Political Order – الذى ضمّنه التوصيف المتعمق لأنظمة الحكم بجميع الحضارات الإنسانية منذ عهود الإقطاع، مثل الممالك الصينية التى ازدهرت منذ عشرة آلاف سنة، والتى تأسست بحد السيف والرعب والتنكيل بالخصوم بمن فى ذلك أقرب الأقربين. وحكى فوكوياما فى ص ص 197/8 عن الإمبراطورة واو زاو Wu Zhao ، على سبيل الثال، كنموذج مطابق لكلما تقوم به الأنظمة الدكتاتورية الحديثة، رغم أنها حكمت الصين فى القرن السابع الميلادي – من 655م حتى 690م. ولقد كانت فى بداية أمرها مجرد جارية concubine ذات حظوة لدى الإمبراطور جاوزونج Gaozong، وقتلت إبنها الرضيع وألصقت التهمة بزوجة الإمبراطور العقيمة التى تمت تصفيتها، ومن ثم أصبحت أكثر قرباً من الإمبراطور، ومع تقدم سنه أصبحت الآمرة والناهية فى البلاط، وقتلت ولي العهد وألصقت التهمة بإبنها وأجبرته على الانتحار. ولما توفى الإمبراطور عام 683 أبعدت إبنها زونجو عن العرش بعد يوم واحد من تنصيبه، وحبسته بعيداً عن العاصمة، وحكمت بقبضة حديدية لا مثيل لها فى تاريخ الصين، حتى انتفض الشعب وأزالها عام 790 وأعاد إبنها زونجو للملك.
ويخلص فوكوياما إلى أن البشرية ظلت تتحمل النقص فى الأنفس والثمرات فداءاً للنظم السياسية التى حكمت فى جميع أركان الدنيا، عبر كافة مراحل التاريخ. بيد أنها كذلك ظلت فى حالة حوار وصراع مستمر بين دواعي الخير ونوازع الشر فى النفس الشرية، ولقد سجل الخير بعض الانتصارات، بدءاً بالديمقراطية الشعبية اليونانية القديمة، ومروراً بالمؤسسات والفلسفات التى حاولت أن تكبح جماح الدولة وتمتص عدوانيتها وتشذب ميلها للبطش ببني البشر، مثل وثيقة الماقنا كارتا البريطانية عام 1215م،والبرلمان الإنجليزي الذى أخذ يمارس صلاحياته منذئذ كحارس للدستور وضابط لصلاحيات العرش من ناحية، والجهاز التنفيذي (الحكومة) من الناحية الأخرى، ومثل الديمقراطيات الليبرالية التى ترسخت في الغرب منذ الثورة الأمريكية 1765/1783 والثورة الفرنسية 1789 ثم ثورات 1848 الأوروبية التى أطاحت بالأنظمة الإقطاعية.
ويكاد فوكوياما أن يستدل ببيت أبي الطيب أعلاه فى جميع مفاصل كتابه عن تطور نظم الحكم؛ وعلى الرغم من أنه صاحب نظرية (نهاية التاريخ) التى راجت بعيد انهيار المعسكر الإشتراكي قبل ربع قرن، معلنة انتفاء الحاجة للحروب مع تصرم الحرب الباردة واستقرار الأنظمة الغربية الديمقراطية ، إلا أن العالم ما زالت تمزقه النزاعات والتوترات والحروب الإقليمية والأهليةالتى عجزت المؤسسات الراهنة – كمجلس الأمن – عن وضع حد لها؛ وما زالت المخاطر محدقة بالبشرية من كل صوب وحدب. وثمة أنظمة أوتوقراطية هنا وهناك ذات شوكة سياسية وعسكرية نووية وصناعية وديموغرافية، ولو التأمت مع بعضها البعض كما فعلت دول المحور قبيل الحرب الكونية الثانية، فإنها لا محالة ستجر العالم نحو حرب كونية ثالثة – وهي تحديداً روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية وتوابعهم مثل كوبا وسوريا والسودان الإخواني والتنظيمات التكفيرية المسلحة التى تكاد أن تعتلى السلطة فى الهلال الخصيب وليبيا وبعضاً من شمال إفريقيا والصحراء الكبرى، وبعض البؤر الأخرى بالشرق الأوسط كاليمن؛ والملاحظ أن كثيراً من الغزل والتوافق ينساب بين هذه الجهات already، كما يدلل إجماعهم على دعم النظام الأسدي السوري المدمر.
