يبلغ عمر هذه الورقة نحو الثمانية عشر شهراً، إلا أن الكاتب، ولتقديراتهالخاصة حول مُنَاسَبَتها للنشر، ضيق نطاق الاطلاع عليها ليقتصر على حلقة ضيقة من أصدقائه الذينقام بأطلاعهم عليها. لقد شكّل مقال البروفيسور المحترم مهدي أمين التوم، بعنوان "دعونا نعترف بأننا قد فشلنا في إدارة الوطن سياسياً واقتصاديا" المنشور بموقع حريات بتاريخ 3 مايو 2017، دافعاً قوياً للكاتب لتغيير موقفه من النشر. كما مثّلمشروع رواية "اغتيال دكتورة أحلام حسب الرسول" للأديب الرؤوي شاهين شاهين، وما حظيت به من إعجاب وتداول كثيف في الأسافير منذ نشرها قبل نحوعشر سنوات، أحد المحفّزات الهامة أيضاً التي شجعت الكاتب على الإفصاح برأيه هذا. فكلا العملين، اتسم بدرجة عالية من الصدقية في هضم حقائق الواقع الماثل واستخلاص بديل عملي ومقنع يمكن أن يكون ردّاً منطقياً ومقبولاً لحالة الحيرة التي تحيط بحاضر ومستقبل السودان. ذلك السودان الذي أصبح ملعباً لظواهر في غاية الخطورة، بطلها الرئيسي النظام الإسلاموي الحاكم؛ كظاهرة تكوين جيش رسمي جديد، موازٍ للجيش المعلوم، قوامه قطاع الطرق الخَلَويين؛ وظاهرة السير الحثيث في مسار الغلو والتطرف الديني الذي أصبح يسود الفضاءات السياسية والاجتماعية والفكرية؛ وأخيراً وليس آخراً، ظاهرة الانحطاط الشامل في كل المجالات لدرجة أصبحت فيه لغة السياسة تستمد من لغة الأزقة الخلفية للمدن! أزعَمُأن ما سأتناوله هنا في الشأن السياسي السوداني سيكون طرحاً غير مألوف لحدٍّ كبير. وأعلم أنه سيثير قدراً من الغضب والبلبلة لدى القارىء، بل أتوقع، في الحقيقة، أن ينظر البعض إلى ما ستطرحه هذه الورقة بحسبانه يدخل في باب الفانتازيا السياسية وأحلام اليقظة، هذا إن لم ينظر إليه بعين الشك والريبةواتهامات العمالة والخيانة. إلا أنني مقتنع تماما أن هذا الطرح، وعلى أسوأ الفروض، لن يكون أقبح من شرور الواقع البائس الذي يحيط بالسودان الآن. هذا الواقع الذي فرض علينا أن نكون تحت سيطرة عصابة إجرامية بالمعنى الحرفي يسيطر عليها هي الأخرى حاكم فرد يفتقد لكل خصال الحاكم الطبيعي من ذكاء معقول، ورصانة، وفهم واحترام للناس وللدين وللقانون وللأخلاق. لقد بلغت الأزمة في السودان، مبلغاً ينذر بشر مستطير لن تكون ساحته البلاد فقط، بل أتوقع أن يُفجِّر المنطقة المحيطة بأكثر مما هي عليه الآن بما لا يقاس. إن البلاد تمر اليوم بأصعب وقت في تاريخها المعلوم. يكفي أنها فقدتأكثر من ربع شعبها ومساحتها الجغرافية، حيث اختار ذلك الربعالانفصال عن وطنتحكمه طغمة مخادعة فاقدة للأهلية والشعور بعظم المسئولية تجاه الوطن وأهله؛ إلا أنه وقع، ويا للأسى الممض، تحت يد طغمة أخرى فاقدة للرؤية البناءة التي كان من المفترض أن تعوضهم عن سنوات الحرب والجوع والموت. تطرح هذه المقالةمنهجاً لمناقشة حاضر ومستقبل السودانبشكل ربما يكون مغايراً وغير مألوفكما أسلفنا القول، بيد أنه أكثر عمقاً ودقة في تقديرنا. كما تتوجه المقالة، للنخب التي يهمها أمر السودان،والتي تنزع للبحث عن طريق جديد للخروج من الأزمة بعد أن رأت بأم عينيهاانغلاق كلّ السبُل المتَخيّلَة، وفشل كل التوقعات المنطقية التي جنحت إليهاوالتي كان آخرها أمل أن تلحق البلاد بموسم الربيع العربي، الذي انتهى بدون أن تنفحنا نسائمه سوى زهرة أمل وحيدة تفتحت ليومين قبل أن تخنقها غلاظة العسكر. تنطلق هذه المداخلة من رؤية قوامها أن الصراع في السودان كان جوهره في الأساسصراع غير مُعْتَرف به صراحة، بين قوى الحداثة من جهة وقوى التقليد من جهة أخرى. وهي رؤية تعاكس الرؤى الأخرى السائدة والتي تنزع غالباً لتأويلمسار التاريخ عبر تنسيبه لجذر طبقي أو جهوي أو ثقافي أو عرقي أو ديني، أو سياسي؛ أو بعض من ذاك، أو جميعه! إن الحيز لا يتيح الاسترسال في شرح هذه الرؤية، والمناسبة لا تشترط التعمق في توضيح حيثياتها، إلا أنه