ماذا دهى الشعب السوداني ؟ هذا الشعب المعلم , مفجر الثورات والمبادر الى فزعة المظلوم , هل استسلم هذا المارد الجبار لهذه الحفنة القليلة من المرابين وتجار الدين ؟ , متى يستيقظ من سباته الذي قارب الثلاثين سنة مما نعد ؟ ام ان هذه الجماعة المتجبرة قد نجحت في اسكات صوته للابد ؟ نشأنا وفي ذاكرتنا وصية الاجداد في اهزوجة ميرغني المأمون واحمد حسن جمعة , يرحمهما الله ويحسن اليهما , تلك الملحمة الوطنية المؤكدة على ان لا قيمة تساوي مقام الوطن والتراب , ومازال صوت العطبراوي يزمجر في اذاننا بلحن ومعاني مفردات رائعته (لن احيد) , ويبشرنا بان الفرد منا ليس رعديدا يكبل خطوه ثقل الحديد , فهل ذهبت هذه المعاني ادراج الرياح مع تقادم السنين والايام ؟ , وهل نحن جديرون بأن يفنى وطنيون من بني جلدتنا في سبيلنا وسبيل تحقيق وحدة الوطن ونموه واستقراره ؟, حدثوني عن معانٍ نبيلة مثل :(نحن من نفر عمّروا الارض حيثما قطنوا) , ماذا يقول عنا اولئك الثائرون الذين سحقتهم آلة المستعمر ودفنتهم في جوف تربة ام دبيكرات و كرري اذا بعثوا من جديد ؟ بالطبع سيرون في جباهنا علامات العقوق والعصيان والخزلان , وسوف يشاهدون بأم اعينهم كيف اننا فرطنا في وحدة تراب سكبت في سبيله الدماء الغالية و النفيسة , أهكذا يكون جزاء من مهروا بدمائهم الطاهرة رسم خارطة السودان؟؟ قبل ايام سمعت صوتاً لشاب ثائر تغلي دمائه كالمرجل , وجه صوت لوم وعتاب الى كافة افراد الشعب السوداني , ولم يستثني منهم احدا , فصب جام غضبه على صمت هذا الشعب المعلم عن الظلم والفساد والقهر , وقارن بين ما يتميز به هذا الشعب من كرم وشهامة وبين حالة الركون و الاستسلام التي يعيشها اليوم , وقال ان الكرم و الشجاعة صنوان , وانه لا يمكن ان يكون الكريم جباناً والعكس صحيح , وضرب مثلاً بظاهرة وجود مجموعات من السودانيين يحتسون القهوة والشاي وهم جلوس حول بائعة الشاي , والتي غالبا ما تكون هي العائلة الوحيدة لاطفالها اليتامى , فيأتي مبعوث المحلية ليهينها , و يلقي باشيائها على الارض , و يحشرها داخل عربة (الكشة) , دون ان يحرك هؤلاء الجالسون حولها ساكناً , لقد شكك هذا الشاب الثائر عبر رسالته الصوتية الواتسابية في حقيقة وجود خصيصة الكرم و الشهامة في وجدان مثل هكذا شعب , وذلك بقوله ان الكرم كسلوك والاستجابة للاهانة لا يجتمعان في نفس واحدة في ذات الوقت, وبرغم التعميم الذي اعتمد عليه ذلك الشاب في وصفه للشعب السوداني في جملة واحدة بالجبن , متناسياً نفسه في فورة غضبه تلك انه ذات نفسه قد خرج من صميم رحم ذات الشعب , الا ان حديثه ذلك اثار شجونا أليمة في نفوس المتلقين لتلك الرسالة , وانا احدهم , مما حدى بالكثيرين الى تحسس رجولتهم , لقد كانت رسالة قوية جداً , وضعت كل من سمعها في تحدٍ مع النفس , ان من اكثر الامور استفزازاً في هذه الحياة ان يهان امام ناظريك انسان , و تعجز انت عن ان تنطق بكلمة حق في وجه من اهان هذا الانسان , وقد صدق ايقونة النضال السلمي من اجل الحرية والانعتاق نلسون ما