وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الامارات .. الشينة منكورة    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بمناسبة اليوم العالمي للمتاحف، ونحو حساسية تشكيلية..متحف السودان القومي أم متحف الفن السوداني القديم؟!
نشر في حريات يوم 27 - 07 - 2011

في التاسع عشر من شهر مايو الماضى, إحتفل العالم المتحضر باليوم العالمي للمتاحف . بهذه المناسبة، نزف التحية والتهنئة لكل العاملين في المتاحف، وكل المتحفيين في سائر أنحاء العالم ونستميحهم العذر على التهنئة المتأخرة، ونحني هاماتنا تقديرا وإجلالا، لمن يرجع لهم الفضل في إنشاء المتاحف – كل المتاحف – في بلادنا، من سودانيين وأجانب وعلى إختلاف أنواعها وإختلاف جنسياتهم، وعظيم إمتناننا للحادبين المخلصين من القائمين على إدارات المتاحف السودانية، لما يقومون به من دور وطني كبير، في صون وحماية وترويج تراثنا الفني المادي العظيم، وعلى أسس تقوم على العلم والخبرة، وعلى قدر إمكاناتهم ومواردهم المتاحة.
قد يتوقع القارئ – لهذا المقال- حديثا يُعرف بالمتاحف أو بمتحف معين؛ كمتحف السودان القومي؛ دوره وطبيعة عمله؛ إلا انني في – واقع الأمر- أرمي إلى غير ذلك، وما هو وارد تلخيصه أعلاه؛ في صيغة عنوان المقال الذي دفعني لكتابته، إعتقادي بأن لهذا الموضوع أهمية كبيرة تستحق الإهتمام، ولا أخفي عليكم أنه شغلني كثيرا و بحكم تخصصي في مجال وثيق الصلة بنوع وطبيعة ما تحويه المتاحف، ولا سيما متحفنا المذكور، وأعتقد أنه يمثل قضية تهمنا جميعا كسودانيين، لذا إستوجب مني الأمر إثارته وطرحه للتفاكر والنقاش، أما من شأنه التعريف بماهية المتاحف، دورها ، طبيعة عملها ونظامها، فهو أمر متروك لذوي الإختصاص من المتحفيين ولمساهماتهم المتوفرة في دوريات المتاحف ومجلاتها المعروفة.
إن مقالي في الواقع، يهدف إلى توطين تراثنا الثقافي الفني المادي وتجذيره في أذهانا وعقلنا الجمعي، وذلك بداية من المطالبة بإعادة النظر وإطلاق المسميات أو الأسماء الصحيحة على مؤسسات شعبنا الثقافية وعلى منجزاته التاريخية المبدعة، وعل ذلك يساعد في الإنتباه إلى فضاءات الثقافة السودانية العريضة وفنونها الذاخرة المتعددة وبخاصة فنونها المادية، ذلك الفضاء الذي يجد فيه الجميع أنفسهم، وبكل حقبه التاريخية .
ولكن .. هنالك ثمة معيقات تعترض ذلك، نلخصها في بضعة ملاحظات ؛ مضمونها يتمثل في بعض الوقائع والحقائق التى أعتقد أنها تقف حجر عثرة في طريقنا – كسودانيين – وتمنعنا من لوج فضاءات تراثنا الذاخر هذا، وهي:
عدم فض الإشتباك ما بين حضارات وادي النيل – في السودان ومصر – والخلط ما بينها في مناهج ودراسات تاريخ الفن ومقرراته في معظم الكليات ذات الصلة، في معظم أنحاء العالم، والتي تركز فقط على الإنجازات الفنية المادية التي تمت شمال الوداي، بل يري واضعوها أن التاريخ الحضاري القديم للسودان، هو ظل وإمتداد للتاريخ الحضاري المصري، في حين أن حقائق التاريخ وكثير من الأدلة المادية تؤكد خلاف ذلك .
نظام التعليم الحديث الذي خططه ووضعه المستعمر والذي على كنفه تربى أجيال من الخريجين ممن تسنموا قيادة العمل السياسي والإداري فيما بعد الإستقلال, يلاحظ في مناهجه, ومقرراته, الإستبعاد التام لكل ما يربط السودانيين بتاريخهم, وماضيهم الحضاري القديم, بل غياب ذلك التاريخ وذلك الماضى .