من المفيد، توضيح أن صفّ الحداثة المعنية إنما يضم أولئك المنادين بالأخذ بالقيم الجوهرية والمناهج والممارسات والآليات التي جعلت شمال أوروبا يقود مسيرة التفوق البشري، بينما صفّ التقليد يشمل أولئك الممسكين بالذي جعل الشرق الأوسط يتذيل العالم في كل مؤشرات التقدم والرفاه المادي والمعنوي، وهو سيطرة مناهج التقليد والنقل والجبر؛ وبين هذين الموقفين تنشط الكثرة التائهة! هذه هي الرؤية في شكلها التجريدي، إلا أنها في الواقع أكثر تعقيداً من ذلك، حيث أنها مزيج مركب من عناصر ماثلة هنا وهناك مع اختلاف في درجة التركيز. لابد من التأكيد، بأنه ليس لهذه المقالة أي منطلقات حزبية أو ايديولوجية، ولا تحمل حتى لحظة نشرها هذه غير وجهة نظر صاحبها. كما ينبغي التوضيح أنها تستهدف كل مثقف ومهتم بأمر السودان، غض النظر عن الايديولوجية التي يتبناها. فالهدف من الورقة وضع رؤية جديدة يمكن أن يلتف حولها قدر معتبر من المثقفين السودانيين بغض النظر عن اتجاهاتهم وميولهم وتاريخهم ونظرتهم للمستقبل، حيث أن الرؤية المطلوبة لا تريد غير أن تضع السودان في منصة التأسيس التي يمكن، بالاستناد عليها، بناء هوية وطنية جامعة وإنشاء جهاز دولة حديث قادر على إدارة ما تبقى من إمكانات ومقدرات البلاد. بمعنى آخر، تستهدف الرؤية وضع السودان في مستوى شبيه من حيث التطور السياسي بوضعه عند خروج المستعمر البريطاني عام 1956! أولاً – حقائق الوضع الماثل اليوم بالسودان: إنه، ورغم كل التعقيدات المحيطة بها إلا أن هنالك أربعة حقائق جوهرية ماثلة تستحق تسليط الضوء عليها أكثر من غيرها، لأنها تمثل مفتاح الفهم للمآلات المحتملة في المدى القريب. الحقيقة الأولى: نظام الجنرال البشير الحاكم الآن غير قابل للاستمرار، حيث إنه يفتقد للكفاءة في كل مجال تقريباً ما عدا مجالي خنق الحريات العامة، ولعبة القط والفأر البائخة التي يمارسها قائده مع المحكمة الجنائية الدولية! كما أن فشله في تحقيق السلام والاستقرار السياسي تعبر عنه خير تعبير الحروب والنزاعات التي تضرب في كل أرجاء البلاد، وعرقلته المقصودة للجهود السلمية والتي يقف نموذجاً ساطعاً عليها التعامل الملتوي القبيح لنظامه مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في مرحلة الشراكة التي أعقبت اتفاقية نيفاشا مما أدى لتقوية تيار الانفصال؛ ويؤكّدها إفشاله المتهور لاتفاق نائبه في الحزب حينها، والمكروه شعبياً، الدكتور نافع، مع الحركة الشعبية بالشمال والذي بسببه تنساب أنهار الدم والدمع حتى الآن. أما فشله في إدارة الاقتصاد فتعكسه كل مؤشرات الأداء الاقتصادي، من تدنٍلقيمة العملة الوطنية وارتفاع في نسب التضخم وانتشار للفساد بشكل غير مسبوق حتى على مستوى العالم. يضاف إلى ذلك إخفاقه في إدارة الخدمة العامة من أجهزة تنفيذيةوعسكرية بشكل جعلها أقرب لمستويات القرون الماضية. وفي الواقع، بلغ من سوءالقيادة وانعدام الكفاءة مرحلة عدم اقتناع القيادة بوجود مشكلة أصلاً! إن فقدان الحكم، وخاصة رأسه، للكفاءة والاتزان المطلوبين للقائد، وافتقاده للحكمة وحسن التصرف، وإغلاقه لعقله عن مناصحات أقرب الناس إليه، وعدم استفادته من دروس الماضي، إضافة لافتقاد التنظيم الحاكم لمرجعية فكرية؛ كل ذلك خلق حالة من عدم الرضا، وتفشي للسخط داخل التنظيم. وهي حالة انعكست في تمرّد بعض قياداته عليهواستياء البعض الآخر بشكل علني. غني عن القول، أن التنظيم بدأ يفقد وحدة الهدف والإرادة ويستنزف البدائل بشكل متسارع، مما سيُحكِم حالة الفراغ الفكري والتسيب التنظيمي والتي من المرجّح أن ينتج عنها مزيدٌ من الانقسامات، أو تقود لمغامرات لا يمكن التكهن بها.