وما زالت هناك أنظمة دكتاتورية تدار بنفس منهج الفاشيين والنازيين والستالينيين، كالحال فى كوريا الشمالية منذ عام 1953؛ وفى الصين منذ 1949 (على الرغم من المسحة الليبرالية التى اكتسبها النظام منذ "لسياسة الجديدة" – وهي التطور المتوازي بين المنهج الشيوعي القابض واقتصاديات السوق، بلا أدني قدر من الحريات)؛ وما ظل يحدث فى العديد من الدول منذ خروج المستعمر، مثل إفريقيا الاستوائية وزمبابوي ورواندا وزائير وأنغولا والصومال والسودان وجنوب السودان وتشاد…إلخ، وهذه جميعها بؤر توتر واقتتال مزمن ومجاعات وكساد اقتصادي كامل وتخلف اجتماعي، وتلك هي البيئة المثلى لتفريخ الاتجاهات المتطرفة والتنظيمات الفاشية، كما أنها رصيد جاهز للمحور الدولي الشيطاني الذى قد يبرز للوجود فى أي لحظة من رحم الدول ذات الأطماع التوسعية والإمبريالية والرافضة للشرعية الدولية والداعمة للإرهاب، مثل روسيا وإيران…إلخ.
ولقد كانت الأنظمة الدكتاتورية في العالم الثالث (بالإضافة إلى إسبانيا على عهد الجنرال فرانكو والبرتغال أيام سالازار) تقتات من توازنات الحرب الباردة، فهي إما تتكئ على الإتحاد السوفيتي ومنظومة المعسكر الاشتراكي، كما فعلت كوبا ومصر وإثيوبيا منقستوهايلي مريام وليبيا والجزائر وهلمجراً، وإما تصبح أفلاكاً دائرة حول الولايات المتحدة، يحرسها إعلان منروThe Monroe Doctrine لعام 1823م، وأحلاف اقيليمة أخرى كحلف بغداد، أو الاتفاقيات الدفاعية الثنائية، كتلك التي دعمت نظام سوهاتو الديكتاتوري بإندونيسيا لأربعين سنة كاملة.
ولكن، ما زالت الدكتاتوريات مستمرة و مزدهرة حتى بعد ذهاب العالم ذي القطبين؛ ولقد برز القطب الأوحد، أي الولايات المتحدة، كالقوة العالمية التي ليس لها منافس بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية عام 1991/90. غير أن الدكتاتوريات المتناثرة هنا وهناك واصلت مسيرتها كأن شيئاً لم يكن. وعجز القطب الأوحد عن تفكيك هذه المعادلة: فتراه إما يضرب عنها صفحاً كأنها غير موجودة على وجه البسيطة، أو يستصحبها و يتعاون معها في وضح النهار إذا كانت من ذوات النفط والموارد الاستراتيجية أو الأهمية الجيو سياسية ، أو يحاول معها بعض التجارب المختبرية على طريقة إياك أعني فاسمعي يا جارة، (أو كما يقول المثل السوداني "دق القراف خلّي الجمل يخاف")، وأهم هذه التجارب ما حدث من غزو عسكري لأفغانستان عام 2001 وللعراق عام 2003م.
كانت الولايات المتحدة تهدف من وراء هاتين الغزوتين أن تبسط عضلاتها flex muscles على فأر مختبر ما، وأن تجرب العنف (القانوني) المدعوم من قبل الدول الغربية والمجاز من مجلس الأمن (و لو بالصمت)، في وجه العنف المنفلت لطالبان بأفغانستان وصدام والبعث بالعراق (الذي اتهم زوراً وبهتاناً بامتلاك أسلحة نووية). وبالفعل، نجحت التجربة العسكرية في البؤرتين، إذ اقتحمتن القوات الأمريكية بغداد (كسكين ساخنة في جوف قطعة من الزبد)، كما علق أحد الضباط الأمريكان، و نفس الشيء في كابول، مما كشف تلك الأنظمة الدكتاتورية ووضّح أنها أسد على شعوبها، وفي الحروب نعامة، فهي فى حقيقة الأمر مجرد نمور من ورق.
