هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    التراخي والتماهي مع الخونة والعملاء شجّع عدداً منهم للعبور الآمن حتي عمق غرب ولاية كردفان وشاركوا في استباحة مدينة النهود    وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    المرة الثالثة.. نصف النهائي الآسيوي يعاند النصر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كلمة د. عبد الرحمن الغالى فى تدشين كتاب ( المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدرويش)
نشر في حريات يوم 09 - 10 - 2016


بسم الله الرحمن الرحيم
تدشين كتاب ( المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدرويش)
الجمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أشكر لمصر ولنقابة الصحافيين استضافتنا، وأشكر للجنة المنظمة جهدها في تنظيم هذا الحفل.
وأحمد الله من قبل ومن بعد وأشكره أن شاءت حكمته وتدابيره أن يكون التدشين الأول لكتابي في القاهرة من غير قصد مني ولا تدبير. ولو قصدت وتأملت لكان حرياً بالتدشين أن يبدأ بالقاهرة قبل غيرها.
فموضوع الكتاب إنما يحكي هماً واحداً وإن غاب عن البعض. ذلك الهم هو تشابه تاريخ البلدين وتشابكه والتشويه والغبار الذي علق به وضرورة دراسة ذلك التاريخ المشترك بعين العقل استخلاصاً لعبره الدافعة لتصحيح مسار حاضرنا وتنقيته من كل ما يعوق سير أمتنا نحو مصيرها المشترك.
ولئن جاء عنوان الكتاب محصوراً في الرد على رواية الكاتب السوداني (حمور زيادة)، فإن موضوع الكتاب ليس مقصوراً عليها، ذلك أن مثل تلك الأطروحات ظلت تتردد لعشرات السنين وذهب أغلبها بعد زوال دواعيها حيث كانت جزءاً من الدعاية الحربية الامبريالية وبقيت بعض آثارها ندوباً في جسم ووعي الشعبين. وساهم في ذهاب تلك الاطروحات تصدِّي جماعات ممن التزموا معايير المهنية الاكاديمية ومراعاة الضمير الحي في كلا القطرين وفي سواهما من أقطار العالم المختلفة.
الرواية موضوع الكتاب هي رواية تاريخية إذا التزمنا التصنيف العلمي لأنواع الرواية: تدور أحداثها في أماكن تاريخية معلومة وفي زمان معلوم وفي فترات محددة الملامح لفاعلين معلومين من ساسة وثوار وقادة عسكريين وتستخدم بعض الوثائق التاريخية بل توردها بنصها، فهي رواية تاريخية لا جدال في ذلك ولا شك.
والرواية التاريخية في الأدب العربي والعالمي تشغل حيزاً ضخماً وتضم أسماء كبيرة لا نستطيع في هذه العجالة التطرق لها.
تبدأ الرواية بتصوير غزو السودان كغزو مصري جلب الحرية للسودانيين وتمضي الرواية في تحقير ثورتي الوادي: الثورة العرابية والثورة المهدي وتحقير قائدي الثورتين.
أما الثورة المهدية فقد استفاض الكتاب ( كتابي هذا) في الرد على ذلك التحقير كما استفاض في تصحيح المفاهيم المغلوطة والوقائع المختلقة.
أما الثورة العرابية فقد أوجبتها نفس الظروف التي أوجدت الثورة المهدية، وإن اختلف حظها في النجاح لعوامل ليس هذا مكان إيرادها.
ففي تلك الحقبة تكالبت على المصريين مصائب جعلتهم غرباء في بلدهم مستذلين مستضعفين. أهم تلك العوامل غلبة النفوذ الأجنبي على البلاد، لا سيما البريطاني وإغراق البلاد بالديون وكثرة الضرائب على المصريين وحرمانهم من المشاركة في أمر بلادهم وغير ذلك.
أما تهميش المصريين وحرمانهم، فقد كان اولو الأمر من الحكام والموظفين والعسكريين طبقة غريبة عن أهل البلاد من الأتراك والشركس وغيرهم. ويكفي أن أحمد عرابي – رحمه الله – كان أول مصري يصل لرتبة قائم مقام وبقي فيها تسعة عشرعاماً لا يجوزها لأعلى. كان يتم استيعاب المصريين جنوداً لا سيما في حملات التجنيد الإجباري. وكان الأهالي يتهربون من الدخول في الجندية ويهرِّبون أبناءهم. ومن الذين هربهم أهلوهم إلى السودان محمد إبراهيم الفراش من أهالي الشرقية والد الشاعر الشعبي السوداني الشهير ( إبراهيم الفراش) الذي كان مصري الأب والأم وإن صار من أشهر شعراء الشعر القومي السوداني.
