اصدرت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بياناً ، أمس 24 نوفمبر ، بمناسبة انعقاد الجمعية العامة للمحكمة ، ردت فيه على دعوى استهداف المحكمة لافريقيا – أهم دعوى يروجها الراغبون فى الافلات من العقاب على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان . بيان المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا: (المحكمة الجنائية الدولية محكمة عالمية مستقلة يجب دعمها) ينطوي سؤال (لماذا أفريقيا؟) على كثير من التخمين المدفوع بالحماسة، لكنه تخمين أقل ما يُقال عنه إنه خاطئ في كثير من الأحيان. كان ولا يزال ما يُقال عن إفراط المحكمة الجنائية الدولية (ويُشار إليها باسم "المحكمة") في التركيز على أفريقيا ربما أكثر الانتقادات التي تُوجه إلى المحكمة انتشاراً بل أوهاها حجة. إذ تسيطر على الروايات العامة والأحاديث الإعلامية كلمات من قبيل (متحيّزة) و(مُوجّهة) و(مُسيّسة). لكن العناوين الرئيسية المثيرة إنما تُخفي الحقيقة وتشوه الفهم العام للمهمة التي نضطلع بها. عندما بدأ المؤتمر الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية أعماله منذ ما يناهز 17 عاماً، اتجهت أنظار العالم نحو المندوبين المشاركين فيه آملين أن يبشروا بعهد جديد من المساءلة عن الجرائم الفظيعة. وكان الزعماء الأفارقة مِن أقوى المدافعين عن المحكمة. والحقيقة أن القارة الأفريقية وفرادى الدول الأفريقية ما فتئت، منذ الشروع في تأسيس المحكمة، تضطلع بدور رئيسي في إنشائها وممارسة الدور المنوط بها، وتدعم تلك المؤسسة في كل خطوة من خطوات تطورها. أولا، وكما ذكرت آنفا، قدمت الدول الأفريقية قدرا هائلا من الدعم وأدت دورا شديد الفعالية في مرحلة التفاوض حول نظام روما الأساسي، وهو المعاهدة المؤسِسة للمحكمة. ولم يكن ذلك إلا اعترافا من رؤساء الدول الأفريقية والمجتمع المدني والجهات المعنية الأخرى في القارة بأن المحكمة الجنائية الدولية آلية قضائية مستقلة ذات أهمية يمكن أن تضع حداً للفظائع الجماعية وتحقق العدالة للضحايا وتعزز السلام وتوطد الاستقرار. ولا تزال هذه الدوافع والمصالح نفسها منطبقة تماماً حتى يومنا هذا. لقد كان أول بلد في العالم يُصدق على نظام روما الأساسي هو السنغال، وحذا حذوها في هذا العمل ذي الأهمية والدلالة التاريخية عددٌ لا حصر له من دول القارة الأفريقية الأخرى ومن جميع أنحاء العالم. واليوم، تشكل البلدان الأفريقية أكبر كتلة دول إقليمية صدقت على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. يجب ألا ننسى هذه الحقائق التاريخية. ثم تولت افريقيا زمام قيادة عالم العدالة الجنائية الدولية بإحالة حالات الفظائع الجماعية إلى مكتبي للتحقيق فيها؛ وبالتعاون معنا فيما نجريه من تحقيقات؛ وبإلقاء القبض على الأفراد الذين تطلبهم المحكمة وتقديمهم؛ وبحماية المجني عليهم والشهود. ومنذ بدء عمل المحكمة في عام 2002، تلقى مكتبي عدداً من الطلبات الرسمية من بلدان افريقية للتحقيق في ادعاءات تفيد ارتكاب فظائع في أراضيها. وقد دعت أوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وكوت ديفوار ومالي مكتبي إلى التدخل من أجل التحقيق والمقاضاة. وكان آخر بلد دعا مكتبي إلى التحقيق في الجرائم التي يحُتمل أن تكون قد ارتكبت في أرضه هو جمهورية افريقيا الوسطى – بل كان ذلك للمرة الثانية. وتدل هذه الأمثلة الحيّة على إيمان الزعماء الأفارقة بالمحكمة وثقتهم في نفعها. صحيح أن ثمة حالتان في أفريقيا قد أحيلتا إلى المحكمة الجنائية الدولية عن طريق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ألا وهما: دارفور (السودان) وليبيا، بيد أن مكتبي غير ملزم بقبول الإحالة من مجلس الأمن بصورة