الغريب في الأمر أن هذا الإستبعاد، تم حتى في مناهج ومقررات مؤسسات التعليم ذات الصلة الوثيقة بهذا النوع من الدراسة، ككليات الفنون؛ والهندسة؛ والمعمار؛ والتاريخ؛ والآداب !
أنظمة التعليم الوطنية المختلفة (من الإستقلال وإلي الآن ) نجدها سارت على نفس نهج الإستبعاد والغياب المذكورين !!
ضعف وندرة مساهمة المتخصصين السودانيين في التوثيق؛ والكتابة؛ والتأريخ في مجال الفنون المادية السودانية القديمة ( ومن منظور تشكيلي ) .
إفتقار المنهج التعليمي في المدارس, لما يُعرف, ويربط الأطفال والتلاميذ بتاريخهم الحضاري القديم، وعدم إعتبار ذلك هوالأساس العميق للتربية الوطنية ولبث الشعور بالإعتزاز والإنتماء في نفوس النشء .
إلغاء دروس وحصص الفنون بالمدارس؛ وغياب الدراسة والتربية الفنية العملية المبكرة للنشء؛ والتي تهدف فلسفتها إلى ربط مايقوم به عمليا, بكل ما يراه : في الحاضر؛ وفي إنجازات الماضي, وإدراك الرابط بينهما, وهذا إلى جانب ضعف الإهتمام بتنمية القدرات والمواهب، وتوقف التدريب والتأهيل في مجال الحرف والمهن ذات الطبيعة التشكيلية؛ مما ترتب عليه إندثار الكثير منها .
ضعف الأداء الإعلامي؛ وعدم قدرته؛ وقصوره في تعريف المواطن السوداني بماضيه وتاريخه الحضاري العظيم؛ وبخاصة فنوننا المادية القديمة .
ضعف العمل السياحي؛ قياسا بإمكانات السودان التراثية والحضارية؛ وبالرغم من ثرائها المتنوع بالموارد البشرية؛ والثقافية؛ والطبيعية؛ التي يتطلب إستثمارها : رؤية عميقة؛ وفكر خلاق مدرك لهذه الإمكانات الزاخرة؛ وله القدرة على تفجير طاقاتها الهائلة .
ضعف تمويل المشاريع الكبيرة للعمل الآثاري والمتحفي ومتطلباته؛ في التنقيب؛ والصون؛ والحماية؛ والترويج .
عدم أخذ القضايا الآنفة الذكر مأخذ الجد، بل ينظر إليها – دائما- كأمر أو أمور ثانوية؛ ليست من أولويات التنمية البشرية والإجتماعية، رغم أن الإنسان هو مورد التنمية الأول وهو المستهدف بها في ذات الوقت، ولعل في تلك النظرة نجد ما يفسر فشل وتقصير المتخصصين أو المختصين – من خبراء ومستشارين ثقافيين – في حمل السلطات التنفيذية الرسمية – وعلى مر أنظمة الحكم في بلادنا – على تبني مشروع مؤسسي ثقافي كبير (وبحجم ضخامة تراثنا ) وتكون أهدافه : صون؛ وترويج هذا التراث الفني المادي القديم؛ وعلى أساس من العلم والخبرة؛ والفاعلية المرجوة؛ التي تهدف الي تعريف وتوعية المواطن السوداني بتراثه الحضاري العظيم .