نديلا حين قال : (ليس حراً من يهان امامه انسان ولا يشعر بالاهانة). نحن كناشطين و كتاب قد مارسنا الكثير من الترف الفكري , والرومانسية الادبية, في تحليلنا للحالة السودانية, مثل استهلاكنا لبعض المقولات المتداولة في منتدياتنا و جلساتنا اليومية , من شاكلة (من اين اتى هؤلاء؟؟) , مترفعين عن الاعتراف بان هؤلاء لم يأتوا من المريخ , وان هؤلاء جائوا من ارحام امهاتنا ذاتهن , ولم تنجبهن نساء قادمات من كوكب آخر , والا فقولوا لي بربكم من منكم لم يكن له قريب او حسيب او نسيب ينتمي الى زمرة الانقاذيين ؟ , طرح مثل هذا السؤال (من اين اتى هؤلاء) على عواهنه يضعنا في صف المنافقين , و النفاق سلوك لا يؤدي الى طعن الفيل , بل يجعلنا راكضين وراء ظل هذا الفيل , الذي هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى اذا جائه لم يجده شيئاً , وان احد اسباب فشل المعارضة السودانية في تغيير النظام هو هذه الحالة من النفاق الذي يمارسه قادتها في حلهم وترحالهم , اذ نجد نظام الانقاذ يسوده البرود والسكون والطمأنينة تجاه عنتريات المعارضة الهزيلة , التي مافتئت ان شاركت هذا النظام بعدد من المساعدين والمستشارين بالقصر الرئاسي , وبعد كل هذا تأتي لتحدثنا عن التغيير , في الندوات السياسية عبر السفريات الماكوكية لرموزها المخضرمين , في باريس ولندن والقاهرة واديس ابابا, ان اوضح الامثلة لمن مارسوا هذا النفاق السياسي ببشاعة لم يسبق لها مثيل هم : الصادق المهدي وابنه عبد الرحمن , و محمد عثمان الميرغني و ابنائه المعاونين للحاكم الذي يريد سيدنا تغييره , جميعهم عصبة واحدة بعضها من بعض , وذات الامر ينسحب ايضاً على مني اركو مناوي , الرجل الذي خزل رفاقه في ابوجا , و جاء الى القصر مساعداً للرئيس الذي ظل يحدث الناس عن جرائمه بحق اهل دارفور طيلة ايام حمله للسلاح , فبعد ان انقضى شهره العسلي مع (الطاغية) حمل سياراته وعتاده وصواريخه ويمم وجهه شطر الغابة , في محاولة اخرى للدوس على جماجم ضحايا الابادة الجماعية حتى يعود مرة ثانية الى القصر وزيراً , هؤلاء خلايا فاسدة في جسد الوطن , وعلينا بترها , وهذا البتر لن يكون بالتصريحات الرنانة ولا بالمقابلات الانيقة ولا بالتكرار الممل الممجوج لمقولة (من اين اتى هؤلاء) , بل باتخاذ اجراءات عملية في فصلهم عن اي مشروع حقيقي للتغيير , لان التغيير لا يحققه المتذبذبون والمترددون والانتهازيون. المتفائلون منا على يقين من ان هذا البركان الخامل سوف يثور , لينفجر لهيباً أحمراً محطماً لقيود اليأس و الاستسلام , و كاسراً للاغلال المكبلة لحرية ابناء وبنات السودان , فكما تساءلنا في بلاهة فاضحة (من اين أتى هؤلاء) , سوف نتساءل مرة اخرى في غبطة وسرور , عن مجيء اولئك الرائعين الصادقين المعطونين بتراب الوطن الحبيب, على صهوات الجياد الاصيلة التي لا تصيبها كبوة في سباقها المقدس نحو العزّة والكرامة , وان غداً لناظره لقريب , ومهما هم تأخروا فانهم يأتون , من سفوح الجبال او من داخل الخرطوم.. [email protected]