أفكار حول الدين والدولة.. تجربتي الشخصية في الحكم مبارك الكودة مدخل : الحركة الإسلامية في السودان محاولة لإحياء الدين، فرضتها قناعات جادة لبعض الشباب المسلم تصدى لثقافة المستعمر ووقوفاً في وجه التيار العلماني واليساري، ولم تنشأ ابتداءً من أجل السلطة والمال كما يشيطنها البعض، إنما نشأت اجتهاداً من أجل حماية المجتمع المسلم من الاستلاب الفكري وإقامة شريعة الله على أرض الناس، كما هو مسطر ومقروء في أدبياتها، وقد بدأ التبشير لمشروعها الفكري السياسي في مدرجات دور العلم آنذاك، حيث كانت الانطلاقة من كلية غردون (جامعة الخرطوم )0هذه المقدمة هي المنصة العادلة التي ينبغي أن تقف عليها التجربة في مواجهة الرأي العام لمحاكمتها فكرياً وسياسياً، ولنبحث ابتداءً عن الإجابة لسؤال محوري مهم، هو لماذا حدثت هذه المفارقة الكبيرة في التجربة بين الواقع والمثال النظري؟، خاصة وأن التجربة قد توفرت لها كل مقومات النجاح من فترةٍ زمنيةٍ كافية وكادرٍ مؤهلٍ لم يتوفرا لأية حكومة سابقة في السودان، وعندما أقول محاكمة التجربة الإسلامية لا أقصد بذلك محاكمة الإسلام، فالإسلام وحي مقدس من عند الله تعالى، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إنما أعني بذلك محاكمة التجربة البشرية التي حاولت الحركة الإسلامية إنزالها اجتهاداً على واقع الناس، وهي نتاج فكري محض مثله مثل كل الأفكار البشرية الأخرى، معرض للصواب والخطأ، ويأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، ويعتريه النقص وعدم الكمال، ويحتاج للمراجعة والتجديد، وقد بدأت الآن أصوات من داخل الحركة الإسلامية لها ثقل تنظيمي ومعرفي تنادي بأهمية ذلك باعتبارها ضرورة تقتضيها الممارسة وتحديات التطبيق. 1 / المشروع الحضاري كانت التجربة بالنسبة لي قاسية جداً من الناحية النفسية، فقد عانيت كثيراً من ازدواجية المعايير واختلال الموازين، وها أنذا أقدم شيئاً منها للتشريح والتشخيص والدراسة واستخلاص العبر والفوائد، لنتجاوز بها وبغيرها من التجارب الواقعية المعاصرة الكيفية التي ظللنا نؤسس عليها كإسلاميين النظريات في السياسة والاقتصاد والمجتمع، معتمدين في ذلك على التراث المنقول باعتباره حقاً مطلقاً لا يقبل المزايدة، وليتنا استفدنا من التجارب الإنسانية المعاصرة، ومن العلوم الاجتماعية والنظريات السلوكية الحديثة للتقييم والتقويم، بدلاً من هذا التجريد المخل، والذي لا يتفق ورسالة الإسلام المنجمة من لدن حكيم خبير، والتي رسّخت بمنهجها الرباني قيمة (وَإِنَّ الدِّين لَوَاقِع) الواقع الذي يرفض نظرية احتكارالحق وامتلاك الحكمة المطلقة ويعترف بالآخر مهما كان معتقده وسلوكه، ولعل من أكبر الأخطاء المفاهيمية للحركة الإسلامية إضفاء قدسية الدين على اجتهاداتها وتبرير نظرها البشري البحت على أساس ديني، وسأحاول من خلال هذه الورقة أن أتطرق لذلك من خلال تجربتي الشخصية في الإدارة والحكم، علها تسهم في تلمس الطريق الصحيح لمسار تقويم التجربة، ولست هنا بصدد تقديم التجربة من منظور علمي، بقدر ما هي معايشة شخصية جئنا للحكم بلا تجربة عملية سابقة لتأسيس دولة إسلامية بمقومات الحداثة، تحت شعار الإسلام هو الحل، دولة تخضع لنظام عقدي سياسي، مع أني لم أقف على تعريف متفق عليه للدولة في الإسلام السياسي، ولكن عرَّفت الحركة الإسلامية مشروعها باسم (المشروع الحضاري) وهو مصطلح للإسلام الشامل، والإسلام كما نعلم لا يُؤْمِن بالحدود الجغرافية للدولة، وقد عبَّر عن هذا كثير من الشعراء الإسلاميين . قال أحدهم : ولست أرى سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه وبلاد النيل سيان وقال الآخر : وكلما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني لذلك لم يكن المشروع الحضاري مشروعاً واقعياً، بل هي أشواق وأماني في صدور الذين جاءوا به وتَجسّدَ فقط في كلمتي مشروع وحضاري!! وماذا تعني هاتان الكلمتان؟ وكيف ينفذ هذا المشروع؟ وماهي سماته وأدواته ولوازمه الضرورية ؟ كل ذلك غير معلوم وغير متفق عليه، ولقد ظللت مع الإنقاذ قيادياً تنفيذياً منذ قيامها، وكنت مهموماً جداً بعملية التغيير الاجتماعي، ولكني لم أقف على تعريف واضح المعالم لمصطلح المشروع الحضاري!! كما لم أجد شخصين في سفينة الإنقاذ يتفقان على معناه!! فكل منا يقدسه ويفسره ويُجسّده على أرض الواقع وفق هواه واجتهاداته الخاصة. ظل هذا المشروع الهلامي أثناء الممارسة يفتقد القدره على الإبداع والإنتاج، كما ظل مشروعاً راكداً خاملاً مستبداً وعاجزاً عن تحقيق حضوره ، بل حقق عكس ما كان ينبغي أن يحقق، وقد أثبتت الممارسة العملية أننا لا نملك إجابةً لكثيرٍ من الأسئلة التي فرضت نفسها على الواقع، ومن ثم دخل المواطن بهذا القصور النظري في أزمات متعددة، حيث اختلطت الأولويات، وتراجعت الأسبقيات، وارتبكت المفاهيم، فزادت حدة الفقر، وانفرط عقد الأمن، وتشظت الدولة وضاق الوطن بأهله وبما رحب، فهاجرت الكوادر المؤهلة في كل المجالات، خوفاً من الفقر والفاقة وتداعياتها السالبة، كما ظل مثالنا يتحدث عن الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والقيم الفاضلة والقيادة الرشيدة، ولكن بقيت الرؤية الأمنية هي التي تتصدر قضايا الحكم في الشأن العام، مما أفقد التجربة قدرتها على التطور للتي هي أحسن. 2 / التناقض بين الواقع والمثال : عُيّنت محافظاً في أول عهد الإنقاذ وبعد أدائي للقسم مباشرة اجتمع بي التنظيم وزوَّدني بكل توجيهات العمل، علماً بأن هنالك دولة ذات شخصية اعتبارية وقانونية ومؤسسات تشريعية وتنفيذية، وعدت بهذه التوجيهات إلى مكان عملي في المحافظة المعنية رجلاً فيه شركاء متشاكسون، أحدهما الدولة بمؤسساتها، والآخر تنظيم صفوي لا سلطان له على الناس، ولكنه قيّم على دولتهم من وراء حجاب، تنظيم يحتفظ بكل قوته وهيمنته، وتُدينُ له العضوية بكامل الولاء والطاعة، من دون السلطان الشرعي، وقد أدى هذا التناقض في الفكرة إلى حالة مضطربة جداً أخلت بالتوازن النفسي للدولة والحركة، كما أحدثت هذه المشادة بين النظرية والتطبيق شروخاً في بنية الفكرة، وتناقضاً اهتزت بسببه القناعات الراسخة في نفوسنا عقيدة وتأصيلاً، وبدأت تتكشف عورات وسوءآت المشروع الحضاري لمنسوبيه بسبب هذا التناقض الذي قصم ظهر الحركة الإسلامية، فانشقت وتهيأت لمزيد من التصدع والاختلافات، بعد أن احتدم صراع المصالح بين سلطان الدولة ومراكز قوى التنظيم. 