29/6/2011 رندة الصادق المهدي: في مقال سابق بعنوان (السموم في حياتنا) بجريدة الصحافة في عام 2010 تناولت فيه موضوع حوادث التسمم التي تحدث بالسودان، بعد أن ورد في الأخبار أن هناك حالات مرض مجهول يصيب المواطنين بأبي مراحيك بشمال كردفان و قد أوضحت وزارة الصحة بالولاية فيما بعد أنها حالات تسمم بقمح ملوث دخل الولاية عبر لواري من مصادر غير معروفة!! تأثر بذلك القمح الملوث – حسب الاشتباه- أكثر من 80 مواطناً و قد أرسلت السلطات الصحية المحلية وقتها عينات لتبيان الأمر بعد الفحص! كيف تأكدت الوزارة و تثبتت من السبب و التشخيص و أطلقت التصريح القاطع و الجازم قبل فحص عينات القمح و المرضى ؟ لا أحد يدري! و قد تكررت مثل هذه الحوادث الجماعية التي يروح ضحيتها عدد كبير من المواطنين مثل الذرة الملوثة بمبيد الاندوسولفان بالعبيدية حيث توفي 31 شخصا و حادث السكر الملوث بمادة الاندرين « المحظور « بنيالا و التقاوي الملوثة بالاندرين و الثايرام في دنقلا. دائما تكررت الحوادث المأساوية و تكررت خيبة التعامل معها قديما و حديثا بل انحدر مستوى المسئولية في التعامل بشكل لافت مثير للدهشة! بهذه الخلفية فإن حوادث الموت الجماعي التي حملت انباءها الصحف في اليومين الماضيين جراء استهلاك عدد من المواطنين في أعمار شبابية لخمور بلدية ربما احتوت على الميثانول أو السلسيون – فلم تتثبت أية جهة من ما هية هذه المواد إلى الآن- تعتبر هذه الحوادث المؤسفة أحد أدلة فشل نظامنا الصحي و الذي لا غبار عليه على الورق و لكنه في قمة الربكة والإرباك على أرض الواقع!! لم يكن حادث استهلاك عدد من المواطنين لمادة الميثانول بصورة جماعية أدت إلى تسمم و عمى ووفاة هو الأول من نوعه ، فقد حدث ذلك في العام 2005 حينما تنادم رهط من علية القوم في ليلة ما لشرب خمور بلدية ملوثة بمادة الميثانول فأصيب عدد منهم بالعمى و مات آخرون و نجا البعض ممن لم يبالغوا في الشرب. رصد الحادث و أثار لغطا و جدلا في الصحف و غيرها ثم قفل الملف بكامله. و في العام الماضي تحديدا في شهر مايو من 2010 أحضر حوالي 10 مواطنين من جنوب السودان لقسم الطوارئ بمستشفى الخرطوم بعضهم أصيب بالعمى و بعضهم فاضت أرواحهم بالمستشفى و البقية تعافوا لأن الحظ حالفهم بتوفر الترياق المضاد و عولجوا و قفل الملف! السموم موجودة في حياتنا اليومية بصورة عادية في البيئة التي نعيش فيها و تعرضنا لها قد يحدث إما صدفة أو بصورة قاصدة و في السودان حالات تحدث نتيجة الممارسات الخاطئة غير الصحية مثل استخدام أصباغ الشعر كبديل للحناء أو استهلاك الميثانول كبديل للايثانول لدى متعاطي الخمور لتوفره و رخص ثمنه. و السموم حولنا متوفرة و متنوعة من مخصبات و مبيدات حشرية و مواد كيميائية بالمصانع المختلفة و المواد الكيميائية بالمنزل من منظفات و غيرها و الأدوية العلاجية الموجودة في البيت و بعض النباتات و الحيوانات، لا يسلم منها الناس إلا بمراعاة السلوكيات الصحية المطلوبة وفق أسس السلامة و لا يتم كل هذا إلا بتناغم الأدوار الفردية والجماعية على كل المستويات. فعلى مستوى الدولة الأعلى يجب ان تكون اللوائح والضوابط و التشريعات والقوانين تصب في راحة وصحة و رفاهية المواطن السوداني و أن يتولى ذلك كل الوزارات ذات الاختصاص و على رأسها وزارة الصحة مع الوزارات الأخرى مثل وزارات العمل و الزراعة والشئون الاجتماعية و الداخلية ( الشرطة) باعتبار أن الدولة بكامل عدتها و عتادها تحمل هم هذا المواطن و تحميه من كل أذى. ثم تتنزل هذه المسئولية على المستويات الأدنى أفرادا و جماعات حتى تصل للمواطن الفرد المستهلك الذي يكون وقتها آمناً في سربه. لقد تطور الطب العلاجي الحديث لكثير من الأمراض و تعقدت النظم الصحية بناءً على هذا التطور و ارتفع سقف تطلع الجميع فضلاً عن معالجته عندما يحدث و مما