على مدى الثلاث عقود الأولي التي تلت تأسيس معهد بخت الرضا عام 1935م؛ ومن ثم كلية غردون التذكارية في أربعينيات القرن الماضي؛ وفي ما يعرف بنشأة التعليم الحديث؛ وحيث كانت اللغة الانجليزية – وكما هو معروف – هي اللغة الأساسية للدراسة والتعليم، علي مدي هذه العقود؛ ظلت الأجيال المتعاقبة لخريجينا من ذوي التخصصات المختلفة، تتمتع بقدر لا بأس به من المعرفة بالتاريخ والثقافة العالمية، والأوروبية منها بوجه خاص، في مجالاتها المختلفة وفي أزمنتها القديمة والحديثة، وذلك بحكم تعلم وإجادة لغة –ثانية – كاللغة الإنجليزية التي وسع إنتشارها بإتساع ( الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس )، مما أحدث وفرة كبيرة في مصادر الإطلاع؛ الأمر الذي لم يكن متاحا لهؤلاء المنتسبين الجدد لهذه الثقافة؛ ولا لغيرهم من قبل، مما أتاح – بطبيعة الحال- إمكانية توسيع آفاق المعرفة؛ لكل من حالفه الحظ في الإلتحاق بهذه المؤسسات الجديدة؛ والتعلم بلغتها، وما أفضي أيضا إلى تحقيق فرصة سانحة – لمن يلتقطها – لتحقيق قدر ما, من سعة الأفق؛ والتحلي بنظر ثاقب, ما بوسعه أن يساعد في الإفلات من حدود أهداف ذلك النظام التعليمي, الذي كان في غاياته القصوى، يخدم مصالح مؤسسية الأجانب و ثقافتهم .
لكن الغريب في الأمر – ومما يؤسف له – أن معظم الذين واتتهم فرصة الإفلات هذه؛ لم يفلحوا في إلتقاطها وتوظيفها -خارج المخطط الثقافي التعليمي المرسوم بدقة- بتوجيه أنظارهم وبصائرهم نحو المستويين الثقافيين, الإقليمي والمحلي؛ أي توجيهها إلى تاريخ الثقافة الأفريقية؛ وإلي المعرفة بالتاريخ الحضاري القديم لبلادنا التي ننتمي لها !، لكن ما هو أغرب والي درجة محيرة، هو كف البصر والبصيرة (تماما) عن التاريخ الحضاري القديم لبلادنا وبخاصة منجزاتنا التاريخية (الثقافية) العظيمة ,الأكثر قدما, ومن جنس الفنون المادية, أو ما يعرف بفنون التشكيل، مما ترتب عليه غيابها عن وعينا؛ وعدم إدراك قيمتها وأهميتها, وهذا فضلا عن عدم إدراك جوهرها التشكيلي؛ فما أفدحه من جهل؛ وغياب؛ وتغييب؛ حينما يصيب المتعلمين، والطليعة المثقفة !
لهذا ليس بغريب أن تضعف لدي هؤلاء المتعلمين : الرؤية السليمة؛ وأن يضعف إبصارهم للخيط الرابط بين حلقات تاريخ الثقافة الفنية المادية في بلادنا؛ وهنا تحضرني دعوة بعض الأصوات –قبل حوالي سبعة أعوام- وتناديها لإنشاء متحف للفن التشكيلي السوداني الحديث؛ وهي كانت بلا شك – دعوة ومبادرة عظيمة، لكن فات على أصحابها أن يسألوا أنفسهم : أين إذن فننا التشكيلي السوداني القديم ؟ وأين متحفه ؟ بل كان الأجدر بهم أولا : العمل علي تأسيس ذاك (القديم)، قبل هذا (الحديث) ولعدة أسباب موضوعية ومنطقية .
لذلك ليس بمستغرب أن يفتقر غير التشكيليين، للمعرفة والإدراك العميق فيما يخص المنجز التشكيلي القديم، قيمته، وصلة قرابته الثقافية بما يليه (أي المنجزالحديث)، والذي لا ينفصل عن المنجز الثقافي الأقدم تاريخا، أي جنس الفنون المادية (التشكيلية) القديمة؛ ليفضي الأمر وفي محصلته النهائية – لدي غالبية الناس- إلى نوع من الإهتمام الشكلي الفاقد للفهم العميق (أي عدم الإهتمام المطلوب) الذي نجده ملازما للواقع التشكيلي في السودان؛ ومنذ نشأة حركته الحديثة في الربع الأول من القرن الماضي؛ كما هو ليس غريبا أن يعاني عامة الناس من الأمية المعرفية التشكيلية؛ والتي منها ما يتعلق بتراثنا القديم، وخاصة إذا علمنا أن الذين أطلقوا الدعوة والمبادرة – الآنفة الذكر- كانوا من كبار الفنانين التشكيليين، ومن صفوة أهل التخصص !