تلقائية؛ بل يقوم بذلك على نحو مستقل ومن تلقاء نفسه متى اطمأن إلى الوفاء بالمتطلبات القانونية اللازمة المنصوص عليها في نظام روما الأساسي، كما حدث في الحالتين المذكورتين. وعلى النقيض من المغالطة القائلة إن المحكمة تركز على أفريقيا، فإن عبء العمل لدينا أبعد ما يكون عن الاقتصار على تلك القارة. فنحن، في مكتبي، مشغولون بإجراء دراسات أولية في أفغانستان والعراق وكولومبيا وفلسطين وأوكرانيا ودول أخرى. وكما هو الحال في كل ما نؤديه من أعمال، نَعكفُ حالياً على تقييم هذه الحالات تقييماً دقيقاً ومستقلاً ونزيهاً. واسمحوا لي أن أتكلم بوضوح: إنني لن أتردد في فتح تحقيقات في أي من هذه الحالات كي أقدم الجناة إلى العدالة إذا سمحت معاييرنا القانونية لنا بذلك. ففي الشهر الماضي، قدمتُ طلباً رسمياً إلى قضاة المحكمة كي يأذنوا لمكتبي بالتحقيق في جرائم الحرب التي قد تكون قد ارتكبت في النزاع الذي دار في جورجيا في عام 2008. ويجب التأكيد على أن استمرار تعاون الدول الأعضاء مع المحكمة ركيزة أساسية تمكنها من أداء عملها. فجمع الأدلة وحماية الشهود وإلقاء القبض على المشتبه بهم وتقديمهم، فضلا عن تنفيذ الأحكام أعمال تُؤدَّى جميعاً من خلال التزام الدول الأعضاء في المحكمة -البالغ عددها 123 دولة حتى الآن. فهي بمثابة الذراع التنفيذية التي لا تستطيع المحكمة من دونها الوفاء بولايتها وفاءً تاماً. إلا أن المحكمة الجنائية الدولية ليست دواءً لكل داء. بل هي بمثابة الملاذ الأخير في تصديها لأوجه الظلم التي تنفذ من الثغرات حينما تعجز المحاكم الوطنية أو تمتنع عن التصدي لها. فمن دون المحكمة الجنائية الدولية، لن تسمع محكمة صوت الضحايا، ولن يُقام عدل. إن حماية الضحايا والاعتراف بما ألمّ بهم ركيزة بالغة الأهمية من ركائز الدور الذي تضطلع به المحكمة. ولئن كان في غير مستطاعها محو الأضرار الناجمة عن الفظائع الجماعية، فإنها تعترف بما ألمّ بالضحايا عندما لا تعترف به محكمة أخرى. إنني، بصفتي مواطنة غامبية وأفتخر أيما افتخار بكوني أفريقية، أريد أن أرى أفريقيا كما يريد أن يرها معظم الأفارقة: قارةً يعمها الرخاء وتنعم بمزيد من السلام وتزيد فيها مشاركة المواطنين ويحترِم فيها الجميعُ ويعززون سيادة القانون وحقوق الإنسان. وبعد عقد من الآن، أود أن أرى بزوغ شمس قارة تنعم بالنمو الاقتصادي المستمر، ويتاح فيها ما يكفي من الفرص لشباب سكانها حتى يتمكنوا من الإسهام إسهاماً بناءً في مستقبلها وأن يضمنوه. إن مكافحة الإفلات من العقاب على الجرائم الفظيعة المزعزعة للاستقرار شرط أساسي لنهوض قارة أفريقية تنعم بمزيد من السلام والرخاء. إنني لأؤمن إيماناً راسخاً بأن تعزيز سيادة القانون وتمتين نظام قضائي سليم يعمل على نحو جيد شرطان أساسيان لتحقيق الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي في أي بلد. ومع وضع كل هذه الأمور في الاعتبار، أبدت أفريقيا، في هذا القرن الجديد، التزاماً متزايداً بسيادة القانون والمساءلة عن الجرائم الفظيعة. وأعتقد أنها ستستمر في المضي قدماً في هذا الاتجاه الإيجابي. فالالتزام الثابت الذي لا يتزعزع تجاه المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما تفعله أفريقيا، لا يزال واجباً. ونحن مدينون لأنفسنا ولأطفالنا وللأجيال المقبلة باحتضان المحكمة الجنائية الدولية كي تتمكن من أداء عملها بالغ الأهمية في جميع أنحاء العالم من أجل مكافحة الإفلات من العقاب على الجرائم الفظيعة وتعزيز منظومة العدالة الجنائية الدولية التي يحويها نظام روما الأساسي. إن حماية المواطنين من ويلات الحروب والصراعات بالوسائل القانونية دليل على القيادة السياسية لا الضعف. المصدر: مكتب المدعي العام. 24/11/2015.