أخيراً انتهت (حجوة) العقوبات الأمريكية.. نشرنا في الصفحة الأولى اليوم ما تأكد لصحيفة "التيار" من مصادر مطلعة أنّ إعلان قرار تثبيت رفع العقوبات سيصدر مبكراً في خواتيم هذا الشهر "سبتمبر" أي قبل موعده المحدد ب "12 أكتوبر 2017". القرار سيمنح الحكومة نصراً سياسياً بارزاً بكل يقين، لأنّ العُقُوبات نفسها تحمل مدلولاً سياسياً قبل أن يكون اقتصادياً، لكن هل هو نصر داخلي أم خارجي؟ الخطاب الحكومي دائماً في حالة مُواجهة مع (آخر) يفترض أنّه إمّا معارضة سياسية حقيقية موجودة على الأرض أو عدو (داخلي) متوهم في عقل الحكومة.. لا تفتأ تدير معه حرباً مُتوهِّمة مُستمرة.. فما من مشروع تُدشِّنه الحكومة إلاّ وتُعلن في خطاب الافتتاح شماتتها في معارضيها.. وما من حادثة سياسية تقع إلاّ وتعلقها الحكومة على شمّاعة المُعارضة. أمّا خارجياً فلا أتوقّع أن يُغيِّر من الحال كثيراً طالما بقي اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب.. وطالما بقيت العُقُوبات المتصلة بقانون "سلام دارفور". ويطفر السؤال الحتمي.. هل سيُغيِّر قرار رفع العُقُوبات الأمريكية من الأوضاع الاقتصادية؟ الإجابة في تقديري ..لا.. صحيحٌ رفع العُقُوبات يُوفِّر منصة قوية لإصلاح حال الاقتصاد.. لكن على شرط بدونه لن تتغيّر الأحوال.. والشرط هو إعادة هيكلة الأوضاع السياسية أولاً ثم الاقتصادية ثانياً. كرّرنا هنا كثيراً أنّ الأزمة الحقيقيّة في السُّودان سياسية أولاً.. وانّه بدون مخاطبة هذه القضايا السياسية لن يتحقّق أيِّ تحرر من الأزمة الاقتصادية.. ورغم أن المطلوب على الصعيد السياسي معلوم تماماً للحكومة، إلاّ أنّها تمعن في التهرب منه ومُحاولة إبقاء الأوضاع السياسية على ما هي عليه والاكتفاء بطلاء خفيف يُغيِّر من المظهر ولا يمس الجوهر. كان مُهمّاً رفع العُقُوبات الأمريكية ليتحرّر السودان من قيود صعبة، لكن الأهم منها الآن وقد تأكّد رفعها وضع خارطة طريق جديدة وجريئة تنهي الأزمة السودانية السياسية تماماً.. تبدأ بأولوية أن تضع الحرب أوزارها في الأقاليم الثلاثة، ثم التسوية السياسية التي تمنح الجميع فُرص المُشاركة في بناء الوطن.. فالوضع السائد الآن وحتى ولو استمر خمسين سنة قادمة لن يُحقِّق المُشاركة والاستقرار السياسي، لأنّه مبني على احتكار السلطة والقرار وإقصاء الآخر بالترغيب أو الترهيب. وعسير تصور أن توافق الحكومة على هيكلة الحكم بأسس تفقدها الانفراد الذي شبت وشابت عليه، خاصة مع تعويلها الكبير على ضعف المعارضة.. لكن في المقابل فإنّ (المعارضة الحقيقية) للحكومة ليس هي مجموعة الأحزاب المعروفة.. بل هي الحكومة نفسها بواقع تآكل (منسأة سليمان) التي تتكئ عليها.. فالأزمات هي المعارضة الحقيقية التي تواجه الحكومة الآن... التيار