وليس بغريب إذن, أن تطال (الجميع) إشكالية التغييب الثقافي، بل وتلقي بظلها المعتم على كل دعاوي ومشاريع التنمية وبناء الإنسان السوداني؛ التي نجدها لا تولي جانب الثقافة الإهتمام المطلوب، بل ليست من أولوياتها. بل نجدها تفتقر لرؤية عميقة ثاقبة، بسبب عجزها عن إبصار الناظم- الثقافي- الذي يصل الحاضر بالماضي والذي تشكل فنوننا المادية ( التشكيلية ) نسيجه الأساسي .
ولعل منشأ هذه الإشكالية نابع من نظرة الإستعلاء المزدرية لكل ما هو (شعبي) سوداني، ولكل ما هو فن نابع من مدرسة الحياة (الشعبية) السودانية؛ تلك النظرة ,المضمرة, المتخفية, التي كرسها وأزكي روحها المستعلية, نظام التعليم الوافد؛ المصمم بمكروحنكة؛ مكره في تغييب (المعرفة بتراثنا التشكيلي القديم ) وغضه النظرعن إنقطاعنا الطويل عن هذا التراث؛ وحنكته في أنه (أتي ليعمربلادنا بمعارف حضارته الأوروبية الحديثة) والتي منها وضعه منهجا ( مستزرعا ) لدراسة وتعليم الفنون في بلاد السودان، وبدون دراسة تاريخ فنون هذه البلاد ! وهذا ما نلمسه في إفتقارمناهج ذلك النظام التعليمي لمقررات دراسة تاريخ الحضارات السودانية وفنونها التشكيلية القديمة، وأضف إلي ذلك عدم إهتمامه بفنون الصناعات الصغرى والحرف التقليدية السودانية ذات الطبيعة التشكيلية، مما أدي إلى خلق فجوة كبيرة قوامها عدم وفراغ –هائل– من كل ما هو تراثي، ثقافي، سودانوي، في معارف معظم الطلاب السودانيين ولا سيما دارسي الفنون منهم، ممن حظوا بالدراسة في ظل ذلك النظام التعليمي –الآنف الذكر- وهذا الحال إن لم يكن قائما إلي الآن, فإن آثاره لاتزال باقية _وعلي مدى أجيال_ في ما أسفر عنه, من ضعف وإهتزاز وتشويش في الشعور الإيجابي، المفترض، بهوية ثقافية سودانية، أصلها ضارب بجذوره في أعماق التاريخ! الأمرالذي أدي –بطبيعة الحال- لفقدان الطاقة الشعورية, الديناميكية, المحفزة لما يمكن أن نسميه بالإعتزار الإيجابي بالهوية، الباعث للثقة في النفس، وللأمل، ولمشاعر التفاؤل، والإنتماء، والإخلاص في العمل، الذي يصلح حال العباد والبلاد، ومن شأنه أن يدفع للأمام، ولكن ترتب على هذا الحال ( المايل ) خطل في فهم الحاضر وإستشراف خاطئ للمستقبل، بسبب الجهل، والإستخفاف بمنجزات الماضي الخلاقة، والذي له تأثيره في إضعاف الحس الوطني وروح الإنتماء للأرض السودانية، ويحضرني –في هذا الصدد- ما أفادنا به الأستاذ والفنان التشكيلي ابراهيم الصلحي من حديث, فحواه : أنه في زيارة له للصين وضمن وفد رسمي ؛ طلب أن يقوم بزيارة إحدي كليات الفنون بالعاصمة بكين, وقد كان؛ ويقول أنه بعد أن قام بجولته في تلك الكلية طرح عليهم سؤالا, عن ماهية شروط قبول الطلاب للإلتحاق بهذه الكلية؛ وكان ردهم؛ أنه علي الطالب المتقدم أن يمضي عامين أو أكثر في التلمذة علي يدي حرفي ( صنايعي ) لتعلم أيا من الحرف الصينية الشعبية التقليدية, ولا يتم قبوله في تلك الكلية إلا بعد أن يجيزه معلم الحرفة المعينة؛ أي بعد أن يشهد بإجادة الطالب للحرفة التي إختارها, فتأملوا ماذا يعلمون طلابهم دارسى الفنون التشكيلية. هذا ما يقوم به الصينيون, ولعل آخرون غيرهم يفعلون نفس الشئ تجاه طلابهم, وتجاه تراثهم, وذلك الناظم الذي يربط هوية الفنان المعاصرة بتراث بلاده القديم .
