لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروع الثقافة العلمية : بقلم : هشام غصيب
نشر في حريات يوم 10 - 08 - 2011


هشام غصيب …
ثقافة البحث العلمي ..
ملخص …
تنطلق هذه الورقة من فكرة أن هناك شروطاً ثقافية لا بد من وجودها وتوافرها في مجتمع ما حتى يتمكن من بناء صناعة فاعلة ومؤثرة للمعرفة، أي ماكنة وطنية للبحث العلمي. وفي مقدمة هذه الشروط بناء وعي علمي جمعي بمشروع للثقافة العلمية. ولكي تحدد الورقة معالم هذا المشروع، تبدأ بتحديد معنى العلم بوصفه مشروعاً ثقافياً تاريخياً. ثم تستخلص معالم مشروع الثقافة العلمية من هذا التوصيف، مؤكدة على أن مشروع الثقافة العلمية هو في جوهره عملية ترجمة إدراك العلم بوصفه مشروعا ثقافياً تاريخياً إلى وعي جمعي وطني.
مقدمة
عند تناول مشكلة ضعف البحث العلمي في الوطن العربي، يتم التركيز عادة على البعد الاقتصادي للمشكلة، فتختزل المشكلة إلى مشكلة اقتصادية بحتة تتمثل في تدني المخصصات الحكومية العربية الموجهة صوب البحث العلمي وضعف مساهمة القطاع الخاص العربي في رفد قطاع البحث العلمي. وقد تلمح بعض الدراسات المعنية بهذا الأمر إلى بعض العناصر السياًسية، كانعدام أجواء الحرية وضعف الآليات الديموقراطية واستشراء أنماط الإدارة ما قبل الحداثوية في مؤسساتنا العلمية. لكن هذه الدراسات قلما تتطرق إلى المشكل الثقافي في الوطن العربي، المتمثل في سيادة أنماط الوعي ما قبل العلمي في المجتمع العربي على جميع الصعد، بما في ذلك صعيد النخب السياسية والأكاديمية والثقافية والاقتصادية، وقلما تتطرق إلى سبل حل هذا المشكل بتحديث الوعي السائد وعقلنته وتفكيك لا عقل الثورة المضادة، الذي هيمن على الثقافة العربية منذ العصر الوسيط (هشام غصيب، 2010)، مع أن هذا المشكل يلقي بضلاله الكثيفة على جميع البنى الاجتماعية، بما في ذلك البيئة الاقتصادية والبنية السياسية والبنية الإدارية. فضعف مخصصات البحث العلمي العربية وانعدام المؤسسية والحرية والإدارة غير الرشيدة لا تنبع من فراغ، وإنما تنبثق من غابة خانقة من الإشكالات الثقافية المتشابكة. وتعد هذه الورقة مدخلاً أولياً لهذا الموضوع المتشابك والمعقد ومحاولة أولية للنفاذ إلى مجاهله وفضاءاته الضبابية والمعكرة. وهي تؤكد على محورية مشكلة الوعي، المشكل الثقافي الرئيسي، في وطننا العربي. كما إنها تفصل المعالم الرئيسية لمشروع الثقافة العلمية الهادف إلى بناء الوعي العلمي العربي في سياق تفكيك لا عقل الثورة المضادة، والذي ناء بكلكله على الثقافة العربية ردحاً طويلاً من الزمن، أي ذلك المشروع الهادف إلى بناء ثقافة البحث العلمي قاعدة لصناعة معرفة عربية فاعلة ومؤثرة عربياً وعالمياً. وستعمد هذه الورقة إلى استخلاص معالم هذا المشروع من تصور تاريخاني معين للعلم بوصفه مشروعا ثقافياً تاريخياً.
ونأمل في أن تشكل هذه الدراسة خطوة على درب فهم أعمق للأساس الثقافي للتخلف العربي في سياق تجاوز هذا التخلف وعودة امتنا إلى التاريخ.