على كل خال، وبعد مضيّ نيف وعقد على تلك الغزوات، وقف حمار الشيخ الأمريكي في العقبة، وأدركت الولايات المتحدة أنها أقحمت نفسها في أتون لا قرار لها ورمال متحركة كلما توغلت فيها كلما جذبتك إلى أسفل سافلين؛ و لم تتحقق الديمقراطية الموعودة في أي من الدولتين، بل تضرمت نيران الإرهاب والفساد والمحسوبية والقبلية والجهويةوالطائفية، وضربت الفوضى العارمة أطنابها، وأوشكت العراق أن تسقط في يد الجماعات الإرهابية المتطرفة، خاصة داعش، و أوشكت أفغانستان أن تعود لحكم طالبان.
إذن، فالعنف (القانوني) وحده لا يكفي، ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تؤدّب عشرات الدكتاتوريات المتناثرة على كوكب الأرض بالطريقىةالتي اتّبعتها في أفغانستان والعراق،وهذا اختبار لن تنجح فيه الدول الغربية مهما كانت سطوتها العسكرية والإقتصادية، لعدة أسباب، منها على سبيل المثال:-
– إن الشعب الأمريكي وشعوب غرب أوروبا قد سئمت الحروب، وقد خرجت من الحرب الكونية الثانية، وفيما بعدها الحرب الكورية 1950-1953 وحرب السويس 1956 وحرب فيتنام 1966/1975، أكثر ميلاً نحو السلام العالمي والاستقرار الذي يحرسه ميثاق الأمم المتحدة، برغم نقصانه.
– إن الغرب الآنبصدد حرب أخرى أقلقت منامه وسودت لياليه، وهي الحرب الاقتصادية الخفية ضد الصين والهند و دول البركس BRICS التي تمددت في جميع أنحاء الدنيا ووضعت يدها على مصادر المواد الخام و الأسواق بالعالم الثالث، خاصة إفريقيا.
– ليس هنالك ضمان لنجاح أي مغامرة عسكرية أخرى يخوضها الغرب بقيادة الولايات المتحدة، إذ قد تتحول إلى فيتنام أخرى، أو أفغانستان أو العراق؛ أنظر يا رعاك الله للحرب السورية التي استمرت لفترة أطول من الحرب الكونية الأولى، والتي قذفت بمئات آلاف من لاجئيها نحو الشواطئ الأوروبية والحدود اليونانية/ المقدونية والمجرية/ النمسوية، والغرب كالمتفرج العاجز، وتراه يفضل أن يتحملّ ويستوعب كل أولئك اللاجئين، ولن يدخل في مواجهة عسكرية مع نظام بشار الأسد، حتى لو كان هراً وليس ضرغاماً.
وفي هذه الأثناء، كيف تفكر الدكتاتوريات القمعية التي ضربت جذورها في العديد من دول العالم الثالث، مثل كوريا الشمالية بزعامة كيم جونق- أون الذي ورث الحكم عن أبيه وجده كيم إيل سونج؛ ومثل زمبابوى التى ظل يحكمها روبرت موقابي منذ عام 1980 وقد بلغ الثانية والتسعين من العمر؛ و مثل السودان الذى أناخ عليه المشير عمر البشير منذ 1989؟
إنها أنظمة مراوغة وثعلبية ماكرة، واعية بدروس التاريخ ومدركة للتوازنات الدقيقة التي تحكم العالم منذ نهاية الحرب الباردة، غير أنها لم تأت بجديد فيما يختص بآليات ودواعي الاستمرار في الحكم، فهي ما برحت تستنسخ أساليب الأباطرة الدمويين الذين حكموا كافة أطراف العالم منذ آلاف السنين؛ وهي بالتحديد نسخة القرن الحادي والعشرين من نظام الإمبراطورة الوحشية واو زاو Wu Zhao. ولقد توطدت أنظمتهم عبر المراحل التالي ذكرها:
– تماماً كما فعلت الإمبراطورة واو فإن فاتحة الشر كانت استخدام رئيس العسس للتخلص من جميع الضباط الكبار واستبدالهم بذوي الولاء رغم ضمور الكفاءة، ثم الانقلاب على ذلك الضابط الأعظم- أما واو فقد ذبحته، وأما حكومة البشير في أول أمرها فقد استخدمت اللواء عثمان الشفيع لهذه المهمة ثم لفظته، ونحمد الله أنها لم تلحقه برئيس العسس الصيني في الدار الآخرة.