أما تحقيرهم فيكفي حوادث المحاكم المختلطة التي تقضي للأجانب على المصريين ولا راد لحكمها ولا معقب، ويكفي حوادث القتل المجاني للمصريين طوراً بالسلاح وتارة تحت سنابك خيل الاجانب وإن كانوا مدنيين، ويكفي – وسنكتفي بهذا المثل – تشغيل 27 ألف عامل مصري سخرةً بدون أجر في حفر قناة السويس وهي شركة مساهمة للأجانب نصيب وافر فيها وليست عملاً وطنياً تملكه مصر آنئذ. ولما ألغى الخديوي إسماعيل السخرة قاضاه الفرنسيون وحُكم على البلاد بدفع أكثر من ثلاثة ملايين من الجنيهات تعويضاً.
وأما غلبة النفوذ الأجنبي فقد بلغ حد تعيين الحكام وفرضهم وعزل من لايرضون سيرته، فقد مات الخديوي عباس مقتولاً وتم فرض محمد سعيد وفي مرحلة لاحقة تم عزل الخديوي إسماعيل لمعارضته النفوذ الأوربي وفرضوا تعيين إبنه محمد توفيق وكذلك فعلوا في تشكيل الوزارات وحلها.
أما الوسيلة لذلك النفوذ فقد بدأت بالقوة الناعمة: إغراق مصر في الديون وفرض فوائد عالية عليها ثم تعيين مندوبين لضمان سداد الديون لم يلبثا أن صارا وزيرين في الحكومة التي أُطلق عليها حقاً وصدقاً (الوزارة الأوربية).
ولا شك أن الديون قد لعبت دوراً كبيراً في الثورة العرابية إذ لضمان سدادها فرض الأوربيون تخفيض الجيش فتم تسريح أعداد هائلة من الضباط المصريين ولم يطل التسريح الآخرين وتم فرض وزراء أجانب في الحكومة لضمان تسديد القروض وتم إلغاء أي دور لمجلس شورى النواب بل تم تهميشه بعد عزل إسماعيل.
وتضافرت مع الحرمان والتهميش والتحقير للمصريين وتزايد النفوذ الأجنبي عوامل من الأوبئة والجفاف فصارت البلاد مرجلاً يغلي فلا عجب أن تطلع كل الشعب المصري للتغيير. فالثورة العرابية لم تكن ثورة نخبة عسكرية ولكن شاركت فيها كل طبقات الأمة. فلأول مرة ينعقد إجماع الأمة على الحياة النيابية ورفض السيطرة الأجنبية كما أشار العقاد في كتابه الجامع عن الثورة العرابية وإحتلال مصر والموسوم باسم ( ضرب الإسكندرية في 11 يوليو). إذ شمل ذلك الخديوي إسماعيل قبل عزله ودعاة الحياة النيابية من الدستوررين والعسكريين ورؤساء الدين ووجهاء العاصمة.
كانت الحركة العرابية تحظى بسند شعبي كاسح لا أدل عليه من تحرير عرابي من محبسه حينما حينما حاولو اعتقاله وقتله. ولا من خروج القرى في استقباله حين أوبته من الإسكندرية إلى القاهرة.
وهناك كتاب مهم أصدره الأكاديمي الأمريكي ( جوان كول) بعنوان ( الاستعمار والثورة في الشرق الأوسط: الجذور الاجتماعية والثقافية لحركة عرابي في مصر)
Colonialism and Revolution in the Middle East: Social and Cultural Origins of Egypt's Urabi Movement .
أبان فيه ذلك التأييد وحلل جذوره الاجتماعية والاقتصادية في دراسة من أعمق ما كتب عن الثورة العرابية حيث نظر لها كثورة متعددة الطبقات شاركت فيها أغلب فئات المجتمع المصري من ثائر على الامتيازات الاجنبية في مقابل الاستبعاد الوطني ومن مطالب بحكم الشورى في مقابل هيمنة فئة أجنبية عثمانية على مقاليد القرار ومن ثائر على ظلم النبلاء والاقطاعيين للفلاحين ومن مطالب بالمساواة في تجنيد الضباط وترقيتهم في مقابل هيمنة قيادة الجيش الشركسية التركية ومن ساخط علة هجرة الأوربيين واحتكارهم الصناعة والتجارة في مقابل عطالة وكساد سوق التجار والصناع المهرة المصريين ومن رجال الدين الذين آذاهم فقر الشعب وهوانه وتحكم الأوربيين فيه.