العلم بوصفه ثقافة
لكي أتكلم عن الثقافة العلمية، فلا بد أن أتكلم أولاً عن العلم بوصفه ثقافة، بوصفه مشروعاً ثقافياً تاريخياً. وعندما أقول إنه مشروع ثقافي، فإني أعني أنه لا يعرف بدلالة معرفة موضوعه فقط، وإنما يعرف أيضا بوصفه وعياً اجتماعياً وقوة محركة للمجتمع والتاريخ. وعندما أقول إنه مشروع تاريخي، فإني أعني أنه نشأ أو ولد في لحظة أو لحظات تاريخية معينة، ونما وتطور في سيرورة أو سيرورات معينة، وتراجع في لحظات أخرى، وربما ذبل ومات أو اندثر في حقب بكاملها. إن العلم عضوية ثقافية تاريخية تنبع من قلب التاريخ بوصفها قوة تغيير رئيسية.(هشام غصيب، 1993؛ هشام غصيب،2004).
وسأركز في هذه المداخلة على علم الطبيعة أو ما يسمى أحياًنا العلم الدقيق Exact Science . وأعني بذلك ذلك العلم الذي يبني المعرفة بصدد الطبيعة بنمط معين من التنظير المريّض، تدخل الرياضيات في جوهر تعريفاته وآلياته وعلائقه، ويكون قابلاً لأن يترجم إلى قياسات وتجارب دقيقة. إنه العلم الذي يشتغل بالكميات الفيزيائية الدقيقة وعليها ويرتبط فيه التنظير المريّض بالقياس المقداري الدقيق.
وبهذا المعنى، فقد نشأ أول علم طبيعي دقيق في التاريخ في بابل العراقية حوالي عام 500 ق.م. ((Neugebauer,1969;Aaboe,2001. إنه علم الفلك البابلي الذي اقترن فيه التحليل الرقمي المحكم بالرصد المنهجي الدقيق. وقد دام هذا العلم بضعة قرون ثم تلاشى واندثر. وفي القرن الثاني قبل الميلاد، نشأ تقليد علمي دقيق آخر في علم الفلك لدى الإغريق كان عماده طرائق الهندسة البرهانيةGeometry . (Neugebauer,2004;Aaboe,2001; Sarton,1987). وقد وصل هذا التقليد أوجه في الفلكي المصري اليوناني بطلميوس في القرن الثاني الميلادي. (Ptolemy, 1978). وقد تراجع هذا العلم في العالم الإغريقي، إلا أنه انتقل إلى الحضارة العربية الإسلامية، فوجد هناك تربة خصبة لاستئناف مسيرته. .(Saliba, 2007)بل إنه حقق انعطافة جديدة أوصلته إلى ذرى جديدة على أيدي الحسن بن الهيثم ومؤيد الدين العرضي وقطب الدين الشيرازي والطوسي وابن الشاطر وغيرهم. (Saliba, 1994). ومن جهة أخرى، فقد حول الكندي وابن سهل والحسن بن الهيثم دراسة الضوء إلى علم دقيق بالمعنى الذي سبق طرحه. (راشد،2003).
وهذا يعني أن العلم الدقيق لم يبدأ في الحضارة الأوروبية الحديثة، وإنما بدأ في حضارات شرقي المتوسط والحضارات الشرقية القديمة. لكنه نشأ هناك على شكل جيوب في بحر متلاطم من المناهج العرفانية والغنوصية والفلسفية. وظلت هذه الجيوب معزولة ومهمشة وعرضة للانكماش والزوال. وترك ذلك أثره البين على وضع العلم وطبيعته وحجم قطاعه وأثره العام. فقد ظل القطاع العلمي محدوداً جداً وصغيراً من حيث عدد العاملين وحجم الاستثمار فيه وأثره على الاقتصاد والوعي والثقافة مقارنة بالقطاعات الأخرى العسكرية والتجارية والزراعية والملاحية والحرفية. وكان تنظيمه أقرب إلى تنظيم الحرف. كما إنه كان ملحقا بالمؤسسة الدينية والسياسية. (غصيب،2010).