إن هذا النظام سينفجر قريباً، لا محالة، سواء بعمل جماهيري غير منظم فاقد للقيادات الخبيرة والمنظمة، وبالتالي يصير الوضع غير معلوم المآلات؛ أو عبر انقلاب داخل الجيش مجهول النهايات؛ أو باستيلاء جهاز الأمن على ما تبقى من أجهزة الدولة بكل مفاصلها بما في ذلك الجيش. وهذا الاحتمال الأخير هو الأقرب للتحقق حيث إن هذا الجهاز يتمتع بالدرجة الأعلى من الانضباط ووحدة الإرادة قياساً بالمؤسسات الأخرى سواءاً العسكرية أو المدنية. كما يتمتع بالانتشار الكثيف وسط كل التجمعات البشرية في مواقع العمل والمناطق السكنية والقوات النظامية ومنظمات العمل الإنساني والأحزاب المعارضة نفسها بما فيها تلك المنقسمة عنه. يتّسم الجهاز كذلك بالشراسة و الميل للبطش الشديد خاصة عند ميلان ميزان القوى لغير صالح النظام حتى ولو بشكل طفيف، وذلك نسبة لخوف قياداته وأفراده من المحاسبة المستقبلية الناتجة عن انغماس الجهاز بكامله تقريباً في أعمال التعذيب والترويع وحماية الفساد إضافة لاتصافه بالغطرسة والاستبداد حتى على شركائه من الأجهزة النظامية الأخرى. إضافة لكل ذلك، لا بد من الوضع في الاعتبار أن الجهاز قد نجح في تأسيس جيشكامل تابعله (تحت مسميات هيئة العمليات وقوات الدعم السريع) قوامه عشرات الآلاف من الضباط والجنود المسلحين جيداً بما في ذلك المدرعات والمدفعية؛ جيشُ يتحلى بالمرونة وسرعة الحركة والانتشار والفاعلية الميدانية. الحقيقة الثانية: أحزاب وتنظيمات المعارضة السياسية المدنية أضعف من أن تقود عملاً في إمكانه إسقاط النظام. والدلائل على ضعفها أكثر من أن تحصى. أبسطها إنها عاجزة حتى عن مجرد تسيير مظاهرة محدودة دفاعاً عن قياداتها المعتقلة وذلك في خلال ثمانية وعشرون عاماً هي عمر النظام، كما أن النظام يلم بخارطتها الداخلية جيدا ويملك المقدرة على التلاعب بها بما يملكه من أوراق ابتزاز. أقصى ما يمكنها إنجازه الحصول على بعض المكاسب المحدودة التي يجود بها عليها النظام من خلال حوارها المذِل معه. تجدر الإشارة إلى أن هذه الأحزاب والتنظيمات، خاصة حزب الأمة ولحد ما الحزب الاتحادي الديمقراطي، تملك المقدرة على تعبئة جماهير واسعة في ظروف الديمقراطية فقط؛ وذلك لأسباب كامنة في طبيعتها نفسها، وتفقد هذه المقدرة تماماً في الظروف المغايرة. على الأقل هذا ما تؤكده التجربة العملية خلال كل عهود الدكتاتوريات في السودان. بشكل عام لا يوجد احترام من قِبل الشعب للمعارضة التقليدية، ولا يعيرها الشارع انتباهاً كبيراً. كما أن قياداتها تفتقد للكاريزما المطلوبة وتفتقر للمصداقية وثبات المواقف بشكل يجعل كثيراً من أفراد الشعب يعتقد في أن الطغمة الحاكمة قد تمكّنت من السيطرة على تلك القيادات بأساليبهاالوضيعة. على كلًّ فقد أثبتت فترة ربع القرن التي حكمت فيها طغمة الإنقاذ البلاد، أثبتت أن قوى المعارضة تفتقد لروح التضحية والفداء خاصة على مستوى قيادتها العليا بشكل يجعل جدارتها في قيادة أي عمل مؤثر موضع شك ويجعل من الصعوبة بمكان تصوّر أنها ستستعيد نفوذها التاريخي واحترام قطاعات الشعب لها. أما المعارضة العسكرية بجنوبي كردفان والنيل الأزرق والتي تتمثل في قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان فلها حدود لا يمكن أن تتخطاها وأقصى ما يمكن أن تحققه في حدود توازنات القوى السياسية والعسكرية الراهنة بالإضافة لتركيبتها السكانية، هو الحفاظ على مواقعها الحالية أو الزيادة عليها في نطاق إقليمي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وربما يمكن لها، كأقصى حد لقدراتها، أن توجه ضربات خاطفة ومفاجئة في العمق الشمالي. إنه، ولأسباب لا تخفى على أحد، يصعب جداً في ظل ما ذكرناه من توازنات أن تتصدر الحركة الشعبية المشهد كمعبر عن معارضة تمثل كل السودان. تجدر الإشارة إلى أن الحركة نفسها، وإن اتسم أداؤها السياسي والعسكري بالتماسك ووحدة الإرادة بشكل أفضل من رصيفاتها، غير محصنة ضد الانشقاق في المدى المتوسط أو البعيد نسبة لفقدانها المرجعية الأيديولوجية التي يمكن أن تحميها من مثل تلك