أكاديمي وباحث في العلوم السياسية أعلنت الإدارة الأمريكية في يوم الجمعة 13 يناير المنصرم عن رفعها للعقوبات الاقتصادية والتجارية التي بدأت فرضها على السودان في العام 1993، وشدّدت منها في العام 1997، وزادت من قسوتها في العام 2006، وهو الأمر الذي من المؤكد أن له مآلاته وستكون له تداعياته وآثاره على عدّة أصعدة. الواجب بدايةً هو تقديم التهنئة للشعب السوداني وحكومة السودان على صدور هذا الأمر التنفيذي الأمريكي القاضي برفع هذه العقوبات، وتهنئة خاصة في ذلك تُقدّم لكلٍ من الدبلوماسية السودانية بقيادة بروفسير إبراهيم غندور وجهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني بقيادة الفريق محمد عطا المولى الذين عملوا معاً في تناغم فريد يُثير الإعجاب كانت أهم ثماره هو مقدرتهم على اقناع الإدارة الأمريكية، في إطار علاقة الند للند، وليس إملاء الشروط، بإصدار قرار رفع العقوبات الاقتصادية والتجارية عن البلاد، والذي ستنعكس آثاره السياسية والاقتصادية إيجاباً عليها، وذلك ابتداءً من الأيام القادمات سيما أن رفع العقوبات تم بموجب "أمر تنفيذي"، وهو ما يعني أنه واجب التنفيذ لكل الجهات المعنية به منذ لحظة توقيع الرئيس الأمريكي باراك أوباما عليه، وهو في أواخر أيام فترة ولايته الرئاسية. صحيح أن قرار رفع العقوبات هذا يتخلّله عدد من الشروط يأتي في مُقدّمتها أنه سيكون قيد المراجعة من قِبل الإدارة الأمريكية لمدّة ستة أشهر من صدوره يُمكن بعدها النظر في إمكانية رفعه بالكامل حال نجاح الحكومة السودانية في الالتزام بتعهداتها التي دعت لرفع العقوبات أو إمكانية فرضها مُجدّداً، بعد رفعها، إن فشلت الحكومة في ذلك، وهذا هو الذي دعا البعض الى نعت هذا القرار ب "المؤقت" أو "الجزئي"، خاصةً من أولئك الذين لا ينظرون سوى إلى النصف الفارغ من الكوب أو ممّن ينتمون لمُعسكر أعداء النجاح أو من المُتعودون على غمط حقوق الآخرين، والذين يأتي في صدارتهم القوى السياسية المعارضة ل "نفسها" قبل أن تكون معارضة "للحكومة". إن إمكانية إعادة الولاياتالمتحدة فرض العقوبات على السودان مُجدداً لهو أمر مُستبعد، بل ويُمكن التجرّؤ بالجزم بعدم إمكانية حدوثه مرةً أُخرى، وهذا ببساطة لأن الإدارة الأمريكية إن كانت يُمكن أن تقوم بذلك ما كانت قد قامت في الأصل برفع هذه العقوبات، ومن أساسه. كما أن الحكومة السودانية بأدائها السياسي المُشاهد خلال الفترة الأخيرة، بشكلٍ عام، والذي يتميّز ب "الاحترافية" بحقّ، من المؤكّد أنها ستعمل على اغتنام هذه الفرصة، وذلك ليس من خلال التزامها بتعهداتها حتى تحول دون إمكانية فرض العقوبات مُجدّداً وحسب، ولكن حتى تتمكّن من التفاوض مع الإدارة الأمريكية حول رفع المُتبقى من هذه العقوبات نهائياً. وحقيقةً، فإن الحكومة السودانية أمامها سانحة، في ظل مُعطيات الواقع السياسي الحالي، لأن تصل، وخلال وقتٍ وجيز، إلى الرفع النهائي لهذه العقوبات، بل وأن بإمكانها، وفي ظل هذه الأوضاع الحالية أيضاً، أن تنجح في رفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب إن هي أرادت، بل وأكثر من ذلك، فإن بمقدورها أن تصل إلى تسوية سياسية لملف المحكمة الجنائية الدولية حال أن استمرت في أدائها السياسي الاحترافي هذا وتوفّرت لديها معه الإرادة