– و مارست الأنظمة القمعية الحديثة نفس أساليب التمكين التي سارت عليها واو، وذلك بالتطهير الكامل لجهاز الدولة، ووضعه في يد الكوادر الحزبية كيفما اتفق.
– وخلق أجهزة أمنية موازية للمؤسسات الحكومية وشحنها بالبصاصين الملازمين لبني البشر فى حلهم وترحالهم كرقيب وعتيد؛ ولقد كانت واو أول من اخترع مثل هذا الجهاز، ثم طوره النازيون و البعثيون والأمريكان (السي آي إي) والروس – الكي جي بي – والشاهنشاه (السافاك الذى ورثه الحرس الثوري)وجماعة الإخوان المسلمين – التنظيم السري – التي ظلت تحكم السودان منذ ربع قرن.
– والقضاء على الطبقة الوسطى بأكملها، كما فعلت واو التي سحقت كل الإقطاعيين والكولاك ببلادها حتى تكسب الأقنان والفلاحين البسطاء، وهذا وحده هو الذي مكنها من الاستمرار في الحكم من عام 655م إلى 690م؛ ولكن ذلك النجاح النسبي جعلها في نفس الوقت مغرورة لحد الجنون، فأصبحت زانية مفرطة فى متع الفرج وهي في السبعين من عمرها، وأصابتها العديد من الأمراض الجنسية، فقامت ضدها ثورة أعادت إبنها زونزونق Zhonzong للعرش.
– و ما يجمع بين هذه الأوتوقراطيات، طارفها وتليدها، هي غريزة البقاء في السلطة عبر ترويع وترهيب وتقتيل الخصوم السياسيين الحقيقيين والمتوهمين، وخلق طبقة من المنتفعين والمطبلين والمطأطئين لرؤوسهم الذين يعطونها غطاءاً شبه شرعي؛ ولكن الذي يجمع بينها كذلك هو أن الولاء الذي يتم استقطابه بالرشى وكافة أنواع الفساد غير مضمون العواقب؛ وعبر التاريخ، دائماً تنهض الشعوب ضد جلاديها،وبسرعة خيالية ينفض سامر الطبالين وتنابلة السلطان، كما حدث للاتحاد الاشتراكي الذي حكم السودان تحت قيادة نميري حتى انتفاضة أبريل 1985، وما حدث للحزب الوطني بزعامة حسني مبارك في مصر، وحزب زين العابدين بن علي في تونس. وعلى هذا المنوال وضع الشعب الصيني نهاية لامبراطورته الشريرة واو زاو، وهكذا أيضاً ستنهض الشعوب المغلوبة على أمرها في السودان و زمبابوي و غيرها و تدك معاقل جلاديها.
– و لكن، و حتى تندلع الإنتفاضة الشعبية الحاسمة، لا بد أن نتفحص الحقائق التالية، متكئين على دروس التاريخ:-
إن الرشاوي في العصر الحديث تتجاوز الأوضاع المحلية لتشمل ذوي الخطر والوزن السياسي من القوى الإقليمية والدولية؛ فلقد ذهلت عندما قرأت ذات مرة أن المندوب الأمريكي المشرف على ملف محادثات نيفاشا عام 2003/2005 تلقى مبالغ ضخمة من حكومة السودان، والغريب في الأمر أنه got away with murder و لم يلاحقه مكتب التحقيقات الفدرالي FBI ولا الإعلام الأمريكي الذي يتصيد مثل هذه السلوكيات لدى المسؤولين ونجوم المجتمع. وذهلت عندما سمعت بالمزارع التي أهديت للرئيس الإخواني محمد مرسي عندما زار الخرطوم، ومن قبله عمرو موسى الذي استهلك من المانجو السودانية (الدبشة و قلب التور) الأطنان التي وافاه بها وزير الخارجية الأسبق م ع إسماعيل؛ و بالطبع لم يكن مفاجئاً بعد ذلك الرشاوي التي قدمت للمستثمرين الخليجيين والمصريين في شكل حيازات واسعة بفيافي البطانة والإقليم الأوسط والشمالي، مصحوبة بتشريعات مجحفة في حق أصحاب الأرض السودانيين، ومتهالكة ومتهافتة أمام البرجوازين العرب؛ وهكذا، فإن هذا البعد الجديد من الرشي العابرة للحدود قد يساهم في إطالة عمر النظام بما يضمنه له من دعم في أوساط الدوائر الحاكمة بالدول العربية.