المصائر، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار التمايزات العرقية والجهوية في صفوفها والأوضاع غير واضحة المعالم في دولة جنوب السودان التي توفر خطوط الإمداد الرئيسية لها. بالنسبة للمعارضة العسكرية الدارفورية، فهي منقسمة على نفسها بشكل حاد وقد أفلح النظام في تعميق الخلافات بين فصائلها المختلفة، كما أفلح في تحييد دولة تشاد وهو ما لعب دوراً كبيراً في إضعافها. إنه من الصعب، وفي ظل التوازنات القائمة وانقطاع خطوط الإمداد، أن يتجاوز مدى تأثير هذه المعارضة حدود دارفور لتؤثر على مركز الحكم في الخرطوم؛ كما أنه من المشكوك فيه أن تُحسَم مأساة دارفور عبر ما تقوم به من أعمال عسكرية أو سياسية منفردة. الحقيقة الثالثة: لم تتشكل الهوية الوطنية المتسقة للسودان بعد، وذلك لمجموعة من الأسباب المعقدة التي ليس هذا مجال نقاشها ومراجعتها، بيد أن الإشارة العامة لها واجبة في هذا المقام لأهميتها في استكمال الإحاطة بالواقع السوداني. فالسودان الحالي به اختلافات عميقة سواء على مستوى بنيته الاجتماعية من تنوع في الأعراق والقبائل والطبقات الاجتماعية والروابط الجغرافية، أو بنيته الفوقية من تعدد في الثقافات والديانات والطوائف والطرق الدينية والرؤى السياسية؛ وكل ذلك مصحوببتنافر وعنصرية جهوية وعرقية جهيرة في كثير من الحالات. إنه من الأهمية البالغة التأكيد في إطار الإشارة لهذا التعدد والتنوع في مكونات البنية الفوقية، أن العقل الجمعي والوجدان الجمعي والمرجعية الفكرية للغالبية الساحقة من المسلمين السودانيين، رغم الاختلاف بل حتى التنافر في طريقة التعبير عن ذلك، هي الأسس والمفاهيم والقواعد التي تم بناءها بواسطة الدولة العربية الإسلامية قبل ألف عام من الآن. يحتشد التاريخ القريب، منذ منتصف القرن التاسع عشر، وحتى الآن، بدلائل كثيرة عن تجذّر مفاهيم تلك البنية الفوقية وكمونها في العقل والوجدان الجمعي، والمنحى الرجعي لها. يقف دليلاً على أثرها القوي، التوجه الذي اتخذته الحركة الفكرية في العهد الإستعماري والسنوات القليلة التي أعقبته، والذي تجلّى في الأعمال الأدبية والثقافية لكبار المثقفين والسياسيين، حتى العلمانيين منهم. توجه يغلب عليه الحنين وتلبُّس روح الماضي الخاص بالدولة العربية الإسلامية في عصورهاالأولى والوسيطة والبحث عن المستقبل في أضابيرها حيث يقف شاهدآ عليه، كأحد الأمثلة، قصيدة الشاعر عبدالله البنا المسماة تحية العام الهجري 1339 والتي جاء بها (بدون ترتيب بغرض الاختصار): ياذا الهلالُ عن الدنيا أو الدينِ حدِّثْ فإنَّ حديثاً منك يشفيني حدِّثْ عن الأعصر الأولى لتضحكني فإن أخبار هذا العصر تُبكيني وارمقْ بطرفك من بغدادَ داثرَها واندب بها كلَّ ماضي العزم ميمون ونشيد مؤتمر الخريجين "صرخة روت دمي" للدكتور محيي الدين صابر: نحن أبناء جنود فاتحين جثت الدنيا لدى محرابهم عزة العرب ومجد المسلمين في دمانا , نحن من أعقابهم وقصيدة "الفردوس المفقود" لمحمد أحمد محجوب: أبا الوليدِ أعِنِّي ضاعَتالدُنا وقد تَناوحَ أحجاراً وجُدرانا هذي فلسطينُ كادتْ، والوغى دولٌ تكونُ أندلساً أخرى وأحزانا كنّا سُراةً تُخيف الكونَ وحدتُنا واليومَصرْنا لأهلِ الشركِ عُبدانا نغدو على الذلِّ، أحزاباً مُفرَّقةً ونحن كنّالحزب اللهِ فرسانا رماحُنا في جبين الشمسِ مُشرَعةٌ والأرضُ كانت لخيلِالعُرب ميدان وقصيدة "للعلا" لخضر حمد: أمة أصلها للعرب دينها خير دين يحب عزها خالد لا يبيد قد نفضنا غبار السنين ونهضنا بعزم مكين لنعيد فخار الجدود.. للعلا وحتى النشيد الوطني الذائع الصيت "أنا سوداني" للشاعر محمد عثمان عبدالرحيم لم يبتعد عن ذلك النزوع: أيها الناس نحن من نفر عمروا الأرض حيث ما قطنوا يذكر المجد كلما ذكروا وهو يعتز حين يقترن حكموا العدل في الورى زمنا أترى هل يعود ذا الزمن ردد الدهر حسن سيرتهم ما بها حطة ولا درن نزحوا لا