فهي ثورة وطنية وليست هوجة وما حدث من حوادثها سبقه حوادث أجنبية أشد بطشاً وأعظم خطراً.
اتفق العقاد وكول أن احتلال مصر لم يكن بسبب الثورة العرابية وإنما كان أمراً مقرراً معلناً أو شبه معلن.
فإذا علمنا ذلك بطل الزعم بغزو مصر للسودان لأن مصر نفسها كانت مستعمرة مغزوة. ألزمتها بريطانيا بدفع تكاليف الغزو مثلما ألزمتها بأخذ الدين ودفعه مضاعفاً ومثلما ألزمتها فرنسا بحفر قناة السويس. فشراكتها في غزو السودان وحكمه شراكة إسمية وهمية يمثلها البيت الهازل:
منك الدقيق ومني النار أضرمها والماء مني ومنك السمن والعسل
وإني لأربأ بأي مصري أن يعتبر عهد جلاديه تاريخاً معتمداً له ويتبنى وجهة نظره في مقابل الثورة الوطنية العرابية. كما أربأ بأي سوداني أن ينظر بعين الحكم العثماني البغيض والحكم البريطاني فإنهما لم يكونا سوى عهدين استعماريين كأبشع ماتكون العهود الاستعمارية. وقد أوضحت في ثنايا الكتاب أن النظام العثماني / الخديوي والحكم الانجليزي لا يمثلان مصر.
وقد استشهدت في كتابي بمواقف عدد من أهل الرأي المصريين الذين نظروا لهذا التراث المشترك : فرفضوا تبني نظرة الطبقة الحاكمة في مصر والسودان واعتبرها طبقة أجنبية تتحكم في الشعبين مثل موقف عرابي وأعوانه والشيخ أحمد العوام والاستاذ محمد عبده وبالطبع أستاذه جمال الدين والاستاذ محمد فريد أبو حديد والدكتور عبد الودود شلبي والاستاذ محمد حسنين هيكل والكتور محمد أنيس والاستاذ سيد البحراوي والاستاذ حسام الحملاوي على سبيل المثال.
أما أطروحة جحود المصريين لفضل الأوربيين في الرواية فهي دعوى لا تقل غرابة عن دعواها في جحود السودانيين لفضل الحكم العثماني . إذ بلغ عسف الحكم البريطاني في مصر مبلغاً عظيماً. لم يبتدء بقصف الاسكندرية وتهديمها وقتل أهلها ولم ينته بحادثة دنشواي التي هزت مصر وضمير العالم وكانت سبباً في عزل كرومر وفي مقتل بطرس غالي. بدأت الحادثة بصيد الانجليز للحمام وانتهت بحرق المحاصيل وصيد المصريين بالبنادق ثم محاكمتهم وشنقهم وجلدهم أمام ذويهم وقد نصبت المشانق قبل بدء جلسات المحكمة. كتب برنارد شو في مقدمة مسرحيته ( جزيرة جون بول الأخرى) هجوماً عنيفاً لاذعاً على الحادثة وكتب حافظ إبراهيم قصيدة حزينة جاء فيها:
وإذا أَعْوَزَتْكُمُ ذاتُ طَوقٍ بين تلك الرُّبا فصِيدُوا العِبادا
إنّما نحن والحَمامُ سَواءٌ لم تُغادِرْ أطْواقُنا الأَجْيادا
لَيْتَ شِعْري أتلكَ مَحْكَمَةُ التَّفْتيشِ عادَتْ أم عَهْدُ نِيُرونَ عادا
وكتب فيها شوقي:
يا ليت شعري في البروج حمائم*** أم في البروج منية وحمام
نيرون لو أدركت عهد كرومر *** لعرفت كيف تنفذ الأحكام
وقال شوقي ساخراً من كرومر حينما تم عزله فأساء للمصريين في خطاب وداعه إساءات بالغة وأساء لدينهم ووصفهم بالعميان الذين سيلدون مبصرين يعرفون أفضال الانجليز. قال شوقي مخاطباً كرومر:
لما رحلت عن البلاد تشهدت فكأنك الداء العياء رحيلا "
أنذرتنا رقًّا يدوم وذلة تبقى وحالًا لا ترى تحويلا
هل من نداك على المدارس أنها تذر العلوم وتأخذ "الفوتبولا"
أم من صيانتك القضاء بمصر أن تأتي بقاضي دنشواي وكيلا
أما بعد فالحديث ذو شجون فلنرجع للكتاب ونستعرض فصوله:
تدور أحداث رواية شوق الدرويش للكاتب السوداني حمور زيادة في القرن التاسع عشر إبان الثورة المهدية في السودان، وتمتد حتى بُعيد الغزو الثنائي اسماً البريطاني فعلاً.