3 / المؤتمر الوطني بين المؤتمر الوطني كحزب سياسي والحكومة كجهاز تنفيذي علاقة زواج كاثوليكي، وثّق عقد قرانهما النظام الأساسي للحزب، الذي عيَّن رئيس الجمهورية رئيساً للحزب على المستوى القومي، والوالي رئيساً على مستوى الولاية، والمعتمد في محليته، والغرض من ذلك تسخير كَآفَّة إمكانات الدولة في خدمة الحزب، وَمِمَّا نعلمه تماماً أن أنشطة الحزب من تجريدات لدعم المجاهدين لمناطق العمليات، والمتضررين من الأمطار والسيول، وموائد الرحمن، والزيجات الجماعية، وغيرها من الأنشطة التي تُنظم تحت لافتات المؤتمر الوطني المختلفة للكسب السياسي، كانت خصماً من ميزانية الدولة. كما كنا كإسلاميين في الجهاز التنفيذي نتمتع بحصانة تنظيمية دون الآخرين، وَمِمَّا أؤكده هنا أنه طيلة عملي كدستوري منذ العام 1992 حتى العام 2011 لم أخضع لمساءلة أو محاسبة ولم أُخاطب من سلطان الدولة بأمر أفعل أو لا تفعل أو لِمَ فعلت، لأننا لا نتحاكم إلى نظم الدولة وتراتيبها وأعرافها، بل نتحاكم إلى التنظيم، ويشفع لنا أمام المساءلة تاريخنا السياسي وكسبنا التنظيمي في الحركة الإسلامية، وذلك باعتبارنا أصحاب حق من دون الآخرين، وهذه الحصانة جعلت لنا قيمة مضافة في الجهاز التنفيذي، فربما تجد والٍ مستقطب جاءت به إلى السلطة الموازنات السياسية يخاف من موظفٍ منظم في الحركة الإسلامية، بل رأينا بعضهم يسعى لإرضاء هؤلاء الموظفين تقرباً لصناع القرار، وطمعاً في منزلة أخرى، وبالطبع ترتب على ذلك ضياع هيبة الدولة، وتراجع سلطانها وضعُف أدائها السياسي. 4 / سمات الخطاب السياسي ظل الخطاب السياسي للإنقاذ خطاباً عاطفياً وخيالياً مجرداً، عبارة عن شعاراتٍ وهتافاتٍ فارغة المحتوى والمضمون تحركه الحماسة والأشواق ويفتقد للواقعية، وكان في بداياته الأولى عالميّ التوجه، وسعى لتجميع الحركات الإسلامية والقوى السياسية الموالية على صعيد واحد لتكوين جبهة عالمية عريضة لمقابلة أعدائه، مما ترتب على ذلك آثار سياسية وأمنية سالبة ظللنا نعاني من إفرازاتها وندفع ثمنها حتى الآن. كما تميز الخطاب بالنقل والتقليد والاعتماد على قصص التراث اللامعقول، ولم يوجه لبناء الشخصية السودانية في ذاتها لغرس قيم الحق والخير فيها، ولم يستنهض الهمم نحو قضايا الوطن الضرورية من تنمية وعمران، وكنّا نتوسل به عند الحاجة لمعالجة الإشكالات السياسية والأمنية، ونوظفه بالوعظ للتعبئة وتجييش المواطنين للصبر والاحتساب على الابتلاءات، بلغة الترهيب والترغيب من أجل آخرتهم. 5 / نظرية التمكين ابتدع النظام نظرية التمكين، التي هي في الحقيقة (التسييس) فقد سُيست بهذه النظرية الخدمة المدنية تماماً، مما أدى إلى انهيار تلكم المؤسسة ذات التاريخ والتقاليد والقيم الموروثة، واختل فيها ميزان العدالة وسيادة القانون بقرارات ظالمة ومجحفة، وشُرِدَ جراء هذه السياسة مئات من العاملين أصحاب الكفاءات والقدرات، بحجة أن صاحب الولاء أفضل للمشروع الإسلامي من صاحب الكفاءة، وأصبح التنافس على الوظيفة العامة في عمود الدولة الفقري يخضع لقانون الموالاة السياسية والموازنات القبلية والجهوية والمصلحة الشخصية، بعيداً عن لجان الاختيار ذات الشفافية والوضوح. ومن وسائل التمكين والتأمين التي اتخذتها الحركة لمشروعها وكانت وبالاً عليه، استصحابها لأجهزتها الخاصة، والذي خلق بيئة سيئة يشوبها الحذر و الخوف والنفاق، مما خلق صراعاً محموماً فيما بيننا بصورة فاقت صراعنا مع الآخرين، فأعوج الصف وفُقِدت الثقة وتأجج الصراع من أجل السلطة، وأهتزت القناعات في مصداقية المشروع وأعتزل البعض، وآثر عددٌ كبير من الإسلاميين الجلوس على الرصيف. ومن وسائل التمكين