ليظلموا أحدا لا ولا لاضطهاد من امنوا وكثيرون في صدورهم تتنزى الأحقاد والإحن دوحة العرب أصلها كرم والى العرب تنسب الفطن أما في الجانب السياسي فتقف دليلاً على قوة وتجذّر المرجعية الإسلامية التقليدية الرافضة للحداثة تلك السرعة الفائقة التي أطبقت فيها الحركة المهدية، التي لا تختلف بنيتها الفكرية والتنظيمية كثيراً، خاصة بعد أن أصبحت دولة، عن السلفية الجهادية السائدة اليوم، سيطرتها على السودان في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ونموذجها في الحكم الذي بنته على نسق دولة النبي محمد (ص). كما يشهد على تغلغل تلك المفاهيم وكمونها المؤقت، النمو والتمدد الذي حققته الحركة الإسلامية سياسياً في الفترة التي أعقبت الحقبة الاستعمارية؛ كما يؤكد على طغيان ذلك النزوع الماضوي، الفشل الكامل للحزبين الرئيسيين اللذين سيطرا على البرلمان السوداني في أعقاب انهيار الدكتاتورية الثانية عام 1985، فشلهما في إلغاء القوانين الإسلامية التي فُرضت في سبتمبر 1983 رغم تمتعهما بالأغلبية الميكانيكية الكافية؛ حيث ليس لكاتب هذه السطور أدنى شك في أن السبب الأساسي وراء ترددهما في ذلكفقدانهما لرؤية بديلة من الأساس، إضافة للخوف من فقدانهما لجماهيرهما التي تعشعش في أذهانها تلك النزعة الماضوية القوية الجذور. لقد كانت السمة الطاغية لتاريخ السودان الحديث منذ نهاية فترة التركية، باعتبار أنها العهد الذي تحدد فيه الإطار الجغرافي للسودان المعاصر، كانت هذه السمة هي الاستقطاب الشديد الذي لازم ذلك التاريخ. فقد تميزت فترة المهدية بالإنقسام بين أهل الغرب وأهل الوسط والشمال مع عزلة شبه كاملة لأهل الشرق عن المشاركة في الحراك السياسي باستثناء مشاركتهم الفاعلة في الجانب العسكري ذوداً عن المهدية تأثراً بقيادتها المتمثلة في شخص عثمان دقنة. أنه ورغم ذلك الاستقطاب الذي تأجج بوضوح أثناء فترة الخليفة عبدالله التعايشي، إلا أنه لم يتحور لصراع واضح المعالم نسبة لطغيان الأيديولوجية المهدوية وقسوتها في التعامل مع أي خلاف. نشير أيضاً إلى أن السمة البارزة للدولة المهدية كانت غلبة الفكر الأحادي الانكفائي وغياب المشروع الوطني والرؤية الإستراتيجية. انهارت دولة المهدية بنفس السرعة التي انتصرت بها، حيث كانت نهايتها إعلاناً ببداية حقبة الاستعمار البريطاني للبلاد. لم يمض عقدان من الزمان منذ انتصار المستعمر، حتى بدأ في التشكل نزوع سياسي وثقافي وطني قائمعلى أكتاف فئات المتعلمين من خريجي المدارس المحدودة في تلك الفترة، وخريجي الكلية الجامعية الوحيدة، إضافة للعسكريين من خريجي الكلية الحربية. تمحور ذلك النزوع الوطني في الاتفاق حول التخلص من الاستعمار مع اختلافات في المرتكزات الثقافية والسياسية للفئات الناهضة. لم يتم خلال فترة الاستعمار أي حوار حقيقي وجاد يمكن أن يقود لتوحيد السودانيين، المتعلمين منهم بالذاتحول القضايا الكبرى، كقضية الهوية الوطنية ومسألة التوفيق بين المكونين العربي والأفريقي على مستوى الثقافة والسياسة والمجتمع. يدل على هامشية الاهتمام بهذه القضايا وعلى غياب مثل ذلك الحوار حول قضية الهوية الوطنية وهشاشة البناء الفكري بشكل عام، تعلّق قطاع مؤثر من الحركة السياسية الناشئة بفكرة الاتحاد مع مصر وطغيان تلك الفكرة على الحياة السياسية لفترة من الزمن؛ بدون أن يكون تبنّي الشعار ابتداءاً و التخلص منه لاحقاً نتاجاً لمعارك فكرية عميقة كما هو الحال في القضايا المصيرية! أما في مرحلة ما بعد الاستعمار، فمن المعلوم أن 50 عاماً من أصل 60 عاماً تقريباً هي عمر استقلال السودان، كانت البلاد محكومة فيها بأنظمة دكتاتورية فاقدة لأي رؤية استراتيجية تتضمن مشروع نهضوييمكن أن يدعم الروابط الاجتماعية والثقافية بشكل يؤدي لتكوين وجدان مشترك وهوية وطنية متفرّدة وجامعة. في حقيقة الأمر، يمكن وصف الفترة كلها، قياساً