إن نظام البشير، على سبيل المثال، لا يستدخم ميزان القوى المحلي للبقاء في السلطة ، وذلك بكسر شوكة القوى الوطنية وتزييف إرادة الحركة النقابية… إلخ، ولكنه أيضاً ينظر فى ميزان القوى العربي والإسلامي عبر المنطقة كلها ويسعى لكسب تأييد الكتلة ذات الوزن الراجح؛ ومنهذا المنطلق، ظل هذا النظام حليفاً لإيران طوال الخمس وعشرين سنة الماضية، ظناً منه أنها قد أخافت الولايات المتحدة، وما انفكت تتحداها جهاراً نهاراً-Death to America – وأنها صاحبة الكفة الأكثر رجحاناً وسط الكتل الشرق أوسطية. ولكن فجأة، ومنذ بداية (عاصفة الحزم)، أدرك نظام البشير أن رياحاً جديدة تهب على الشرق الأوسط، خاصة بعد هزيمة الإخوان المسلمين في مصر، فسارع بالإنضمام للمعسكر الجديد الذي اشتبك مع الحوثيين وأرابيبهم الإيرانيين، فشارك بفصائل من الجيش السوداني في هذا المجهود علّه يضمن رضاء القوى العربية الرئيسة بالشرق الأوسط، وعله يشغل القوات المسلحة ببرنامج خارجي يصرف أنظارها عما يدور داخل بلادها، مثل صدام حسين الذي أدخل الجيش والشعب العراقي في مواجهة مفتعلة مع إيران دامت لعشر سنوات كاملة، ثم تركها و انسل كما تنسل الشعرة من العجين.
و على خلفية الاشتراك في (عاصفة الحزم) أتى نظام الخرطوم بفاتورة أخرى ضمن ما يستجديه من ثمت لتلك المشاركة، وهي ملاحقة المعارضين السودانيين مثل الصحفي غير المحترف الوليد الحسين، وقد حسب جهاز الأمن الخارجي السوداني– ومعه بعض الدوائر التى ما زالت متعاطفة مع الإخوان المسلمين هنا وهناك – أن هذه عملية بسيطة يمكن أن تتم في صمت، تحت سحب الرهبة التي تتمتع بها الأجهزة الأمنية في الوطن العربي؛ وربما ظن البعض أن الوليد الحسين مجرد رقم عادي ضمن العمالة الوافدة التي كثيراً ما يتم (تفنيشها) و (تسفيرها) كموضوع روتيني لا يثير الغبار؛ بيد أن مثل هذا التصرف يصب في أشرعة الإخوان المسلمين، وربما قد صدر عن خلية إخوانية نائمة كالأفعىتحت سطح رمال الجزيرة العربية؛ فالنظام السوداني ما زال جزءاً من تنظيم الإخوان العالمي، وما زال مرتبطاً بالنظام الإيراني الذي ما فتئت كوادره وصناعاته العسكرية (موكّرة) فى قلب الخرطوم و ضواحيها. و من ناحية أخرى، كيف نثق في نظام ظل مرتهن للشيعة الإيرانيين طوال ربع القرن المنصرم؟
و فيما يختص بميزان القوى الدولي فإن الإخوان المسلمين ظلوا يتعاملون مع المخابرات الغربية منذ بواكير نشأتهم عام 1928 فى الإسماعيلية بقناة السويس، بل هم إفراز لتلك المخابرات في إطار حربها ضد الشيوعية إبان الحرب الباردة. و لقد رشحت أخبار الاتفاق السري بين الإدارة الأمريكية والإخوان المصريين قبيل الانتخابات التي اعقبت انتفاضة 2011، مما ضمن لهم الدعم اللوجستي والإعلامي الغربي، مقابل استمرار اتفاقيات كامب ديفيد وعدم المساس بالوضع الراهن الخاص بالعلاقات مع إسرائيل. كما تواترت العديد من أنباء التعاون بين المخابرات المركزية الأمريكية والنظام السوداني الذي قال عنه الجنرال كولن باول (إن حكومة البشير قدمت لنا من المعلومات وأشكال التعاون ما فاق تصورنا). ولما جاء أوباما للبيت الأبيض قبل ثمانية أعوام أصدر بعض الأصوات عن حقوق الإنسان المهدرة في دارفور، وإذا به يلوذ بصمت القبور إزاء هذا الملف، وإذا بالعلاقات مع النظام السوداني تسير على ما يرام، باستثناء بعض الأصوات الخجولة التي يطلقها الناطق بإسم الخارجية بين الفينة والأخرى للاستهلاك المحلي.