يترتب على كل ذلك أن تعمل المستشفيات وفق موجهات دقيقة بحيث أصبح على كل المستشفيات في العالم الحصول على شهادة مما يعرف باللجنة المشتركة لضبط المستشفيات THE JOINT COMMISSION FOR HEALTHCARE ORGANIZATIONS أو التي افترعت منها ال INTERNATIONAL HEALTHCARE ACCREDITATION و التي يفترض أن يرتبط الحصول على الترخيص اللازم للمستشفيات بعد إذنها و إجازتها كما يحدث في كل العالم، و من ضمن لوازم هذه اللجان على المستشفيات عدم السماح أو تجريم « الموت المحروس» أو SENTINEL DEATH الذي يفقد المريض فيه حياته أو تصيبه عاهة كبيرة غير متوقعة في سير مرضه الذي يشكو منه وهو تحت الإشراف الطبي مما يوحي بأن إهمالا ما أو خطأ طبي قد أودى بحياته لا مرضه الذي يشكو منه بداية. و عليه فإن حوادث الموت الجماعي داخل المستشفيات جراء تناول السموم ربما يقع تحت طائلة المحظور. هناك بالطبع عوامل متشابكة قد تؤثر على العلاج سلبا مثل الوصول متأخرا لطلب العلاج و هو متوقع في حالات التسمم بالميثانول أولا لأنه مادة محظورة قانونيا يتخوف المريض من الدخول في المشكل القانوني و ثانيا لأن الأعراض أصلا تظهر بعد مرور 30 ساعة على الأقل بعد الشرب. و لكن أيضا ليس بهذه الأعداد الكبيرة تباعا !! نعم الحادث الأخير و بكل المقاييس هو الأكثر إفجاعا و إيلاما و قد راح ضحيته العشرات من مواطنين سودانيين وصفوا بأنهم مشردون و أنهم أطفال (لقد رأيت عددا منهم و هم في عقدهم الثالث و لم يكونوا أطفالا) و مهما كانوا فهم شباب من هذا الوطن المنكوب المأزوم. نترحم عليهم أجمعين و نعبر عن بالغ الأسف على حالهم فقد عاشوا في ضيم و ضنك لا يشكلون هما لأي شخص كائن من كان ابتداءا ممن ولدوهم و نسوهم لسبب أو آخر مرورا بمواطنيهم الذين يشاركونهم الوطن إلى دولة الرعاية الاجتماعية التي تخلت عنهم، و لكن الحادث المؤسف يعيد إلى الأذهان عدداً من الأسئلة الهامة والتي نطرحها في الهواء مشفقين مما آل إليه حالنا في هذا الوطن وهي: متى يأتي اليوم الذي تتناول الجهات المختصة التحقيق في هذه الحوادث ثم بعد ذلك تطلق التصريحات والتبريرات التي يطلقها الجميع الآن بصورة استباقية تتكهن بالأسباب ثم يقفل الملف دون إطلاع المواطن بالحقائق مما يفتح الباب على مصراعيه أمام الشائعات؟ متى ترتب أقسام الطوارئ بالمستشفيات لكي تكون قادرة على التعامل مع الأعداد الكبيرة من الإصابات فوصول عشرين مصابا في وقت واحد يربك القسم كله حد الفوضى! ماذا يخطر على بال الدولة و مسئوليها من تدابير في حالة حدوث مثل هذه الحوادث خاصة أنها متكررة و ربما ما وصل إلى الصحف و تناولته الأقلام والأفواه كان قمة جبل الجليد فقط؟ هل هناك ملفات موحدة تسجل بها حوادث التسمم الجماعية والفردية خاصة و ترصد أسبابها و الأعراض المصاحبة لكي يستفاد من هذه المعلومات في مقبل الأيام فلا تتكرر مآسينا بنفس النتائج كل مرة. الخلل الواضح في عدم توفر الترياقات المضادة بأية صورة من الصور كما أن الكادر الطبي غير مدرب على ما يجب فعله في هكذا حالات و عدم وجود مراكز متخصصة للسموم ؟ كيف يتم دخول ووصول هذه المواد لأيدي المتعاطين والمستهلكين خاصة و أنها مواد ليست للتناول بالفم بل يجب أن يكون التحذير من ذلك واضحاً بشكل لا يقبل اللبس إذا تم استيرادها بالطرق الرسمية و اذا دخلت بالتهريب فكيف تمكن المهربون من إدخالها ؟ ثم متى يأتي اليوم الذي نحلم به و نراه بعيدا أن تظل الدولة و مؤسساتها و دولاب العمل بها يسير بواسطة ذوي الخبرة فقط بعيدا عن خطل سياسات فوقية مزاجية وقتية تفشل في أول إختبار تتعرض له؟ و أخيرا لا أملك إلا أن أتمنى أن يفيق الجميع من قفوتهم و يقوموا بما عليهم القيام به من دور في كافة المستويات فأمنا الحكومة كما يقول المبدع ساخر سبيل مشغولة بهموم أخرى غير المواطن خاصة الضعيف الذي لا صوت له.