الذي ابتدعته الإنقاذ أيضاً قانون النظام العام، وهو تديّن ظاهري مسرحه الشارع العام، وباسم الإسلام استباح هذا القانون أعراض الناس، وهتك خصوصيتهم وشهّر ببعضهم، وكانت السلطة تسعى من وراء هذه السياسة إلى تنميط الشخصية السودانية، وهذا بالطبع يخالف الفطرة وتنوعها الإيجابي، ولذا جفت منابع الإبداع، وذابت شخصية الفرد واستقلاليته. وغُيّبت فكرة المواطن والوطن لتحل مكانها فكرة الجماعة ذات النمط الواحد. ومن وسائل التمكين التي اعتمد عليها النظام، تسييس الإدارة الأهلية واستقطاب القبائل لِيُقوّي بها عوده، باعتبارها سنة من سَنَن المصطفى ( صلى الله عليه وسلم) في الدعوة، وهذه كلمة حق أريد بها باطل وقياس فاسد، فالفارق بينهما جدُ كبير، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) بايعته القبائل على البراء من الكفر ابتغاء مرضاة الله، والقبائل بايعت الإنقاذ ابتغاء مناصب دستورية ترجوها في المركز والولايات، حتى أصبح الخروج على السلطان سنة لِنيل حظٍ من السلطة والثروة وترتب عن ذلك أن عجزت التجربة من إدارة التنوع الثقافي في الوطن0 6 / مصطلح الشريعة الإسلامية قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) قال ابن عباس ( على هدى من الأمر وبيِّنة) وقال ابن زيد (الشريعة هي الدين) وقرأ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) فعلمتني التجربة أن الشريعة ليست نسخة واحدة متفق عليها كما نظن، تُنَزَّل كقانون على الناس ويطبقها الحاكم في كلِ زمانٍ ومكانٍ، بل هي تَجلِّيات ظرفية، يفرضها الواقع على العباد ولكل واقع تجلّيه، وقد تختلف التّجليات باختلاف ظرفي الزمان والمكان، بالإضافة إلى ظرف المُعيّن نفسه إذا كان شخصاً أو مجتمعاً، حيث لا يكلف الله نفساً إلّا وسعها، والنفس في هذه الآية تصدُقُ للمُعَيّن شخصاً كان أو مجتمعاً، فإذا صدَّقنا بأن الإسلام تكليف من عند الله، فإن الوسع هو الشرط الأساس للتكليف، فبقدر الوسع يكون التكليف، وقد تختلف نسخة إسلام شخص ما أو مجتمع ما تماماً عن آخرين، في زمان و مكان آخر، بل ربما يكون الاختلاف أحياناً في ذات المكان والزمان، فالغنيُّ مثلاً تختلف نسخة تدينه عن الفقير، وحديث العهد بالإسلام لا تقبل عدالة السماء أن يكون كقديم العهد به، فلكلٍ وُسعه، ومن أكبر أخطائنا في التجربة أننا كلفنا الناس ما لا يطيقونه والحق عز وجل يقول (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)، فعانينا بسبب قِصر همة الدولة عن تحقيق أدنى مستويات التنمية والخدمات من تعليم وصحة وغيرها من الضروريات اللازمة 0كما هدتني التجربة أن من أسباب سقوط المشروع الحضاري في نفوس منسوبيه قبل الآخرين. إن الحركة الإسلامية قدمته للناس باعتباره مشروعاً سياسياً قانونياً لا يقبل النقاش، ولم تقدمه مشروعاً اجتماعياً منجماً، يراعي حاجات الناس ومصالح العباد ويدأب في تحقيق كفايتهم، كما قدمه صاحب الرسالة محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وسلم ) والذي لم يفرضه على الناس لا بأغلبيةٍ عن طريق صناديق الاقتراع، ولا بأقليةٍ عن طريق فوهات البندقية، فكان شعاره ( صلى الله عليه وسلم) خلو بيني وبين العرب، فالإسلام دعوة مجتمعية، محورها الإنسان الفرد (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) . خاتمة : كما أكدت لي التجربة أننا