ولئن أطفئت هذه البؤر العلمية في الشرق وصفي العقل النظري في حضارتنا، فإن مضمونها انتقل إلى أوروبا، ووجد هناك التربة المناسبة في القرنين السادس عشر والسابع عشر لكي تنمو هذه البؤر وتتسع أسياً فتقوض أركان المناهج المعرفية القديمة الفلسفية والعرفانية وتحل محلها تماماً على صورة تيار حضاري عارم وجارف. (Barbour, 2001). وقد أثمرت هذه الأحداث الساخنة، في القرن السابع عشر تحديداً، مشروعاً حضارياً جديداً، ارتبط بصورة خاصة باسم غاليليو غاليلي الإيطالي،
(Machamer,1999)، واسحق نيوتن الإنجليزي،(Cohen, 1983)، وانطلق هادراً مذاك لكي يحتل مركز الصدارة في الثقافة الحديثة، بل وفي الاقتصاد الحديث. فما هو جوهر هذا المشروع الغاليلي النيوتني؟ وكيف غير من شكل العلم ومكانته وتنظيمه؟
إن أساس هذا المشروع هو النظر إلى الطبيعة على أنها نظام فيزيائي لانهائي يتكون من عدد لانهائي من الأنظمة الفيزيائية التي تتفاعل معاً داخلياً وخارجياً بطرائق متنوعة. وتحكم هذه التفاعلات والأنظمة علائق خاصة بين الكميات الفيزيائية تسمى قوانين الطبيعة. وتتحدد هذه الكميات بالتمثيلات الرياضية والقياس الدقيق. بذلك دشن غاليليو مشروع العلم الحديث والذي يتمثل في البحث عن الكمياًت الفيزييائية اللازمة لوصف الأنظمة الفيزيائية وتحديدها بالرياضيات والقياس الدقيق واكتشاف شبكة العلائق الرياضية بينها. وحقن نيوتن هذه الشبكة بعلم الحسبان Calculus محولا إياها إلى ماكنة فعالة لإنتاج المعرفة من عدد محدود من البيانات. (Cohen, 1983).وقد أعطى هذا المشروع زخما هائلاً لإنتاج المعرفة والتقانة المتسارعة التطور والحاجات الجديدة المحركة للاقتصاد والاجتماع، الأمر الذي حول إنتاج المعرفة في الحقبة الحديثة إلى أكبر صناعة في العالم الحديث من حيث عدد العاملين وحجم الاستثمارات فيها.(غصيب،2010). فلئن كان العلم في الحضارات القديمة مجرد جيوب معزولة مهمشة اقتصادياً وثقافياً وملحقة بغيرها وحرفية التنظيم، أضحى صناعة كبرى ذات استقلالية ذاتية وذات فاعلية فائقة في تحريك الاقتصاد والثقافة العالمين.
