الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    قرارات جديدة ل"سلفاكير"    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العقل والثورة
نشر في حريات يوم 26 - 07 - 2011


لماذا نريد تغيير الحياة؟ …
لأن الحياة ليست على ما يرام.
على الصعيد العالمي، هناك قدرات هائلة قادرة من حيث المبدأ على حل مشكلات البشرية الملحة جميعا، كالأمية والفقر والجهل والحرب والجوع. لكنها عاجزة بالفعل عن القيام بذلك. والنتيجة: مزيد من اللااستقرار والفقر والجوع والبطالة والحرب والاستغلال وتخريب البيئة وتعريض الكرة الأرضية للخطر.
على الصعيد العربي، مزيد من التفكيك والاحتراب الطائفي والأمية والظلامية واللاعقل والاستبداد الوضيع والتمييز والفقر والبطالة والبيئة غير النظيفة. إن الحياة تصرخ من أجل التغيير.
ولكن أي تغيير؟
بالتأكيد، ليس التغيير العشوائي الأعمى غير المفكر فيه وغير الواعي، الذي يحدث من دون تخطيط ولا تنظيم ولا فعل منظم.
إن التغيير المطلوب لهو التغيير الناجم عن التخطيط والفعل الجمعي المنظم.
تخطيط من؟ وفعل من؟
إن التحدي الأكبر الذي يجانهنا اليوم هو تكوين كتلة بشرية منظمة قادرة على التخطيط والفعل الجمعي المنظم الفعال—كتلة نهضوية.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ساد الظن أن السوق المنفلتة الطاغية هي الحل، هي القوة الكفيلة بحكم طبيعتها وقوانينها الداخلية بضمان قدر كبير من التقدم والازدهار والسلم. ولكن، ما شاهدناه في العقد الأخير من حروب مدمرة وأزمات اقتصادية بركانية يكذب هذا الظن تماماً. ويظل السؤال قائما: كيف يمكن تكوين قوة التغيير هذه. إنني، بالطبع، لا أملك جوابا سحريا على ذلك. لكني سأتناول ههنا دور التربية والتعليم تحديداً في هذه العملية.
ونقطة انطلاقنا في هذا الصدد هي السؤال: ما هي الشروط الأساسية لأن يكون الفرد قوة تغيير منظمة وفعالة—قوة تغيير نهضوي؟
هذه الشروط هي:
(أ) أن يكون الفرد ذاتا، لا مجرد موضوع أو أداة. فالذات فاعلة بطبعها. إنها بؤرة الفعل المنظم الحر. أما الموضوع، فهو ليس فاعلاً ، وإنما مفعول فيه أو به أو عليه. وفي هذا السياق نقول إن واحدة من المهمات الكبرى الملقاة على عاتق الجهاز التعليمي هي تحويل الفرد من موضوع إلى ذات، تلك العملية التي تكلم عنها الفيلسوف الألماني هيغل في رائعته الفلسفية “ظاهراتية العقل". وبيت القصيد هنا هو : هل إن الجهاز التعليمي يرسخ في الفرد منذ نعومة أظفاره ثقافة الوصاية والأوامر والتنميط والقطيع، فيقضي على فرص بروز الفرد ذاتا فاعلة، أم إنه يرسخ ثقافة الحرية والمسؤولية والنقد والتمرد، دافعا الفرد إلى إبراز الذات الكامنة فيه؟ وبالطبع، فإن النمط الأول من الثقافة هو السائد في مجتمعاتنا وأجهزتنا التربوية والتعليمية. فالفرد لدينا ملزم باتباع أنساق معينة من التفكير والممارسة والمعتقدات، بصرف النظر عن قناعاته الداخلية، ومن ثم فهو ملزم بالطاعة العمياء وبالانتماء المطلق للقطيع. وممنوع عليه آن يفكر بما ينسجم وخبرته وقناعاته المتولدة عنها، ناهيك بالمجاهرة بها وبممارستها. فهو يدفع الثمن غاليا، وأحيانا غاليا جداً، إن هو خرج عن النص والسرب. إنه مجرد موضوع أو أداة يقوده أو يستعمله أوصياء على تماس مع سلطة خارج إطار الفرد. وتؤدي الأجهزة التربوية دوراُ مهما في تجميد تحول الموضوع إلى ذات، أي منع الكامن من التحقق، وفي ترسيخ ثقافة الوصاية والتنميط والقطيع والأوامر. وبالطبع، فإن القطيع عاجز بطبعه عن إحداث التغيير لأنه عاجز بطبعه عن ممارسة الفعل المنظم الهادف. وبالمقابل، فإن الفرد يغدو قوة تاريخية مؤثرة حين يتكون ذاتا قادرة على صنع خبرتها وقناعاتها ومواقفها وآرائها وأفكارها بفعل آلياتها الداخلية. وبيت القصيد هنا هو القدرة على تقرير المصير. فالذات الناضجة الحرة لا ترضى بأن يفرض عليها مصير من خارجها، إما من الطبيعة وإما من التاريخ المتكلس، وإنما تسعى إلى تقرير مصيرها بنفسها وبمواردها الذاتية الداخلية، وهي ترفض الأوامر والوصاية الخارجية كائنا ما كان مصدرها. فعقلها وخبرتها وضميرها هي نبراس الفعل لديها.