بالحصيلة المتواضعة من الإنجازات الفكرية والاجتماعية والسياسية، بأنها سنوات تهريج ضائعة! ربما كان من الإيجابيات النادرة لتلك الفترة، طرح موضوع الهوية بشكل أكثر عمقاً على المستويين الثقافي والسياسي، وبالذات مسألة العلاقة مع المكوّن الأفريقي. لقد لعبت حرب الجنوب، خاصة إبان صعود الحركة الشعبية لتحرير السودان، إضافة للحراك الفكري الذي تسببت فيه حركة اليسار في عقد الستينات، دوراً جوهرياً في إضفاء زخم كبير على قضية الهوية في المجالات الثقافية والسياسية إلا أن التراجع الكبير في المد اليساري وانتهاء قضية الجنوب بإعلان استقلاله أعادا القضية مرة أخرى لدائرة التهميش. إضافة للتشوهات السياسية والثقافية الناتجة عن عدم تبلور هوية واضحة، فإن غياب مثال أعلى أو حلم شعبي أو فكرة ملهمة ذات خصوصية سودانية واضحة تلف الناس حولها، كان لا بد أن يؤدي إلى ضعف الروابط بين مكونات الوطن، وبالتالي غياب الشعور والروح الوطنية، ويقود في النهاية إلى سيادة النزوع السلبي من قبل الجماهير. في إطار هذا يمكن لنا أن نفهم كيف يذهب أكثر من ربع الوطن بسكانه، وكيف تستمر مآسي دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وكيف تنتهك حقوق قبيلة المناصير في الشمال، وكيف يقتل أبرياء البجة بالشرق ومواطني كجبار في أقصى الشمال، وكيف يقتل مئات الطلاب من دارفور بدم بارد، وكيف يسقط مئات الشهداء بانتفاضة سبتمبر المجيدة؛ كل ذلك بدون أن يثير أزمة وطنية شاملة، أو حتى موجة احتجاج شعبي ولو خجولة. الحقيقة الرابعة: السلفية الجهادية موجودة بالسودان وذات نفوذ ملموس ومتزايد، بل ومرشحة للوصول للحكم. إن ما يجري بالمساجد من تزايد واضح في التواجد السلفي خطاباً وشخوصاً، وما يسم الشارع من نمو متسارع في استخدام الأزياء المرتبطة بالفهم السلفي للإسلام، وما يدور بالمناقشات العامة خاصة عبر وسائط التواصل الإجتماعي التي أصبح يغلب عليها المحتوى السلفي (المولّد الرئيسي للتطرف)، كل ذلك يجب وضعه تحت منظار الفحص الدقيق؛ لأنه يشير لمسار سياسي ناهض به محطات خطرة جداً، خاصة إذا استصحبنا ما يحدث الآن بسوريا و ليبيا واليمن والعراق؛ فالبدايات متشابهة، لكن نأمل أن لاتكون النهايات كذلك! هذه السلفية الجهادية لها ارتباط قوي لا تخطئه العين البصيرة برأس النظام، وذلك من خلال أجهزته الأمنية؛ كما أنها قابلة وجاهزة للتحرك في ثلاثة حالات في تقدير كاتب هذه السطور: إن الدلائل والمؤشرات على وجود هذه القوى وسيطرة الرئيس عليها عبر أجهزته الخاصة كثيرة. بيد أن قليلا من النماذج ربما يكون مفيداً لتأكيد وجهة نظرنا. نشير في هذا الصدد إلى أن النظام يحاول الظهور والدفاع عن تراخيه تجاهها، في بعض الأحيان، باعتبار أنه يستجيب لبعض مطالب السلفية الجهادية لامتصاص طاقتها وإبعادها عن العمل العسكري العنيف. هذا تبرير صعب القبول حيث إن النظام، وبطبيعته الأحادية، لم يحتمل وجود قوى سياسية و اجتماعية وسياسية مسالمة وراسخة الجذور في التربة السودانية، فكيف يقبل بوجود قوى مسلحة وذات أهداف بعيدة، علماً بأن النظام يملك القدرةعلى قمعها وهي في المهد: ثانياً – خلاصة الوضع الراهن: ثالثاً -الوصاية مقابل السلام والتنمية والديمقراطية كبديل محتمل: الحل من وجهة نظر كاتب هذه السطور يتمثل في بناء جبهة سياسية جديدة من عناصر سودانية ذات تاريخ شخصي ناصع بغض النظر عن قناعاتها الأيديولوجية أو السياسية. هذه الجبهة ذات برنامج محدد يقوم على أعمدة رئيسية أهمها: إضاءة لمسألة تدخل المجتمع الدولي: بالنظر لكل ما سبق، لا يرى الكاتب وجود احتمال لنجاح حلول لا يلعب فيها المجتمع الدولي دوراً حاسماً وقوياً؛ ذلك المجتمع الذي جرّب، ولأكثر من ربع قرن من الزمان، سياسات مختلفة ومتنوعة للضغط على النظام القائم في سبيل حل أزمة الحكم بدون فائدة. لذا يرى الكاتب أن تطورات الأحداث في المنطقة، وبالتحديد تزايد خطر الأصولية السلفية الجهادية، مقروناً بأزمة النظام الحاكم في السودان التي في طريقها لإنتاج حالة إنهيار وفوضى شاملة، إضافة لفشل كل المحاولات السابقة لعقلنة هذا النظام، تحتّم على المجتمع الدولي بقيادة حكومتي الولاياتالمتحدةوبريطانيا التدخل بأسرع ما يكون في الشأن السوداني وإيلاء هذا الأمر أولوية قصوى. من المفهوم أن قرارات التدخل السياسي أو العسكري لا تحكمها القيم الأخلاقية والمثل العليا وحدها، فمصالح الدول ورفاهية شعوبها تأتي في المقدمة عند قادتها.