نعم. احتفلنا وهللنا بالذكرى الستين للاستقلال؛ البعض اتخذها مناسبة للطم الوجوه وشق الجيوب نظرا لاستمرار نظام القتلة واللصوص على سُدة الحكم، بينما استند آخرون لأسباب إضافية للقنوط من إمكانية نهضة الوطن، وانعتاقه من مشكلاته المتعددة والمعقدة، في المستقبل المنظور. كلا الفريقين له أسبابه الوجيهة بلا شك، ولكن المعضلة في وطننا لا تقتصر على انحطاط منظومة الحكم الحالية فحسب، بل لعل النظر إلى جذور الأزمة الحالية يكون أجدى فتيلا وأنجع تأثيرا. مشكلتنا هي الإنسان! * الإنسان المقهور في الداخل، والمهزوم داخليا في الخارج. * المثقف صاحب البرج العاجي في الداخل، والنخبوي الذي يغرق سياسيا في الخارج. * التقدمي الذي يتقهقر ماضويا في الداخل، والإسلاموي الذي يتحصن عولميا في الخارج. * النظامي المغتصب لجسد الوطن في الداخل، وغير المبالي الذي كفر بالوطن في الخارج. أمثلة صارخة فحسب، وتبقى النماذج الشوهاء متعددة المشارب، ومتباينة المعالم هنا وهناك. الأمل في الانعتاق يتناقص طرديا كلما ابتعدنا عن بوصلة الحل؛ تطوير الإنسان وتحريره من ربقة الجهل المريع، ولا أعني به محو الأمية فحسب، فشريحة لا يُستهان بها من الأميين تمتلك من خبرة الحياة والحكمة ما لا يتوفر لكبار المتعلمين، والأمثلة على جهل متعلميّ "القلم ما بيزيل بلم" لا تُعد ولا تُحصى! نجحتْ مناهج تعليمنا المتخلفة عن ركب الحضارة، والمغموسة حتى النخاع في منظومة إيديولوجية زائفة في خلق جيل معظم أفراده –والاحترام للأقلية- لا يكترثون بالوطن. غابت لدينا مادة التربية الوطنية، وغابت الزيارات الحقلية إلى المصانع والمزارع، وغابت المكتبة المدرسية، وغابت حصة الموسيقى والفنون، وغابت النشاطات غير الدراسية- وتحوّل التلميذ/الطالب إلى فأر معامل يُخضِعُهُ دهاقنة النظام التعليمي المؤدلج لنظرياتهم الفاشلة، ويتحالفون مع المعلم صاحب المرتب المتدني والعقلية السادية في تشويه نفوس النشء بما يستحيل علاجه لاحقا! أما إعلامنا المأزوم فلم يتقن –يا للأسف- إلا صبّ الزيت على النار، فبعد أن عرفنا المسلسلات الإذاعية الهادفة، والمسرحيات السودانية والمسوّدنة الراقية، والبرامج التوعوية الثرّة، وبذل الثقافة المبسطة للجميع- أضحى إعلامنا صورة هزيلة من ذاته القديمة؛ يتخصص في التطبيل للقائد الضرورة، والزعيم الإله، والمسؤول الخالد في عرش المنصب الحكومي، وقد مهّدت لذلك بالطبع مرحلة "الشبق الإيديولوجي" منذ وصول نظام القتلة واللصوص إلى الحكم بليلٍ حتى مطلع الألفية الثالثة. أما ثالثة الأثافي على العقل السوداني فاستشراء الأحزاب الطائفية؛ بما تقتضيه من الخضوع الكامل –كالميت بين يدي المُغسِّل- للزعيم الإله الذي تغيب من قاموسه مفردات مثال: الاستقالة، التقاعد، تبادل الأدوار؛ بل يبقى الإمام المنصور والحسيب النسيب عبئا ثقيلا على شعبنا حتى حين. هنا ينظر المرء بحسرة بالغة، بل وبغضب عرمرم، إلى زمرة من شباب وشابات الوطن في مقتبل العمر؛ ارتضوا لأنفسهم أن يُقدّسوا ذات الأصنام السياسية التي كانوا آباؤهم عليها عاكفين. كيف يقبلون في زمننا المتفجر علما وثقافة ووعيا بسياسي لا يمتلك من الخطاب إلا قوله: جدي كان كذا، وعمي فعل كذا..؟! أين هم من: إن الفتى من قال هأنذا؟ وأين هم من: كل شاة معلقة بعرقوبها؟ وأين هم من: نفسُ عصامٍ سوّدتْ عصاما..؟! أين موقفهم من أحزاب عائلية؛ للزعيم الإله فيها زبدة المناصب، والبقية منها يُسلِمها لأبنائه وبناته وأبناء أسرته المقربين؟! أيها الشعب السوداني العظيم، حان الأوان للكفر صراحا بواحا بهذا الأُقنوم غير المقدس، وبلفظه وراء ظهورنا من أجل مستقبل سليم، وإلا انتظروا فناء مجتمعيا لا يُبقي ولا يذر!