(ب) أن يكون الفرد مثقفا عضويا، أي أن يكون تجسيداً لذات تاريخية اجتماعية، أي أن يكون واعيا لتاريخيته وجوهره الاجتماعي، ومن ثم أن يدرك أن موضوع فعله المنظم هو الكل الاجتماعي التاريخي. فالمثقف العضوي هو وعي الجماعة التي ينتمي إليها لذاتها، بمعنى أن الجماعة تعي ذاتها عبر مثقفيها العضويين، وتكتسب وحدتها الداخلية ووحدة فعلها الاجتماعي التاريخي عبرهم. ولكي يكون الفرد مثقفا عضويا ويؤدي دور المثقف العضوي، فلا بد أن يكون مدركاً لكونه ذاتا تشكلت اجتماعيا وتاريخيا ولكونه قوة اجتماعية ومنتميا من حيث الوجود إلى جماعة معينة ذات طبيعة طبقية وقومية معينة. وعليه أن يتحمل مسؤولية فعله بوصفه نابعاً من قلب الجماعة التي ينتمي إليها ويسعى إلى تحقيق أهدافها وطموحاتها. وبهذا المعنى فقط يكون الفرد قوة اجتماعية قادرة على التغيير المنظم الفعال. فالذات بصورة عامة لا تتشكل بمعزل عن الجماعة التي ينتمي الفرد إليها. كما إن تشكلها يظل منقوصا ما ظل دورها الثقافي العضوي منقوصا. وفي مجتمعاتنا العربية، فإن هناك آليات اجتماعية وتربوية وثقافية تحول دون تشكل الفرد ذاتا ودون تكون المثقفين العضويين في المجتمع. ومن هذه الآليات تصفية المثقف العضوي إما جسديا وإما روحيا وامتصاص مشروعات المثقفين العضويين من جانب جهاز الامتيازات البيروقراطي وتحويلهم إلى بيروقراطيين عقيمين أو كمبرادور ثقافي غير مبدع. فالجهاز البيروقراطي العربي عاجز عن إنتاج مثقفيه العضويين من جهة ويتغذى على المثقفين العضويين، الذين تنتجهم الفئات والطبقات الأخرى، مصفيا إياهم بالكيفيات المذكورة للتو. والنتيجة الحتمية لهذه الحالة المريعة هي هذا التكلس غير المسبوق والجمود الرهيب في عملية التغيير في الوطن العربي. إن بناء الذات بوصفها مثقفا عضويا بات أمراً ملحاً في مجتمعاتنا اليوم وتحديا كبيراً أمام القوى العربية الراغبة في التغيير.