فازت الرواية بجائزة نجيب محفوظ مما حقق لها زخماً لا سيما في السودان. جاءت حيثيات لجنة التحكيم صريحة مباشرة في دوافع منح الجائزة، إذ تطابقت وجهة نظرها السياسية والأيديولوجية مع الرواية فكان هذا هو العامل المرجح في فوز الرواية. لم تغلف اللجنة رأيها وإنما تبنت أحكاماً قطعية تقريرية في قضية أقل ما يقال عنها أنها تحمل وجهات نظر مختلفة لدى أصحاب الشأن السوداني بل وحتى الدول التي انغمست في ذلك الصراع.
هذا الفوز وبالحيثيات التي سيأتي هذا الكتاب على ذكرها – في تقديري – قد صار عبئاً على الرواية وكاتبها، وخَصَم من حيادية اللجنة ومهنيتها.
يقوم الكتاب في الباب الأول بتلخيص الرواية، والتعليق على بعض الحقائق التاريخية المغلوطة دون الخوض في النقد الأدبي والتعرض لفنيات الرواية. ويلفت النظر إلى أن الرواية استمدت مادتها الأساسية من كتاب الأب أوهروالدر الذي صاغه ونجت باسم (عشر سنوات في معسكر المهدي) ويرى أن الرواية إن هي إلا صياغة أدبية لذلك الكتاب.
لن يطيل هذا الكتاب الحديث في الجدل الممتد حول التوظيف السياسي الأيديولوجي للجوائز الأدبية، وإن مرّ عليه فمسه مساً خفيفاً يفي بغرض الإشارة، إذ سينصرف جل جهده لتناول جوهر الرواية وثيمتها الأساسية في ذم المهدية ونعتها بالتطرف والكذب والوحشية والهمجية والتخلف، واعتبارها تمرداً طارئاً أوقف تطور السودان وقطع رسالة "الاستعمار" التحضيرية التي ما لبثت أن استعادتها بوارج الجيش المصري الإنجليزي التي حررت السودانيين من المهدية وفتحت لهم مجال التطور على حد زعم الرواية.
تبنى كاتب الرواية وجهة نظر الجيش الغازي، فرأى في السودان أرضاً خلاءً يقطنها ثلة من السود الذين بالغ في الإكثار من وصف سوء خَلْقهم وخُلُقهم: سوء خَلْقهم من حيث سواد البشرة وقبح المنظر مع الروائح العطنة واتساخ الأجساد والملابس إلى آخر أوصافه، وسوء خُلُقهم بانتشار الكسل والنفاق وتفشي المفاسد الاجتماعية والأخلاقية العديدة التي ذكرها وأجرينا لها تلخيصاً في الفصول الأُوَل من هذا الكتاب.
ولأول مرة فيما قرأت من كتب أرى كتاباً يتحدث عن محاسن الاستعمار العثماني – المصري في السودان، إذ أجمع مؤرخو الثورة المهدية – بمن فيهم الذين مهدوا لقمعها وإعادة احتلال السودان – على ظلمه ومبالغته في الوحشية حتى صار ذلك الباعث الأول على اندلاع الثورة المهدية في السودان.
يناقش هذا الكتاب بعد ذلك العهد التركي المصري ليبين في المقام الأول أنه كان استعماراً كأبشع ما يكون الاستعمار، إذ ركّز على صيد البشر قبل نهب الموارد، ثم يمضي الكتاب في تبيين انغراس كراهية ذلك النظام في الوجدان الشعبي مستدلاً بما وقر في ذاكرة السودانيين الجمعية، وبما جادت به قريحتهم من أدب شعبي في ذمه. ويبين أن ذلك الحكم لا يمثل المصريين بل هم والسودانيون سواء في نيل أذاه، ويستدل على ذلك بأقوال نخبة من المفكرين المصريين أنفسهم.
وينتقل الكتاب بعد ذلك ليزيل ركام الدعاية الحربية الذي أهيل على صورة المهدية، وينفي صفة التاريخ عن تلك الكتابات، إذ لايمكن وصفها إلا بالدعاية الحربية والتاريخ منها براء. فإذا كان التاريخ رصداً أميناً لأحداث وقائع أمة ما، فينبغي لكاتبه أن يتحلى بصفات تؤهله لكتابة ذلك التاريخ، منها معرفته بالبلاد وأهلها وطبائعهم وثقافتهم، ومنها إلمامه وتأهيله العلمي لذلك العمل – حيث أن التاريخ علم كسائر العلوم- ثم منها حياده وعدالته وخلوه من الغرض إلى غير ذلك من الشروط.