لقد أضحى هذا المشروع الثقافي الكبير قوة جبارة طاغية ومحوراً جوهرياً من محاور الحياًة المعاصرة. وسواء أعجبتنا طرائقه وأسسه ونتائجه أو لم تعجبنا، فإنه لا مجال لإغفاله أو صرف النظر عنه، وإلا فاتنا قطار التاريخ ودب الوهن في أوصال أمتنا وعرضها إلى الهزيمة والاستغلال والعبودية والتفكيك. لذلك فلا مفرّ للأمم المفوتة، كالأمة العربية، من السعي إلى تملك العلم بوصفه مشروعا ثقافياً بركانياً، إلى تملك مشروع العلم الحديث، الذي دشنه غاليليو ونيوتن. لكن لهذا التملك استحقاقاته السياسية والاقتصادية والثقافية. إن تملكه لهو مشروع تغييري شامل على جميع الصعد. والسؤال هو: كيف نتملك هذا المشروع ؟ كيف ننشئ صناعة معرفة عربية ترفد المجتمع العربي وصناعة المعرفة العالمية بزخم واقتدار؟
مشروع الثقافة العلمية
إن نقطة الانطلاق في تملك هذا المشروع لهي تملكه فكرياً، أي إدراك كنهه وأرضيته ومنطقه وآلياته وبناء وعي جمعي مدرك لذلك كله. علينا أن نستوعب هذه الظاهرة التاريخية الخطيرة إدراكا معمقاً وأن نحول هذا الإدراك إلى ثقافة ووعي جمعي. علينا أن نحدث الوعي الجمعي العربي بهذا الإدراك وهذه الثقافة وأن نعده من أجل تنمية المجتمع العربي على أساس مشروع العلم الحديث. إن التنمية الاجتماعية من دون وعي جمعي محدث كالجسد من دون روح. فكل الموارد والرساميل والوصفات الاقتصادية الجاهزة لا تجدي نفعا من دون تحديث الوعي على أساس العلم. إن إدراك المشروع العلمي بوصفه مشروعا ثقافياً تنموياً شاملاً يرتكز إلى قواعد صلبة وتحويله إلى ثقافة ووعي جمعي لهو نقطة البداية. وهذا بالضبط ما نعنيه بمشروع الثقافة العلمية.
وقد جرت محاولات متعددة لكن متفرقة لتدشين هذا المشروع في عصر النهضة العربية، لكنها ظلت محاولات فردية متفرقة فتبددت من دون أن تتحول إلى تيار مؤسسي جارف. واستمرت هذه المحاولات من جانب بعض الأنظمة القومية وبعض جماعات المجتمع الأهلي، ولكن بصورة متناقضة ومتقطعة. وما زالت الأمة تتخبط في سعيها إلى تحقيقه. إننا لم نشهد حتى الآن جدية منهجية متنامية في تنفيذه على جميع صعد حياًتنا. ولا شك أن هذا الإخفاق يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإخفاقنا التاريخي في تملك الحداثة وتحقيق التنمية والعودة إلى التاريخ.(غصيب،أكتوبر 2010). ذلك أني أعتبر مشروع الثقافة العلمية كما وصفته لتوي مهمة أساسية من مهمات النهوض العربي المرغوب.
وفي ضوء هذا التحليل أتساءل عن الغايات التفصيلية لهذا المشروع. وارتكازاً إليه وإلى تجربتي الشخصية في مجال الثقافة العلمية،(غصيب،1992)، أجمل هذه الغايات كالآتي:
1- تفجير الكوامن التعبيرية الثرة في لغتنا العريقة، لغة الضاد. (غصيب،1992).
2- إتقان فن الاستعمال المعبر الدقيق للغتنا العربية وإزالة ما علق فيها من غبار الركود والتخلف التاريخي والاستبداد والسبات الحضاري.
3- إبراز العلم بوصفه فكراً وثقافة وإنتاجاً اجتماعياً رفيعا، أي إبراز المنطويات الاجتماعية والفكرية للعلم والكيفية التي تركب بها النظرياًت والمفهومات العلمية وتختبر بها الأفكار العلمية.(غصيب،1993؛غصيب 2004).
4- إبراز العقلانية العلمية التي تشكل المرجعية الأساسية للممارسات العلمية، وبياًن جوهرها المتمثل في العلاقة الجدلية بين النظرية المريّضة والقياًس المقداري الدقيق، وبيان أن العلم لا يعتمد أساساً له سوى العقل العلمي. (غصيب،2010).
5- إبراز أدوات الممارسة العلمية ومعناها وشرعيتها، مثل الاستنتاج والاستقراء والاشتقاق والتركيب الجدلي والاختبار العملي والاختبار المخيالي والنقد والملاحظة الذكية. وأعني بالاستقراء فن التعميم السليم. أما التركيب الجدلي فهو بناء المفهومات الجديدة عبر حل التناقضات القائمة بين المفهومات القديمة. وأعني بالاختبار المخيالي تصور حالات تجريدية مثالية لاختبار الأفكار ومعقوليتها. وأعني بالنقد تفكيك الأفكار وبيان حدودها وتناقضاتها وبناها الداخلية وعلائقها. وأعني بالملاحظة الذكية قراءة الحقائق الكبرى في الفروق المقدارية الصغيرة، مثل قراءة حقيقة كروية الأرض ومقدار محيطها من ملاحظة الفرق الصغير في زاوية الظل بين الإسكندرية وأسوان في مصر، وملاحظة أن الحركة الدائرية هي نوع من السقوط الحر. (غصيب،2010).