(ج) أن يكون الفرد مسلحاً بالعقلانية العلمية. ولكن ، ما هي العقلانية العلمية وما علاقتها بالتغيير؟
أولا: تمثل العقلانية العلمية قمة العقلانية بصفتها العامة. وهي تتجسد في العلم وضروب معينة من الفلسفة. وكان أول تجسيد لها في التاريخ حوالي عام 500 ق.م. في بابل العراقية في علم الفلك البابلي، الذي جمع بين أساليب التحليل العددي وبين الرصد الفلكي الدقيق. وتجسد لاحقاً في علم الفك الإغريقي، الذي نشأ على يدي هيباركوس في القرن الثاني قبل الميلاد، وجمع بين النماذج الهندسية والرصد الفلكي الدقيق، ووصل أوجه الإغريقي في بطلميوس في القرن الثاني الميلادي، وأوجه العربي في مؤيد الدين العرضي ومدرسة مراغه وابن الشاطر الدمشقي. وتجسد ثالثا في علم الضوء العربي، الذي نشأ على أيدي الكندي وابن السهل والحسن بن الهيثم. لكن هذه التجسيدات المهمة ظلت مجرد جيوب من العلم الدقيق في محيط من البنى والأساليب الميتافيزيقية والعرفانية والغنوصية، ومن ثم ظلت محدودة الأثر على مجمل الحياة والأنشطة الفكرية والثقافية. وهذا يفسر نمط العقلانية التي كانت سائدة في الأوساط الفكرية في الحضارات القديمة شرقي المتوسط. فقد كانت عقلانية يمكن وسمها بأنها عقلانية ميتافيزيقية برهانية الطابع يشوبها قدر من العرفانية. وكان أكبر ممثليها أفلاطون وأرسطو بصورة عامة والمعتزلة وابن سينا وابن رشد في الحضارة العربية الإسلامية. وقد ضمرت الجيوب العلمية الدقيقة في الشرق حتى تلاشت كليا وتلاشت معها العقلانية الميتافيزيقية القديمة. لكن هذه الجيوب ما لبثت أن انتقلت إلى أوروبا، فوجدت هناك في عصر النهضة التربة الصالحة للنمو المتسارع حتى طغت وهيمنت على عملية إنتاج المعرفة والفكر وهمشت الأساليب المعرفية الأخرى تماماً. وصاحب هذه العملية ثورة فلسفية عارمة قوضت أركان الفلسفة القديمة، بما في ذلك العقلانية الميتافيزيقية القديمة. وعلى أنقاضها قامت العقلانية العلمية، ليس على صعيد العلوم المتنوعة حسب، وإنما أيضا على صعيد الفلسفة، فتنامت المحاولات الفلسفية لتحديدها فلسفيا حتى وصلت أوجها في منتصف القرن التاسع عشر. وقد تراجعت هذه العقلانية في الفلسفة الغربية في القرن العشرين، لكنها ما زالت مؤثرة وفعالة.
ثانيا: إن العقلانية العلمية هي أحد الأسس الرئيسية للممارسة العلمية. وهي تنطوي على منظومة من القيم لا تقوم للممارسة العلمية قائمة من دونها. وفي مقدمة هذه القيم العلمية عدم قبول الأمور على علاتها، وإنما التحقق من وجودها وشروط وجودها وإمكانياته، كما يفعل مثلا اين خلدون في مقدمته. ومن هذه القيم التريث في إصدار الأحكام والصبر والأناة والصدق والأمانة.
ثالثا: إن العقلانية العلمية لا ترضى بأي وصاية على العلم من خارجه. فهي لا تعترف بأي سلطة خارجها، سواء كانت سلطة نص أو سلف أو مألوف. فالحجة العلمية هي السلطة الوحيدة التي تعترف فيها. وهذه الحجة ترتكز إلى نوع معين من التنظير المرتبط جدليا بنوع معين من التجريب الدقيق أو الممارسة. وفي حال علوم الطبيعة، فإن هذه الحجة ترتكز إلى التنظير المريّض mathematized المقترن جدليا بالتجريب الدقيق والقياس الدقيق. وتكون العلاقة بين التنظير والتخريب ضرورية وتحولية وتناقضية. فالتنظير العلمي يكتسب علميته من كونه قابلا لأن يحول إلى تجريب دقيق. والتجريب الدقيق يكتسب علميته من كونه قابلا لأن يترجم إلى تنظير مريّض. وهذه العلاقة الجدلية هي المرجعية الوحيدة للعقلانية العلمية والسلطة الوحيدة التي تعترف فيها. أما في حال علوم الاجتماع، فإن الحجة العلمية ترتكز إلى تنظير من نوع آخر لا مجال لمناقشته هنا ومقترن جدليا بالممارسة الاجتماعية التاريخية.
رابعاً: إن أساس هذه المرجعية في حال علوم الطبيعة لهو ما أطلق عليه اسم المشروع الغاليلي الينوتني. ويتمثل هذا المشروع في تحديد الكميات الفيزيائية، التي تؤطر الوجود المادي، بالرياضيات والقياس الدقيق، وتحديد العلائق المتنوعة بينها، وفي مقدمتها العلائق الجوهرية التي نسميها قوانين الطبيعة. وقد حول نيوتن هذه القوانين عن طريق علم الحسبان Calculus، الذي ابتكره، إلى ماكنات مذهلة لإنتاج المعرفة والتنبؤ بالظاهرات ، مظهراً بذلك وحدة الوجود المادي بصورة غير مسبوقة.
