ظل نظام الخرطوم يتلمّس معالجات توهمية غارقة في الخيال كلما خرّ عليه جزءاً من سقف افعاله المشينة وسياساته الملتوية التي تفتقر الي ادني ابجديات التعقل .. في البدء علّقوا شماعة امالهم الكبيرة علي فصل الجنوب مقابل توفير ثلاثة مليون دولار لخزينة الدولة ، هي تكلفة الحرب اليومية ، ولقد روّج لذلك الخال الرئاسي المدعو الطيب مصطفي في انتباهته الغافلة ووعد الشعب بالدعة ورغد العيش وطيب المسكن والمأكل وكل شي جميل . وما لبث ان ذهب الجنوب واكل جماعة منبر السلام العادل ثورهم الاسود صبيحة نتيجة الاستفتاء الذي صوّت له اهل الجنوب بنسبة فاقت نسبة تصويت اريتيريا التي كانت تقاتل باكملها لسنوات طوال لنيل استقلالها ، ما لبث ان ذهب الجنوب حتي تبين خطل فكرة الخياليون قصيري البصر والبصيرة ولم يري الشعب السوداني لا عيش رغيد ولا حياة طيبة تسندها ملاين الحرب العائدة الي الخزينة العامة ، بل اشتعل فتيل الحرب في معظم الهامش وكذّب واقع الحال ما كانوا به يحلمون. وبعد ان ضاق الحال وانقطع منبع الوارد الذي كان يأتي من خلال بترول الجنوب تحول النظام الي اكذوبة النفرة الزراعية التي كانت موسما مشرفا لظهور عصابات الفساد التي استوردت من التقاوي ما خاب وفسد … لا زراعة ادركت النظام ولا مشروع الجزيرة نهض من كبوته الربع قرنية ، واصبحوا يعلقون امالهم حتي علي امطار السيول والفيضانات ليترقبوا نجاح موسم زراعي يساهم في انعاش اقتصاد اصبح تحت القاع بل وتخاطاه بمسافات يصعب الوصول اليها . وسوء الحال يمضي الي ما هو ابشع ، مما يضطر النظام الي فتح ابواب التعدين العشوائي ، ليخرج بعدها رأس النظام في مقابلة اعلامية مرئية ليبشر الشعب بان خزينة حكومته موعودة باربعة مليار دولار في كل عام ويعد ذلك فتحا ربانيا جادت به السماء التي تقف دائما الي صف جند الله والصالحين من امثالهم.. وثلاثة اعوام تمضي علي وعد الرئيس المكذوب وقد تهالك كل شي ، صعدت الاسعار وصعد سعر صرف الدولار مقابل الجنية صعوده الاخير ، فصعدت معه روح الجنيه السوداني الي جوار ربها ، وبلغ الدولار ما يوازي احد عشر جنيهاً او ما يزيد وما زال الزحف مستمر ، والبشير يحدث الناس عن نظامه الذي جاء ليدخل الناس الجنة … الجنة التي يمتلكون صكوكها ليدخلها الشعب عبر بوابات التجويع والتركيع والتنكيل وكل مظاهر الخداع التي لا يستحي النظام من تكرارها … واخيراً جادت قريحة النظام بفكرة الحوار الوطني عبر وثبته التي لم تبرح مكانها ، ظناً منه ان الدنيا سوف تنفتح عليه خيرا وبركة ، وان العالم سوف يرفع عنه طوق الحصار بمجرد ان تبدأ مسرحية الحوار في العرض والمشاهدة ، ولان الحوار به شق باطن واخر ظاهر فقد جاء اليه النظام مكرها ورغم انفه … ظاهر الحوار يبدو كمبادرة من الرئيس هدفها حلحلة قضايا الوطن والتوافق علي منهج لحكم البلاد عبر وسائل سلمية ترضي الجميع ولا تظلم احدا ، اما باطن الحوار يدلل علي ان النظام ادرك ان سقوطه سوف يكون عبر بوابة الانهيار الاقتصادي هذه المرة ، عندما يبلغ سعر صرف الدولار عشرين جنيها ويمضي في المزيد ، حينها لن تستطيع ان توقف ثورة الجياع المدافع وكل ادوات القمع ولو كان بعضها لبعض ظهيرا .ولكن فكرة هبوط النظام المريحة تقف في وجهها معضلتان ، الاولي حبل المحكمة الجنائية الدولية الملتف حول عنق الرئيس منذ اكثر من عشرة اعوام والذي قصّر من تحركاته وبدد منامه واحلامه وحوله الي مهرج يكيل السباب بالفاظ ادني من سوقية .. وهذه الاخيرة يمكن تجاوز بعبعها بضمانات غربية تمكن الرئيس من هروب امن هو ال بيته الشرفاء الذين اثروا ثراءاً يفوق حد الوصف علي حساب اهلاك الشعب .. والمعضلة الثانية تتمثل في منظومة الفساد التي تماهت في النظام واصبح اي تعديل في بنية النظام يعني المساس الكامل بمصالحها الضاربة في العمق ، وهذه المنظومة ليست منظومة معزولة وتمارس اعمالها من خلال ادوات ضغط من خارج موقع السلطة ، بل تمثل هذه العصابات السلطة في ذاتها ، فهم ولاة ووزراء ومحافظين ومساعدين بالاضافة الي اشقاء الرئيس وال بيته الطاهرين جداً ، ناهيك عن اخرين لم يعرفهم الاعلام امثال ابن همزة الباسط ومن معه من الذين نهبوا اسامة بن بلادن ستون مليون دولار في طريق شريان الشمال… هذه المفايا سوف تعمل كل ادوات المكر والخبث لكي تحافظ علي الوضع علي ما هو عليه ، فهم الذين الذين افشلوا حوار ادس ابابا الاخير مع الحركات المسلحة وهم الذين اعلنوا عن وفاة الحوار في وسائل الاعلام … الشهور القليلة القادمة سوف تكشف الحجاب عن جديد في تركيبة السلطة في السودان ، اما تحول حقيقي او ثورة تقتلع النظام من جذوره المتأكلة ، اذ يستحيل ان يصمد اقتصاد دولة يقوم علي التسول والهبات والتماس الحلول المؤقتة وتستمتع عملته الوطنية بالتقهقر المخيف اما العملات الاخري … ولكن من المؤكد ان المنظومة الممانعة للتغير سوف تعتمد علي تخويف الرئيس واستغلال شلله الفكري ، اذ انه معروف عنه عدم مقدرته علي تجاوز الاحداث وهناك وصف اطلقه عليه نائبة السابق الحاج ادم حين قال (الرئيس مثل السبورة ستظل تحفظ ما كتبته عليها ما لم تقوم بمسحه) ومن المتوقع ان يقلب الرئيس ما تبقي من طاولة الحوار تحت اي لحظة في حال ظهور اي مخرج اخر ، وليس هناك من مخرج غير تسليم مفاتيح السلطة ، او سيظل خيار الذهاب الي الهاوية هو الاقرب..