ولكن تاريخ السودان والمهدية على وجه الخصوص كتبه عسكريون أجانب محاربون اتخذوا من الكتابة سلاحاً أشد مضاءً من أسلحتهم الفتاكة، حيث حشدت تلك الكتابات الرأي العام البريطاني خلف خطة "استعادة" السودان، وحاصرت كل رأي أو موقف سياسي يتحفظ على ذلك. وفي سبيل تعبئة الرأي العام امتلأت تلك الكتابات بشتى الأكاذيب التي اتضح زيفها منذ وقت مبكر. فضحها كتاب أكاديميون أجانب ووطنيون.
وقد استخدم "الفاتحون" ثلاثة أسلحة ماضية لتبرير غزو السودان وقمع المهدية وتمكين حكمهم. أولها الآلة الإعلامية التي أتينا على تمهيدها للغزو، ثم استخدمت لتبرير الفظائع المرتكبة بعد الغزو. وثانيها الآلة العسكرية التي حصدت المدافعين وتعقبتهم في مجازر استمرت لأكثر من ربع قرن. ثم جاءت الآلة الثقافية التي أكملت وتكاملت مع فعل الآلتين الاعلامية والعسكرية. والآلة الثقافية التي لم يلتفت الكثيرون لخطرها بسبب استفظاعهم لآلة القتل العسكرية وذهولهم عن آثارها، لا تقل خطراً عن سابقتيها. وقد أوضحت ورقة جيدة كتبها الباحث الأمريكي البروفيسور نوح سالومون أستاذ الأديان بكلية كارلتون بعنوان (نقض المهدية: الاستعمار البريطاني كإصلاح ديني في السودان الإنجليزي المصري 1898-1914)[1] بعضاً من أوجه ذلك السلاح الثقافي.
ولهذا الوجه الثقافي فطنت رواية (الأشياء تتداعى)(Things Fall Apart) للكاتب النيجيري الكبير شنوا أشيبي، حيث تدور فكرتها حول السلاح الثقافي الذي حوّل وجه الشعب المستعمَر بعد أن زرع فيه هوية جديدة غسلت أدمغة الشعب وأدت إلى خذلان بطل الرواية لما حاول استنهاض قومه ضد المستعمِر.
وفي سبيل إزالة أثر الآلة الإعلامية السالب يقوم الباب الثالث بدفع الافتراء عن المهدية، ويبين تسامحها بالوقائع المعلومة وشهادات الخصوم والمحايدين الذين لا تربطهم أدنى شبهة ارتباط بها، ثم بالوثائق الثابتة بعد أن يؤصل ويستقصي مفهوم الجهاد في المهدية وضوابطه، ويستعرض التسامح الذي لقيه خصوم المهدية ومحاربوها ويبين إكرام المهدية للمشائخ ورجالات الجماعات الدينية، ويبين تسامح المهدية مع المسيحيين لاسيما الأوربيين والذي اعترف به ونجت نفسه المسؤول الأول عن الحملة الدعائية ضد المهدية. ويمضي الكتاب في الحديث عن العدل ونفي المحسوبية والفساد المالي ويتحدث عن حوادث فتح الخرطوم ويدحض المطاعن التي أُلصقت بذلك الحدث.
وفي الباب التالي يبين الكتاب الأبعاد الثقافية والفكرية والعلمية للمهدية وقادتها ودولتها، والوعي العلمي والسياسي الذي تمتعوا به، ويعقد فصلاً في المزايا الشخصية والفكرية والنفسية لقائدي المعسكرين: المهدي وغردون مستعيناً بشهادات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها لا تمت للمهدية والتعاطف معها بصلة. ويضع معايير عامة للدروشة ليرى القاريء مدى انطباقها على أيٍ من الشخصيتين.
ثم يمضي الكتاب في الباب الخامس ليتحدث عن الخليفة عبد الله وعن شهادات الأعداء التي تنفي التهم المثارة ضده، ثم يذكر الفصل شهادتين مهمتين لشخصين اتسما بالعدالة والمعاصرة للخليفة والقرب منه. وكلا الرجلين لا يمكن أن يتهما بالتعصب للمهدية إذ واصلا عملهما بعد المهدية وأدليا بشهادتيهما بعد زوال دولتها: أولهما هو الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم الذي صار شيخاً لعلماء السودان، والمؤرخ محمد عيد الرحيم.