كإسلاميين نعتقد أن الله يغفر لنا ما لا يغفره للآخرين، لذلك تجدنا نجتهد بإيراد الأدلة والمسوغات الشرعية والأخلاقية لأعمالنا، مثل مبرراتنا لاستيلاء السلطة عن طريق الانقلاب العسكري، علماً بأن الحركة الإسلامية قاومت انقلاب الفريق إبراهيم عبود، وساهمت في الإطاحة به عام 1964، كما أعلنت منذ اليوم الأول مقاومتها لحركة نميري في 1969، ثم صالحته فانقلب عليها، فساهمت كذلك بكوادرها في الإطاحة به في أبريل 1985 . تجدني استدرك على الحركة الإسلامية هذا الكيل بالمكيالين، تستوفي بأحدهما لنفسها، وتخسر بالآخر للآخرين، فإن كانت الانقلابات العسكرية تجوز بتقدير المصلحة، فيعني ذلك أنها حكم عام لكل من يرى ذلك، وإذا كان خروجنا على نظام مايو بالسلاح عندما دخلنا مدينة أم درمان من ليبيا مع حلفائنا فإن ذلك بالضرورة جواز لدخول قوات الأخ المنشق خليل إبراهيم، رحمة الله عليه، لأم درمان بذات الطريق، وإذا كان إضراب الأطباء الذي قاده الإسلاميون مع آخرين في أبريل 1985 جائزاً شرعاً وأخلاقاً، فإن ذلك يجوز لأطباء اليوم أن يضربوا عن العمل، كما أضرب أولئك هذه المواقف المتباينة أفقدت الحركة الإسلامية مصداقيتها، وهي أولى بالثبات على المبادئ من غيرها، لأنها تجعل من الدين وقيمه منهجاً لها قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء)، والقول الثابت الذي أرمي إليه هو ضرورة ثبات المكيال، والقرءان يقول (وَيْل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) وكنت كلما خلوت ونفسي سائلها: تُرى هل تعتبر الحركة الإسلامية موقفها الآن من الذي يجري في الساحة السياسية والتنفيذية في البلاد موقفٌاً تعبدياً تبتغي به مَرْضَات الله، أم هو موقف نفسي وسلبي يفرضه عليها تعقيدات الواقع والخوف من المحاكمة التاريخية وشماتة الأعداء. لكل هذه الأسئلة وهذه الممارسة العملية اقتنعت بأن تجربتي قد تقاصرت عن قيم الإسلام، و أن الإسلام سيكون (هو الحل) عندما يكون الخطاب القرءاني لكل الناس (يا أيها الناس) بلا تمييز، وعندما نستوعب معنى قوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، وعندما يكون الإسلام مشروعاً اجتماعياً، وتكون السياسة فيه فكراً إنسانياً وليست ديناً تتقدس به الجماعة وقياداتها، وسيكون الإسلام هو الحل عندما نستوعب مسيرة الأنبياء، كما وصفها المصطفى ( صلى الله عليه وسلم) حين قال: (مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً، فأكملها وأتمها إِلَّا موضع لبنة فجعل النَّاس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون: لولا موضع هذه اللبنة، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) فأنا موضع اللبنة، حيث ختمت الرسالات ) فهل يا تُرى قدمت الحركة الإسلامية تجربتها مشروعاً إنسانياً لبناء هذه اللبنة، والتي هي امتداد لمسيرة طويلة في تاريخ الإنسانية؟ وهل ما استنبطه علماء الحركة الإسلامية من فكر أسسنا عليه تجربتنا جدير بهذه المسؤولية التاريخية العظيمة لتكملة البناء؟ أم نحن أصحاب مشروع عجز من أن يقدم فرص النجاح والتطبيق للشعار التاريخي للإسلاميين (الإسلام هو الحل) فاستحق بذلك أن يترجل ويتخذ من المراجعة والتقويم للتجربة اعتذاراً للشعب السوداني، ويكون بذلك قد أضاف للتجربة السياسية السودانية عبرةً للاعتبار. والله من وراء القصد وهادي السبيل.