[email protected] ليست المشكلة في أن يقوم وزير عدل أو مدير عام شرطة أو والي ولايةفي هذا العهدبالتدخل لإطلاق سراح متهم مقبوض عليه في بلاغ جنائي، فجنس هذا الفعل (إطلاق سراح متهم) كان يقوم به وزراء عدل سابقون برفع سماعة التلفون كما فعل وزير العدل عبدالباسط سبدرات مع المتهم الكاردينال (صحيفة الإنتباهة 23/9/2009)، فالحال من بعضه، فهناك من بين وزراء عدل هذا النظام من قام بطلب رشوة (مليون دولار) من متهم نظير شطب التهمة ضده في قضية غسيل الأموال المعروفة(موقع الجزيرة نت -الصحفي عماد عبدالهادي 25/2/2007)، وكان الصحفي عُثمان ميرغني هو الذي كشف عن موضوع الرشوة وتحدّى في صحيفته وزير العدل أن يقوم بفتح بلاغ ضده إن كان الخبر الذي نشره غير صحيح، ولم يفعل الوزير حتى جرى إستبداله في تعديل وزاري لاحِق، وهي القضية التي كان المحامي بارود صندل قد تقدم بطلب لرئاسة الجمهورية لرفع الحصانة عن الوزير ولم يجد هو الآخر أية إستجابة على طلبه. كما أنه لم تكنهناك مشكلة كبيرةفي أن تقومالسيدة تهاني تور الدبّة وزيرة الدولة بوزارة العدل بالتدخّلفي سير التحريات بتعديل وصف التهمة في مواجهة إبنها وإطلاق سراحه من الحراسة، فهي أرملة وسِت بيت وليس لها في القانون وتفتقر للخبرة العملية فيما ينبغي على وكيل النيابة عمله، فقد درست القانون على كِبر وعلى سبيل التسلية قبل أن تتم مكافأتها على صبرها لفقدها زوجها الشهيد بتعيينها في هذا المنصب، فهذه ظروف تجعل ما قامت به فعل طائش بقلب أم رؤوم ولا يُحسب على أهل المهنة. بيد أنالمشكلة في أن يكون الذي ذبح تقاليد المهنة هذه المرة هو الدكتور عوض الحسن النور، والسبب في ذلك أن عَوَض قد جاء إلى هذا المنصب تسبقه إليه سمعة عالية بأنه الفارس الذي سوف يُعيد إلى مهنة العدالة تقاليدها التي إندثرت في هذا العهد وذلكبحكم سمعته ونزاهته وخبرته الطويلة في مجال القضاء وممارسة القانون. صحيح أن وزير العدل، بحسب القانون، يملك سلطة وكيل النيابة في أيّ دائرة إختصاص في عموم السودان، ولكن ليس مقبولاً منه، طبقاً لأصول المهنة، أن يقوم بممارسة هذه السلطة والسعي للإفراج بنفسه عن شخص متهمفي قضية بسبب الخلفية السياسية للمتهم(بغض النظر عن موقف المتهم من القضية)،وأن يحضر ليلاً بنفسه ويعرض خدماته (رفضها المتهم) بإطلاق سراح المتهم بالضمانة الشخصية برغم أن القضية تتصل بالتعدي على المال العام، وأن يحدث ذلك بعد ساعات قليلة من القبض على المتهم وقبل مرور فترة كافية لإكتمال التحريات التي تستلزمها مثل هذه القضايا، فقد كان الإعتقاد عند الناس، بأن شخصاً مثل عوض النور،وبحسب ما حقّقه من سمعة، لو بلغ عِلمه بأن وكيل نيابة صغير قد سعى بنفسه لإطلاق سراح متهم في مثل هذه الظروف (حتى لو كان مُختصّاً) لما تركه يُصبح عليه صباح وهو في وظيفته دون التحقيق معه وتقديمه لمجلس محاسبة. وجه الفجيعة في هذا الفعل من شخص مثل عوض الحسن النور أنه يتسبُّب في كُفر الناس بمصداقية الذين ينتقدون النظام وهم خارِج صفوفه ثم ينقلبون على أفكارِهم بعد تبوئهم مراكز السلطة، ويمارسون نفس الأفعال التي كانوا ينتقدونها، فليس هناك شخص كتب في شأن العدالة وما ينبغي أن تكون عليه عبر الصحف الورقية والإسفيرية مثل الدكتور عوض النور، وقد مضى على عوض النور أكثر من عام على بلوغه المنصب ولا يزال المُختلِسون ولصوص المال العام طُلقاء ولم تُقدّم أي قضية فساد كبرى للمحاكمة (مثل قضية التقاوي الفاسدة وسودانير وأراضي المدّعي العام السابق ..