ويستشهد هذا الباب بوقائع وشهادات تبين الظلم الفادح الذي تعرض له الخليفة. وتذكر نتفاً من إنجازاته الضخمة، ويفرد الباب حيزاً كبيراً ليوضح وعي الخليفة السياسي بما يدور حوله في العالم والإقليم، ومعرفته الدقيقة بالبلاد وقواها الاجتماعية ودوافع أهلها السياسية والاجتماعية ثم يوضح السمات العامة لأسلوبه في الإدارة.
ثم يأتي للحديث عن الرضا الشعبي الواسع الذي حظي به الخليفة وعهده مستدلاً بالشهادات المحايدة، وبالمواقف التي هي أصدق إنباءً عن ذلك الالتفاف ومنها الموت الفدائي العظيم معه في كرري، والهجرة إليه بعد زوال سلطته ثم الموت معه في أم دبيكرات.
ويستشهد الباب السادس بدراسة مهمة أعدها الباحثان الأمريكيان (ريتشارد ديكميجيان ومارقريت فايزوميريسكي) بعنوان (القيادة الكاريزمية في الإسلام: مهدي السودان)[2]. تبين تلك الدراسة ثبات الولاء للمهدية منذ بدايتها وإلى ما بعد زوال دولتها حيث تدرس 140 قائداً مهدوياً حافظ 90% منهم على ولائهم للمهدية، وتدرس خلفيتهم الاجتماعية لتيبن أن المهدية حظيت بمساندة كل قطاعات المجتمع السوداني.
ويستشهد هذا الباب أيضاً للتدليل على بقاء الولاء للمهدية بدراسة للبروفيسور حسن أحمد إبراهيم بعنوان (الانتفاضات المهدوية ضد الحكم الثنائي في السودان 1900- 1927)[3] والذي عدد فيه الانتفاضات المهدوية التي استمرت لفترة طويلة وفي أنحاء متفرقة من البلاد.
ويناقش الباب السابع المعارضة الداخلية للمهدية، وقضايا مثارة مثل قضية الجهادية وتفلتاتهم، وقضية التعاون الحبشي في مواجهة الهجمة الأوربية، وقضية محاباة الخليفة لأهله، وسياسة التهجير. وفي قضية العرض الحشبي للتعاون مع المهدية في مواجهة الهجمة الأوربية يوضح الباب مستعيناً بورقة الدكتور هارولد ماركوز ( مهمة رود 1897)[4] وبوثيقة أوردها الدرديري محمد عثمان في مذكراته مع بقية المراجع التي تناولت القضية وهكذا.
ثم يعرض الكتاب في باب تالٍ مقارنة بين المهدية والحكمين السابق والتالي لها من حيث التسامح والقهر: ليبين تعامل تلك النظم الثلاثة في الحرب وفي أحوال السجون والتعامل مع الأسرى والإلتزام بحقوق الإنسان، ويتطرق لموضوع الرق والأسباب الحقيقة للغزو الثنائي للسودان، والحريات الدينية وغيرها من الأوجه.
ويستشهد هذا الباب بدراسة بعنوان (السيد عبد الرحمن المهدي: دراسة في المهدية الجديدة في السودان 1899- 1956)[5] لحسن أحمد إبراهيم . كما يستعرض القمع الديني للمهدية والطرق الصوفية مستشهداً بورقة نقض المهدية التي بيّن كاتبها الحظر الذي فرضه الحكم الثنائي على المهدية ورموزها: من زي وشعائر عبادية الخ. بل والحظر على الطرق الصوفية التي رأوا فيها خطراً لكونها تحظى بقبول شعبي واسع خارج سيطرة الحكومة، ولكون مؤسساتها من زوايا وخلاوى ومعاهد يتم تمويلها ذاتياً. فتبنت الحكومة البريطانية سياسات قمعية تجاه الطرق الصوفية عكس ما قد يتبادر للأذهان. وفي المقابل زرع الحكم الثنائي نمطاً من الإسلام الرسمي يسهل خضوعه ويتوافق مع الحاجات الاستعمارية. وتشير الورقة إلى أن الاستعمار البريطاني تخلى عن العلمانية في سبيل نقض المهدية ومحوها من الوجود، إذ تتلخص فكرة العلمانية حسب رأي الورقة في إبعاد الدين عن السياسة، وحصره في الجانب الشخصي، وفي خصخصة المؤسسات الدينية، وفي تناقص الأهمية الاجتماعية للمعتقدات الدينية، ويخلص الكاتب إلى عدم انطباق تلك المواصفات الثلاث على سياسة بريطانيا الدينية في السودان.
ويلمح هذا الباب إلى الفرق في التعامل بين المهدية والحكم الثنائي مع الصوفية.