كما من المعلوم أن أولويات الحكومات في التعامل مع القضايا الدولية يرتبط بعوامل مركّبة من ضمنها درجة المخاطر المحتملة على السلم العالمي، مدى حدّة الأزمة، وقابلية المشكلة للحل الخارجي. إضافة لذلك، فمن المؤكد، أن هنالك اشكالات عملية كثيرة ومعقدة، منها ما يتعلق بمدى قبول المجتمع الدولي وضع هذا الأمر في أجندته إبتداءاً، ومنها مدى مشروعيته من النواحي القانونية والسياسية والأخلاقية. لكن، وبالمقابل، يرى الكاتب أن هنالك مسوغات منطقية تجعلنا نأمل في تجاوز هذه المحددات واضعين في الاعتبار أن الوضع العالمي من ناحية توازنات القوى، ونوعية القوى الحيّة والفاعلة الآن، أصبح برمته غير مألوف، ويحتاج لمنهج تفكير غير مألوف هو أيضاً! لا بد أن يفهم المجتمع الدولي أن أي إنهيار غير منظم لنظام مثل النظام السوداني سيكون له تداعيات عالية الأثمان، كما لابد له أن يستوعب حقيقة أن سياسة الطبطبة على أكتاف الطغاة على حساب مستقبل الشعوب إنما مصيرها توليد أوضاع عصيّة على السيطرة لاحقاً كما هو الحال في كوريا الشماليةوإيران مثالاً. ينبغي التأكيد، أخيراً، إلى أن المقترحات المطروحة في هذه الرؤية إنما تفترض حراكاً سياسياً كبيراً للتبشير بهاوالتفافاً جماهيرياً قوياً حولها كشرط أولي لدعوة المجتمع الدولي للتدخل، مما يجعل أمر الوصاية مشروعاً ومقبولاً، وأهم من ذلك مرغوباً ومستساغاً من قبل الأوصياء المفتَرَضين! ربما يتحسس الكثيرون من فكرة تدخل المجتمع الدولي من زاوية تقاطع وتضارب المصالح الاقتصادية واالسياسية الخاصة بالأوصياء مع تلك الخاصة بمصالح الموصى عليهم! وهذا التضارب، في تقدير الكاتب، وارد جداً، لكنه ليس حاسماً في رفض الفكرة من أساسها حيث إنه يمكن، في تقديرنا، تجيير هذه الوصاية لمصالحنا الوطنية إذا أحسنّا إدارة علاقتنا مع العالم. فالمجتمع الدولي، بقيادة الغرب، هو المستفيد الأكبر من حالة الاستقرار التي من المفترض أن تنشأ؛ و توجد دلائل قوية ترجّح تخلّيه، أي الغرب، عن النظر لشركائه في العالم الثالث كمصدر للمواد الخام وسوق لمنتجاته. بل تشير أكثر الدلائل إلى تحبيذ وتبني الغرب للتعاون مع شركائه بدلاً عن السيطرة عليهم، وهو ما يمكن أن تؤكده جيداً علاقته الممتازة مع الصين والهند وفيتنام وكوريا الجنوبيةوماليزيا والتي تستند على هدف الكسب للجميع (win-win). أما في الجانب السياسي، أو جانب السيادة، فإن في تجارب التدخل الغربي في البوسنة وكسوفو ومالي، إضافة لتجربة العراق التي يوالي نظامها إيران الآن رغم أنه كان تحت احتلال مباشر لقوى دولية منافسة وخصيمة لإيران؛ في هذه التجارب ما يشير إلى أن التدخل الخارجي يمكن أن لا يقود بالضرورة لسلب الإرادة الوطنية خاصة لو كان للجانب الوطني رؤية إستراتيجية وكفاءة عالية في إدارة العلاقة مع الآخر. إن ما أوضحناه أعلاه من حقائق الوضع في السودان واحتمالات تطور أزمته الخانقة إلى ما يمكن أن يهدد السلم العالمي، يشير بوضوح إلى أهمية أن يتصدى المجتمع الدولي بقيادة حكومتي الولاياتالمتحدةوبريطانيا، لوضع حد لاستمرار النظام القائم، والمساهمة المباشرة في بناء سودان جديد خال من المظالم والمعاناة ويشارك بفاعلية في تحقيق إستقرار المنطقة ويساهم بإيجابية في الحضارة المعاصرة. لقد حان الوقت للعالم المتحضر، ومهما