إلخ)، وهو يُحيل شكوى الفساد التي تصل إليه بعد الأخرى إلى لجان تقصّي حقائق (ليس في قانون الإجراءات الجنائية سند لهذا الإجراء) عِوضَاً عن فتح بلاغات بموجبها والقبض على المُتهمينوتقديمها للمحاكمة، كما حدث في خصوص ما بلغ علمه بتقرير القاضي أحمد أبوزيد الذي كشف عن قضايا فساد واضحة في هيئة الضمان الإجتماعي والجمارك ..إلخ وأحال التقرير للتقصي أمام لجنة برئاسة المستشار "قشّي" وأمهلها (15) يوم لرفع تقريرها ثم مضت شهور على ذلك دون أن تكشف اللجنة عن ما إنتهت إليه. (هل يلزم الوزير بلاغ بوقائع الفساد الموضحة بالأرقام والأسماء في قضية كبري الدباسين التي يقوم الناس بتداولها عبر وسائل التواصل الذكية هذه الأيام؟). خطأ وزير عدلمثل عوض النور حاز على ثقة الناس ليس مثل خطأ الآخرين من أهل السياسة، ففي عالم السياسة نسي الناس الصحفي حسن إسماعيل الذي كانوا قد رفعوه بدرجة بطل حين فرد صدره في شجاعة وخطب على الهواء يُحرّض الشباب على الثورة على النظام ثم، حين خرج الشباب وقدموا أرواحهم، خرس لسانه بحصوله على وظيفة وزير ولائي وهي وظيفة بلا أعباء قال أنه يريد أن يُصلِح بها النظام من الداخِل، كما نسوا لشخص مثل عبدالرحمن الصادِق المهدي الذي ظهر للناسفي لِبس خمسة مثل الجنرال "روميل" وهو يقود فريق حراسة والده في عملية "تهتدون" التي قال أنه قُصِد منها تحريك المعارضة من الخارج ثم عاد ليعمل مستشاراً لرئيس الجمهورية ومهمته اليوم توصيل هدايا القصر لرعاية المبدعين وحضور المهرجانات، وكما نسى الناس للسيد/ عثمان عمر الشريف أنه شارك في حكم الإنقاذ وساهم في أخطائه وهو الوحيد الذي كان النظام قد قدّمه للمحاكمة بتهمة إستغلاله لوظيفته كوزير للإسكان في فترة الديمقراطية بحصوله على قطعة أرض فاخرة بحي العمارات. لا يمحي الزمنخطأ شخص إرتكبه في شأن تقاليد "مِهنة" وتسبُّبِه في حدوث الأثر السالِب على أبناء الجيل الحالي وما يليه من أجيال وخاصة حينما يرتبط ذلك بمهنة العدالة، فبأي وجه تستطيع وزارة العدل، بعد اليوم، أن تقوم بمساءلة وكيل نيابة أو ضابِط شرطة يقوم بإطلاق سراح متهم بمثل هذه الطريقة (قريب أو صديق أو صاحب نفوذ) وإثنان من أصل ثلاثة وزراء بالوزارة قد قاموا بمثل هذا العمل،ويكفي في بيان أثر الخطأ في تقاليد المهنة على الأجيالما فعله رئيس القضاء السابق جلال محمد عُثمان بالقضاء والذي يلزم لتصحيحه سنوات وسنوات لن يحضرها شخص حي يقرأ هذه السطور (إعترف الشيخ حسن الترابي في الحلقة الأخيرة أن رئيس الجمهورية إستدعى القضاة في عهده وأملى عليهم حكم المحكمة الدستورية في القضية الخاصة بتصفية حزبه ومصادرة ممتلكاته). ثم نختم حديثنا بسؤال: هل كان لوزير العدل أن يذهب بنفسه لإطلاق سراح متهم من الحراسة لو أنه كان من عامة الناس ولم يكن من أهل العشيرة !! هل كان يفعل ذلك بعد مضي ساعات من القبض عليه وقبل أن تُستكمَل التحريات حتى لو كانت تُرجّح براءته (لا يتسّق الإجراء بإطلاق سراح المتهم بالضمان مع البراءة، فالأول يعني إنعقاد التهمة). ده ياما في الحبس مظاليم !! سوف يرى الوزير عوض النور – بعد هذه الحادثة – أن حاله لن يكون كما كان عليه قبلها، يتهيّبه المفسدون ويعملوا له ألف حساب، فبعد اليوم يستطيع أي صاحب سلطة تطاله تهمة أن يلجأ إليه ويطلب منه مناصرته بدلاً أن يخشى سيفه.