6- إبراز الأفكار العلمية الثورية وتحدياتها الفكرية وأصولها الفكرية والتجريبية، كفكرة التطور في البيولوجيا وفكرة الزمكان في النسبية وفكرة اللاتحديد في ميكانيك الكم.
7- إبراز المنطوياًت الفلسفية للممارسة العلمية . (غصيب،2004).
8- إبراز طبيعة الإنتاج العلمي وكيف يشتغل العلماء إبداعياً على موروثهم العلمي وبه من أجل تطويره، وأن عملية الخلق العلمي تفترض تأهيلا صارما للعالم مثل: إلمامه العميق بمورثه العلمي وأدواته ومواكبة آخر التطورات في الإنتاج العلمي والالتزام الأخلاقي والوجداني بالعمل العلمي. (غصيب،1993؛غصيب،2010).
خاتمة
ولعل المثال الأكبر في التاريخ على مشروع الثقافة العلمية بالمعنى المفصل أعلاه هو المشروع الذي نفذه فلاسفة التنوير في فرنسا في القرن الثامن عشر. وأخص بالذكر فولتير، الذي فرنس فيزياء نيوتن، ولامتري، وديدرو، صاحب الموسوعة العلمية الشهيرة. إذ أدرك أولئك الفلاسفة الأفذاذ التحدي الذي فرضه عليهم مشروع غاليليو – نيوتن، فابتكروا مشروع الثقافة العلمية من أجل تملكه، الأمر الذي ساهم لاحقا في تكوين وعي الثورة الفرنسية الكبرى.
إني أدعو القوى النهضوية الحية في أمتنا إلى تبنى مشروع الثقافة العلمية بوصفه مهمة أساسية من مهمات النهوض العربي وأداة في تملك العلم بوصفه صناعة وثقافة.
المراجع
Aaboe, A. (2001). Episodes from the early history of astronomy. Springer. 1.
Barbour, J. (2001). The discovery of dynamics. Oxford. 2.
Cohen, I.B.(1983). The Newtonian revolution. Cambridge, England. 3.
Ghassib, H. , (2010). Where does creativity fit into a productivist industrial model of knowledge production? Gifted and Talented Education international, 25(1), 13-19. 4.
Machamer, P(ed.)(1998). Galileo. Cambridge, England.
5.
Neugebauer, O. (1969). The exact sciences in antiquity. Dover.
6.
Ptolemy, (1978). The Almajest. (Translator: Taliaferro,R.). Great books of the western world, vol.16, Chicago. 7.
Saliba, G. (1994). A history of Arabic astronomy. New York. 8.
Saliba, G. (2007). Islamic science and the making of the European Renaissance. MIT press. 9.
Sarton, G.(1987). Hellensitic science and culture in the last three centuries BC. Dover. 10.
رشدي راشد (2003). علم المناظر وعلم انعكاس الضوء. بيروت. 11.
هشام غصيب (1992). جدل الوعي العلمي. عمان ، الأردن. 12.
هشام غصيب (1993). دراسات في تاريخية العلم. عمان ، الأردن. 13.
هشام غصيب (2004). نقد العقل الجدلي. عمان ، الأردن. 14.
هشام غصيب (أكتوبر 2010). نحن وتملك الحداثة. المجلة الثقافية، الجامعة الأردنية. العدد (78). 38-43. 15.
هشام غصيب (2010). الإبداع في صناعة المعرفة. محاضرة بدعوة من مؤتمر " التميز في التعليم"، الجامعة الأردنية. 16.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.