ثم يخلص الكتاب في الباب التاسع ليبين بعض أوجه عطاء المهدية وإسهاماتها التي لم تغب حتى عن المؤرخين الأجانب، ويبين بعض وظائفها التي يمكن أن تقوم بها مجدداً، ودورها الديني والوطني الذي ظلت تلعبه والذي يمكن أن تلعبه، فأهم خلاصة لهذا الباب هي أن المهدية ليست فقط حركة تاريخية وإنما حركة مستمرة متجددة ولا تقل أهميتها الدينية والوطنية اليوم عما قامت به بالأمس. ويبين هذا الباب دور المهدية اليوم في ترسيخ الفكر الوسطي من حيث النظر والعمل والتبشير، كما يبين عطاءها الوطني وأهميته لبقاء البلاد والحفاظ على تماسك لحمتها الإجتماعية.
يحتوي الكتاب على بعض الوثائق التي كان من الممكن تلخيصها والاكتفاء بذلك، ولكن رأينا إعادة نشرها لأهميتها مثل خطاب الخليفة للملكة فكتوريا، وعهد الأمان النبوي لغير المسلمين الموجود بكنيسة جبل الطور والوارد في كتاب ونجت، ورد الدكتور محمد سعيد القدال على خطاب المنظمة العربية والثقافة والعلوم الذي يوضح للأسف الشديد استمرار وجود بعض العقليات الخديوية في أرفع المؤسسات العربية الإقليمية.
وأخيراً فالمهدية كتاب مفتوح للتدبر والتفكر، وهي كتاب ذو صفحات عديدة: صفحة الإصلاح المجتمعي حيث ابتغت إصلاح الفرد والجماعة وتخليصهم من الرذائل ونقائص السلوك الفردي والجماعي. وصفحة إصلاح سياسي تحريري، وصفحة إصلاح ديني، وغيرها من الصفحات.
وهي – أي المهدية – في سعيها من طور الدعوة إلى المقاومة إلى الدولة إلى انهيار الدولة مرّت بأطوار وشارك فيها لاعبون مختلفو الثقافات والدوافع والقدرات والميول، وشارك معها بالمعارضة والمدافعة آخرون بنفس التفاوت وأكثر. وهي كتجربة بشرية اجتماعية ذاخرة متشعبة لن يجدي معها منهجان: منهج الشانيء الجاحد لكل خير فيها، ومنهج رد الفعل المقدِّس لكل فعل فيها. فحتى صاحب الدعوة نفسه ربط تحقيق مقاصده بإخلاص مؤيديه وتجردهم وإلتزامهم بالسنة الراتبة الجارية التي لخصتها الآية الكريمة (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ )[6]. فكم من مرّة أنّب أهله وعشيرته الأقربين على مفارقتهم لجوهر دعوته وميلهم إلى الدنيا وزخرفها، وكم من منشور عاتب فيه المعتدين من أنصاره مذكِّراً أن النصر لا يكون مع الظلم، وكم من مرّة نسب تخلف الوعود بقيام الدين كما كان يرتجي بسبب دخول كلاب الدنيا و طلابها، وبسبب مداخلة حب الدنيا وما يستتبعه من تقديم المغانم على المعاني. وكذلك تتردد نفس عبارات التقريع في المرويات الشفاهية عن خليفته.
والمهدية كتجربة بشرية حدثت فيها أخطاء بلا ريب، لا سيما في مجال الدولة والسياسة وهذا شيء لا يعيبها ولا ينتقص منها، فليس هناك من تجربة بشرية خلت من ذلك ولا حتى فترة النبوة والخلافة الراشدة – في الإسلام – وماصاحبها من الدخول الجماعي في الدين الجديد دون تشرب الجميع لمبادئه، وعمليات الارتداد الجماعي لبعض القبائل، والصراع السياسي المعروف في التاريخ الإسلامي. إذن النهج الصحيح هو دراسة أية تجربة وفق مقاييس ومعايير محددة – يرتضيها العقل وتقتضيها النزاهة والموضوعية – والنظر إلى مواضع الصواب ومكامن الخطأ ومعرفة ما أصابت من نجاح وما وقعت فيه من فشل، وإدراك ما قاد إلى النجاح وما أدى إلى الفشل.