خامساً: تميز العقلانية العلمية بين الباطن والظاهر . والباطن هو الأصل والأساس الذي ينتج الظاهر. والظاهر ليس شفيفا أو شفافاً، وإنما قد يكون حجاباً يحجب الباطن عن بصائرنا، وقه يكون نقيضا للباطن الذي ينتجه. لذلك نحتاج إلى الممارسة العلمية، التي هي عملية مضنية وشاقة، من أجل النفاذ إلى الباطن ورؤيته ومعرفته. ولا سبيل إلى معرفة الظاهر وأنساق تغيره إلا بمعرفة الباطن الذي ينتجه. لذلك فلا سبيل إلى تغيير الحياة إلا بالعلم. وعلى هذا الأساس، اعتبرنا العقلانية العلمية شرطا أساسيا من شروط تكوين قوى التغيير في الحياة. فالوعي العلمي المسلح بالعقلانية العلمية قادر على النفاذ إلى الباطن ومعرفة قوانينه وآليات إنتاج الظاهر، ومن ثم معرفة آفاق تطور الظاهر وتغيره. وهو يتعامل مع الحياة ويدخل في تغييرها على هذا الأساس. وفي حال علوم الطبيعة، فإن الباطن هو عدد لانهائي من الأنظمة الفيزيائية المتفاعلة معاً بصور متنوعة والتي تتحدد حالاتها الفيزيائية بالكميات الفيزيائية وعلائقها. أما في حال علوم الاجتماع، فإن الباطن هو شبكة كثيفة من العلائق الاجتماعية الموضوعية القائمة بين فاعليات اجتماعية متنوعة.
فالعقلانية العلمية تفترض أن موضوع المعرفة والفعل (الطبيعة أو الاجتماع) هو كيان مادي مستقل تحكمه قوانين معينة وينتج الظاهر بآليات معينة يمكن معرفتها.
سادساً: يسخر الوعي العلمي في ممارسته العلمية أدوات وأساليب وطرائف تنبع من قلب الممارسة العلمية. وبها يتعامل مع واقعه بخلق وإبداع . وفي مقدمة هذه الأدوات والأساليب: الاستقراء Induction، أي استقراء قوانين الباطن من وقائع الظاهر، والاستنتاج، أي استنتاج جوانب الظاهر من عموميات الباطن، واختبار الأفكار تجريبيا ومنطقيا، والتركيب الجدلي، أي خلق الأفكار الجديدة بدمج المتناقضات، وبناء الفرضيات، وقراءة الحقائق الكبرى في الفروقات المقدارية الدقيقة، وأخيراً وليس آخراً النقد Critique ، أي تفكيك الأفكار وتحليلها وبيان حدودها وتناقضاتها وبناها الداخلية. ويعج تاريخ إنتاج المعرفة باستعمال هذه الأدوات بفاعلية خلاقة وإبداع متواصل.
وهكذا، فحتى يكون الفرد قوة تغيير ومنخرطاً في التاريخ وفي تغيير الحياة، فلا بد أن يتشكل ذاتا ومثقفا عضويا مسلحاً بالعقلانية العلمية. ولكن كيف يتأهل الفرد لذلك ؟ ما هي الآليات السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية لذلك؟ هذه بالتأكيد مسألة اجتماعية وتاريخية شائكة جداً. فللمعاناة النفسانية والاجتماعية دور كبير في ذلك. وهذه ترتكز إلى الموضع الذي يحتله الفرد في المجتمع ومدى استقرار هذا الموضع وذاك المجتمع. كما إنه لصيق الصلة بالأجهزة التربوية والدينية والثقافية والإعلامية المؤثرة في المجتمع . لكني لن أدخل في تفصيل هذه العمليات الشائكة، وإنما سأركز على الجانب الثقافي في الحالة العربية تحديداً. والحالة العربية، كما تعلمون، هي حالة فريدة من نوعها في التاريخ في كثير من المناحي. فالأمة العربية هي أعرق الأمم الحية في التاريخ. وقد تربعت على عرش الإنتاج الحضاري لعشرة آلاف عام قبل أن تخسر موقعها المتقدم للأوروبيين منذ القرن السادس عشر الميلادي. وهي، كما رأينا، ليست بعيدة عن العلم، وإنما ساهمت مساهمة رئيسية في خلق العلم القديم، بل ووصل العلم القديم أوجه في الحضارة العربية. لكنها، منذ القرن السادس عشر، وربما قبل ذلك، فقدت الأمة العربية العلم تماماً وصفي عقلها النظري الذي كان يلهب حضارتها العظيمة ويحركها. فوجدت نفسها مذاك مهمشة وخارج التاريخ تماماً. بذلك ، ومع التطورات المذهلة التي أصابت العلم والمعرفة في القرون الأربعة الأخيرة، وجدت الأمة العربية نفسها بعيدة تمام البعد عن العلم، وكأن العلم ابتكار أوروبي محض، وكأن تاريخها الحافل لا يمت بصلة إليها. والسؤال الذي يجابهنا اليوم ويلح علينا هو : كيف نحدّث الوعي العربي السائد اليوم، هذا الوعي المفوّت، الذي شلته وخنقته قوى الثورة المضادة؟ كيف نحدث ثقافتنا بحيث تشكل أرضية مناسبة لبروز ذوات ثقافية عضوية مسلحة بالعقلانية العلمية؟
ولعل في مقدمة الآليات لتحقيق ذلك هو ما أسميه مشروع الثقافة العلمية. وسأعرف هذا المشروع بدلالة غاياته ، التي أجملها في النقاط الآتية . يهدف هذا المشروع إلى :
1- تفجير الكوامن التعبيرية الثرة في لغتنا العريقة، لغة الضاد.