كانت الصعوبات، أن يعمل على توطين وتجذير مبدأ السيادة للشعوب وليس للأنظمة، في السياسة الدولية، حيث هو الذي يضمن له الحفاظ على السلم العالمي وبالتالي تحقيق الأمان لشعوبه. إن هذه المقترحات تنسجم مع المُثل العليا للإنسانية المعاصرة ومصلحة المجتمع الدولي بمجمله، وفي ذات الوقت تنقذ شعب السودان و ترفعه من تحت الأنقاض لتضعه في مسار النهوض والتقدم إلى الأمام. إننا عندما نقترح حكومتي الولاياتالمتحدةوبريطانيا للقيام بقيادة الأمر لا نقصد استبعاد القوى الأخرى، إلا أن تركيزنا عليهما إنما ينبع من حقيقة أن الولاياتالمتحدة تمثّل الدولة صاحبة النفوذ الأعظم على مستوى العالم، وهي الأقدر على إستخدام القوّة، كما أن بريطانيا تمثل الدولة الأقرب لقلب الشعب السوداني والأكثر معرفةً وإلماماً بالتركيبة الإجتماعية والسياسية والثقافية لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا بحكم ماضيها الاستعماري السابق إضافة، بالطبع، لنفوذها الاقتصادي والسياسي والعسكري المعروف. إن الدعوة للتدخل الأجنبي ليست جديدة لا في الماضي ولا في الحاضر، فبمثلما لم تمثل تلك الدعوة عاراً في الماضي فإنها لن تكون كذلك في الحاضر أيضاً. وفي الواقع فإن كل القوى السودانية المعارضة حالياً، تقريباً، تتعامل مع القوى الأجنبية في اتجاه مساعدتها في تخفيف الضغط الواقع عليها من النظام عبر إدانتها له في المحافل الدولية، وفي اتجاه مناشدتها لإصدار القرارات الأممية المستندة على الفصل السابع لميثاق الأممالمتحدة لحماية شعب السودان، ومطالبتها للمجتمع الدولي بتقديم مجرمي الحرب للعدالة الدولية، و المناشدات المستمرة للمجتمع الدولي لممارسة الضغط على النظام وإجباره على إيقاف الهجمات على المدنيين، إضافة للمناداة بفتح أبواب اللجوء السياسي لضحايا التعذيب والقهر السياسي. بل وحتى النظام نفسه، رحب وتعامل مع القوى الأجنبية بشكل أو بآخر كالقبول بوجود آلاف الجنود من أصحاب القبعات الزرقاء على أراضي السودان، مروراً بقبوله للمجتمع الدولي كراعٍ وضامن لاتفاقاته مع خصومه كما هو الحال في اتفاقية نيفاشا التي لعب المجتمع الدولي فيها دوراً حاسماً، وليس انتهاءاً بتسليم أجهزته الاستخباراتية أرشيفها الخاص بمعلومات أصدقائه من الإرهابيين الإسلاميين. اما في الماضي، فالتاريخ يؤكد أن ما أفرزته الدولة المهدية من مظالم كان سبباً مباشراً لوقوف قطاع واسع جداً من السودانيين مع الجيش الغازي سواءاً في الجانب السياسي أو العسكري، الذي احتشد له عدد مقدر من السودانيين لا يقل عن عدد الجيش البريطاني نفسه. ولم يكن في هذا السلوك من السودانيين ما يدين أو ما يشين، فقد كان تصرفاً ملائماً لإنقاذ السودان من الفوضى الشاملة التي اجتاحته. على المستوى الدولي، فقد كان تثمين الشعوب، ومن بينها الشعب السوداني، عالياً عند التدخل العسكري الواسع النطاق الذي قام به الحلف الأطلسي في البوسنة وفي كوسوفو لحماية شعبيهما من الإبادة والاستعباد. وما تعرض له شعبا البوسنة وكوسوفو، يتعرض له الشعب السوري الآن من قتل وتنكيل من جانبي الصراع: السلطة والجماعات المتطرفة، وهو أمر تتطلع معظم شعوب الأرض لأن يتدخل المجتمع الدولي عسكرياً فيه بأقوى مما هو عليه الآن وذلك لإنقاذ الشعب السوري. أضف لذلك، أن التدخل الفرنسي العسكري المباشر عام 2013 في مالي شكل عنصراً حاسماً في وقف تمدد التطرف والإرهاب في غرب إفريقيا، والذي لولاه لكان الغرب الأفريقي اليوم في حالة أخرى. إذن، ومن الناحية الجوهرية، لا نرى أن ما يتعرض له الشعب السوداني خاصة في مناطق الهامش أقل مما تعرضت له شعوب البوسنة وكوسوفو وسوريا، وبالتالي لا نرى غضاضة أو حرجاً في مناشدة المجتمع الدولي للتدخل الفاعل من المنطلقات الإنسانية العريضة. الملامح العامة للبرنامج المنشود (مقترحات لا تشترط أو تحتِّم التزامن أو التعاقب):