إذن ليس من غرض هذا الكتاب تقديس التجربة المهدية وتنزيهها عن كل خطأ، ولكن هذه العبارة القصيرة الفضفاضة العامة لا ينبغي أن تكون مدخلاً لغمط حركة أدت على الصعيد السياسي إلى تحرير البلاد من حكم أجنبي متمكن ما كان يُرجى التخلص منه، وإلى توحيد قبائل السودان ومناطقه تحت حكم وطني لأول مرة، وإلى خلق كينونة واسم للسودان. وأدت على الصعيد الاجتماعي إلى العدالة الاجتماعية والمساواة، وفتح باب الترقي على أسس موضوعية مثل الكفاءة ورضا الناس بدلاً عن الوراثة والأسس الطبقية، وأدت إلى تلاقح وتمازج ديمغرافي كبير، وأدت إلى إزالة المفاسد الخلقية في المجتمع كما أفلحت في خلق شخصية سودانية جديدة معتدة بذاتها، وفجرت الطاقات الكامنة فيها. وأدت على الصعيد الفكري إلى تجاوز التفرق المذهبي وإلى فتح باب الإجتهاد، وإلى تثوير التصوف وجره نحو الإيجابية والتفاعل مع قضايا الناس في المعاش والمعاد، وأدت إلى كسر الهالة الزائفة للتدين الرسمي الشكلي الوالغ في تأييد السلطان الجائر وتبرير ظلمه ونهبه بمقولات فقهية بالية. وقادت لتحرير الإنسان بعد تحريره من كل سلطة زمنية أو روحية وإيكال الأمر كله لله فلم يعد الفرد يخشى خزعبلات الدجالين ولا سيوف المتسلطين، فاسترخص الموت وأسبابه وجاء بأمور غير مسبوقة أدهشت الأعداء قبل الأصدقاء.
هذا بعض عطاء المهدية، وفي المقابل نجد أخطاء إدارية وسياسية وعسكرية وحوادث فردية وجماعية حدثت في ظروف دعوة تكوينية تحارب استعماراً أجنبياً واقعاً، كما تحارب جبهات استعمار متربص متعددة، وتحاول إصلاح مجتمع متنافر غرس فيه الاستعمار التركي أمراض لم يكن يعرفها. وبناء مجتمع متماسك لم يعمل سوياً إلا في عهدها، كما تواجه جماعات محلية ارتبط بعضها بمصالح مع الحكم التركي بينما ارتبط بعضها الآخر بحياة البداوة التي لا تريد ولا ترضى لها بديلاً، ولا تفهم ولا تتفهم أسس الدولة الحديثة والإدارة الواحدة وتنظيم المجتمعات على أساسها والذي يستدعي ضربة لازب تخلي البعض عن حرياته على أساس العقد الإجتماعي المعروف اللازم لكل اجتماع بشري يضم أشتاتاً من الناس.
إن أكبر مراجعة تمت للمهدية قام بها أنصار المهدية أنفسهم، إذ اختط قائد المهدية في الطور الذي أعقب الهزيمة طريقاً جديداً حقق به فتوحات تالية لا تقل عظمة وقيمة للدين والوطن من الفتح الأول، فتوحات أتم فيها ما بدأته الدولة المهدية، واستدرك فيها ما عجزت عن تحقيقه بحكم الظروف المذكورة آنفاً، وحاول جاهدأ إكمال رسالتها النظرية في تجاوز الانقسام في المجتمع السوداني وفي الدعوة السلمية. وابتدع أساليب جديدة في تحقيق الأهداف السياسية بالكفاح السلمي المدني الذي التزم به التزاماً صارماً، إلى غير ذلك من المجالات التي ليس من غرض هذه المقدمة الدخول فيها ولا من غرض الكتاب استقصاؤها وإن تمت الإشارة لبعض تلك الإنجازات في ثنايا الكتاب.
وبعد فهذا جهد المقل، كتبته في ظروف شدة وقلة في الوقت والمراجع أرجو أن يكون جهداً محموداً ينفع ويفتح الباب لجهد آخر من آخرين هم أقدر مني وأوفر جهداً. وهو جهد سبقته جهود ضخمة جبارة رصينة متبصرة من آخرين أكبر علماً ومقاماً بلا أدنى ريب جزاهم الله خير الجزاء ونفع بهم.
عبد الرحمن الغالي
[1] Undoing the Mahdiyya: British Colonialism as Religious Reform in the Anglo-Egyptian Sudan, 1898-1914″
[2] Charismatic Leadership in Islam: The Mahdi of the Sudan
[3] Mahdist Risings against the Condominium Government in the Sudan, 1900-1927
[4] The Rodd Mission of 1897
أو بعثة رود
[5] Sayyid ʻAbd Al-Raḥmān Al-Mahdī: A Study of Neo-Mahdīsm in the Sudan, 1899-1956
[6] سورة الحج الآية رقم (40).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.