أما فيما يختص بأوروبا الغربية، فهي "حوار" يتبع أمريكا "فحل البعران"، وكل دولة منها، خاصة فرنسا و بريطانيا، لها حساباتها الإقتصادية الخاصة، ولا تريد لميزان القوى في سط إفريقيا وغربها أن يرتج طالما أن النفط التشادي والغرب افريقي ما زال يتدفق صوبهما، وهي لا تريد أن تتدخل في الشأن الداخلي لأي من الدول الإفريقية، وأي نظام تفرزه توازنات بلاده الداخلية فهي تعترف به و تتعاطي معه- بطول القارة و عرضها.
أما الدول العربية الشقيقة والصديقة، فهي تتعاطف مع الشعب السوداني وتحبه و تجله و تحترمه، ولكنها كالدول الأوروبية لا تتدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، إذ لديها ما يكفيها من الهموم:-
– فهي تواجه بؤراً ملتهبة بكافة أطراف الجزيرة العربية والهلال الخصيب، بما تلقيه عليها من تبعات سياسية وأخلاقية، اقلها مسألة اللاجئين: فإن هي ضربت عنهم صفحاً هرولوا نحو أوروبا لتتلقاهم المستشارة ميركل بمقولتها: ( يجب أن نفتح لهم أبوابنا على مصاريعها حتى تستطيع أجيالنا القادمة أن تقول إن اللاجئين العرب المسلمين فضلوا المجيء لنا رغم أن مكة أقرب لهم)، وإن سمحت لهم بالدخول فسيأتون بخلاياهم الصاحية والنائمة وبمتطرفيهم من كل شاكلة و لون.
– و هي في مواجهة مستمرة مع إيران التي ظلت تحتل الجزر الإماراتية الثلاث منذ عام 1971، و ظلت تتدخل في العراق منذ 2003، وفي البحرين ولبنان وسوريا واليمن والسودان.
– و هي في مواجهة مع تنظيم الإخوان المسلمين الذي يتم اكتشاف خلايا جديدة له آناء الليل و أطراف النهار بالدول الخليجية، كالحيّات الخارجة من بياتها الشتوي.
– و هي في مواجهة (مستترة) مع روسيا والصين اللتين تقفان مع كل من يناصبها العداء، مثل النظام السوري، واللتين تبحثان عن موطئ قدم بالشرق الأوسط.
– و هي في حالة عدم اطئنان للارتهان الذي يفرضه اقتصادها على الدولار وعلى المؤسسات المالية الغربية كصندوق النقد والبنك الدولي والمصارف الأمريكية والأوروبية الكبرى، وهذه المؤسسات قد تتآمر عليك في أي لحظة وتخسف بالأسهم والسندات وتهبط بقيمة العملات المحلية – كما فعلت من قبل مع حلفائها النمور الآسيوية (كوريا الجنوبية و تيوان و ماليزيا و اندونيسيا و تايلاند و هونج كونج) عام 1997، و ما أوشكت أن تفعله هذا العام مع الصين.
و آخر الكلم:
– على كل حال، ليس أمام الشعب السوداني إلا أن يعتمد على نفسه في مواجهة النظام الدكتاتوري الإخواني الذي يجلس على أنفاسه، فنحن كأنا في يوم القيامة، يوم يفر المرء من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه. وإذا أخذ الشعب أمره بيده فإن الجميع سيهرعون للتضامن معه، وسينفض سامر المؤتمر الوطني كما حدث للاتحاد الاشتراكي و للأحزاب الشيوعية التي حكمت شرق أوروبا لأكثر من سبعين سنة.
حقاً:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
و لا بد لليل أن ينجلي و لا بد للقيد أن ينكسر
و السلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.