2- إتقان فن الاستعمال المعبر الدقيق للغتنا العربية وإزالة ما علق فيها من غبار الركود والتخلف التاريخي والاستبداد والسبات الحضاري.
3- إبراز العلم بوصفه فكراً وثقافة وإنتاجا اجتماعيا رفيعا، أي إبراز المنطويات الاجتماعية والفكرية للعلم والكيفية التي تركب بها النظريات والمفهومات العلمية وتختبر بها الأفكار العلمية .
4- إبراز العقلانية العلمية بصفتها المرجعية الوحيدة للممارسات العلمية، وبيان جوهرها المتمثل في العلاقة الجدلية بين النظرية المريّضة والقياس المقداري الدقيق.
5- إبراز أدوات الممارسة العلمية ومعناها وشرعيتها، مثل النقد والاستقراء والاستنتاج والتركيب الجدلي والاختبار ووضع الفرضيات القابلة للاختبار وقراءة الحقائق الكبرى في الفروق الطفيفة والشك المنهجي.
6- إبراز الأفكار العلمية الثورية وتحدياتها، كفكرة التطور على أساس الانتقاء الطبيعي في البيولوجيا وفكرة الزمكان في النسبية وفكرة اللاتحديد في ميكانيك الكم.
7- إبراز المنطويات الفلسفية للممارسة العلمية .
8- إبراز طبيعة الإنتاج العلمي وكيف يشتغل العلماء إبداعيا على موروثهم المعرفي وبه من أجل تطويره، وأن عملية الخلق العلمي تفترض تأهيلا صارماً للعالم مثل: إلمامه العميق بموروثه المعرفي وأدواته ومواكبة آخر التطورات في مجاله والالتزام الأخلاقي والوجداني العميق بالعمل العلمي.
ولعل المثال الأكبر في التاريخ على مشروع الثقافة العلمية بالمعنى المفصل أعلاه هو المشروع الذي نفذه فلاسفة التنوير في فرنسا في القرن الثامن عشر. وأخص بالذكر فولتير، الذي فرنس فيزياء نيوتن، ولامتري، وديدرو، صاحب الموسوعة المشهورة. إذ أدرك أولئك الفلاسفة الأفذاذ التحدي الذي فرضه عليهم مشروع غاليليو – نيوتن، فابتكروا مشروع الثقافة العلمية من أجل تملكه ، الأمر الذي ساهم لاحقا في تكوين وعي الثورة الفرنسية الكبرى.
إني أدعو القوى النهضوية الحية في أمتنا إلى تبني مشروع الثقافة العلمية بوصفه مهمة أساسية من مهمات النهوض العربي وتغيير الواقع العربي البائس صوبه، وأداة في تملك العلم بوصفه صناعة وثقافة، وآلية أساسية في بناء الذات العلمية الواعية تاريخيا.
لقد أغفلت حركة التحرر القومي العربية الدور الرئيسي لهذا النمط من الذات في عملية التغيير والتحويل والتحرر، ودفعت نتيجة ذلك ثمنا فادحاً تمثل في هزيمتها على كل صعيد. إننا في حاجة إلى إعادة بناء حركة تحرر قومي عربي، بل وحركة تحرر عالمية، على أساس الذات العلمية التاريخانية الحرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.