لتسويته وإغلاقه نهائياً. وفي هذا، فإن هنالك درجة من اليقين في أن الحكومة السودانية ستبذل كل جهدها ولن تحيد عن تعهداتها التي التزمت بها للإدارة الأمريكية مُقابل رفع العقوبات، وذلك لاعتباراتٍ عدّةٍ أهمها أن مصلحتها تقتضي منها وتُملي أو تفرض عليها ذلك سيما في ظل تلك الترتيبات التي تجريها منذ فترة في إطار ما تقوم به من إعداد ل "النسخة الثالثة لنظام الإنقاذ"، وهي جدّ نسخة تحمل في طياتها من الجديد وغير المألوف حدّ "الإذهال" لأعضاء حزب المؤتمر الوطني ذات أنفسهم قبل الآخرين، وهذا لمن يعلمون ببواطن الأمور بالطبع. أهم ما في الأمر هو أن على القوى السياسية المعارضة مدنية وعسكرية أن تتحسس منذ الآن فصاعداً مواطئ قدميها جيّداً قبل أخذ أيّ خطوة، فالولاياتالمتحدة التي يعولون عليها، فإن من الواضح أنها قد تجاوزتهم، وذلك بعدما عجزوا في كل شيء: عدم توحدهم، وعدم مقدرتهم على زحزحة أركان نظام حكم الإنقاذ أو التأثير عليه على أقل تقدير، والذي في مجمله ناتج عن ضعفهم السياسي حد الوهن، وهو ما دعاها لأن أخذت تبحث لها عن أرضية مشتركة تجمعها مع نظام الإنقاذ طالما أنه هو القوي، وفوق ذلك أن بيده مفاتيح عدد من القضايا التي هي موضع الاهتمام الشديد لدى المجتمع الدولي، وهذا بجانب أنه، أيّ نظام الإنقاذ، يُمكن أن يكون فاعلٍ إيجابي في قضايا أُخرى، وذلك في كُلّه من شاكلة: الحرب على الإرهاب، والحدّ من الهجرة غير الشرعية لأوربا، والبحث عن تسوية للنزاع في جنوب السودان، والنزاع في ليبيا، ومراعاة المصالح الأمريكية في السودان والإقليم، والتي يبدو ظاهراً أن الحكومة السودانية حريصة أن تكون فاعل إقليمي متعاون مع المجتمع الدولي حول كل ذلك. هذا يعني أن على قوى المعارضة السودانية خاصة أولئك الذين تنتظرهم جولات مفاوضات مع الحكومة أن يضعوا في اعتبارهم ونصب أعينهم كل ذلك، وأن يستصحبوا في مواقفهم التفاوضية القادمة كل هذه المتغيرات، والتي تُحسب جدّ كبيرة، وأن كل الموازين تسير في عكس صالحهم من ناحية، وتسير في صالح نظام الإنقاذ وباستمرار من ناحيةٍ أُخرى، أي أن عليهم أن يتحلّوا بدرجةٍ عالية من العقلانية والمرونة في تفاوضهم مع الحكومة، هذا بالضرورة حال أن كان لديهم استعداد لأن يأخذوا بنصيحة أحد. أما المعارضة المدنية في الخرطوم فعليها أن تُعيد حساباتها في ضوء إحاطتها التامة بأن الولاياتالمتحدة لا تعنيها "حقوق الانسان" من الناحية العملية في شيء خارج حدودها، والذي يعنيها فقط "مصالحها"، ويُمكن في هذا التلفُّت يُمنةً ويُسرةً، ودون حاجة إلى مدّ البصر، للتأكد من ذلك دونما عناء. بآخره، وبعد رفع العقوبات الاقتصادية والتجارية الأمريكية على السودان، والتي لا مجال لعودتها مرة أُخرى، فإن أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية سيطرأ عليها تحسن بشكلٍ مُستمّر، وسيشعر الشعب السوداني بهذا سريعاً، وهذا مع كامل الاطمئنان من أن الإنقاذ "في نسختها الثالثة" ستتجاوز بالبلاد كل أزماتها ومحنها التي تعيش فيها، تلك النسخة التي قرر السيد رئيس الجمهورية ومن خلفه رجاله "الموثوق بهم" أن يكون هدفها هو فقط مراعاة مصالح السودان وشعبه، وأن فيها لن يكون هنالك كبيراً، مهما من كان، سوى رب العباد، وإن غداً لناظره قريب. [email protected]