لا جدال في أن الغد والمستقبل بالنسبة لنا كسودانيين؛ سيكونان أفضل بقدر ما إستطعنا معرفة وفهم إبداع ما كان بالأمس والماضي، الذي كان يتصف بمثل تلك العظمة الممثلة في تراثنا الفني المادي؛ وفي جوهرروائعه, الجمالي, التشكيلي؛ وتجلياته العديدة؛ في الرسم؛ والنحت؛ والعمارة؛ والخزف؛ والحلي؛ والآلات بأنواعها؛ وغيره مما يتجلي في كثير من الصنائع والحرف التقليدية ذات الطبيعة التشكيلية ؛ جوهره المغيب عن الأذهان, ومظهره الغائب عن (خلاوينا, رياض أطفالنا, مدارسنا، كلياتنا) وغياب تأثيره عن شتى فضاءات الأمكنة في بلادنا (مبانينا الدينية والسكنية؛ أسواقنا، ومياديننا، وشوارعنا) والمغيب عن أذهاننا؛ فتأملوا .
إن أي قراءة جائرة، تزيف أو تطمس تاريخ الثقافة المادية في بلادنا ومن مظان تنسب نشأة النشاط التشكيلي في السودان للعهد الكولونيالي الفيكتوري، ما هي إلا محض إفتراء وضرب من الظلم والإنكار المقيت الذي يتوجب علينا أن نشهر في وجهه أسنة الحقائق التاريخية حتى يتم تغيير (نظرية الفن!) الإستعمارية المختلة هذه، التي صممت خصيصا لناspecially designed for Sudan وليس لدينا فيها أية مصلحة, (بل العكس تماما), وذلك لأن فعل التشكيل في السودان وبمفهومه الواسع وممارسته في مجالاته وأجناسه المتعددة, أمرعرفه أسلافنا منذ آلاف السنين, وأبدعوا في ممارسته ذات الطابع والأساليب والطرز السودانية, المميزة, المعروفة, والماثلة في ما هو موجود حاليا بمتاحفنا ومتاحف غيرنا خارج السودان ك(المتحف المصري، اللوفر، الإرمتاج، … الخ ) وفي مواقع آثارنا, وصناعاتنا الصغرى واليدوية ؛ المتداولة والمتوارثة ؛ وكما أسلفنا .
إن تفرد التشكيل السوداني وخصوصيته – الممتدة عبر التاريخ- وظاهرته الثقافية الإستثنائية (المعاصرة) ورغم البؤس (البصري) المحيط بحياة الناس من كل جانب, أمر له ما يفسره, ويقود للإعتقاد بحقيقة وجود- لا قوي خفية – بل وجود خبرات متوارثة- وفي ظني -أيضا- وجود ثمة جينات؛ تتعلق بالخاصية الإبداعية؛ وبالذاكرة البصرية؛ يتم إنتقالها ووراثتها من أسلافنا المبدعين (التشكيليين)، (نحاتي) الصخور, (بناة) الأهرامات و(رسامي) القبوروالمعابد والكنائس، من الصناع (الشعبيين)؛ وعلى الأرجح أن هذه الجينات إنتقلت من جيل إلى جيل، ثم إنداحت وتفرقت بين أخلاف السودانيين القدماء, أي بين مختلف المجموعات السكانية –التي تلتها- وفي الجهات الأربع من منطقة جنوب وادي النيل التي تعرف الآن بالسودان، وربما عبرت خبراتها, أو عبر حاملوها هذه الحدود إلى أماكن أخرى بعيدة، فان لم يكن ذلك كذلك، ما الذي يفسر – ياتري – دأب السودانيين المتنامي وحرصهم على الإمساك بهذا الإهتمام الأصيل بالتشكيل, ورغم كل الظروف المعيقة, وغياب الرعاية, والدعم المؤسسي الرسمي المطلوب . هذا الإهتمام الذي نجد أبلغ صوره وعلى مدي قرون عديدة – وكأي شعب له حضارة- على مستوي الممارسة الشعبية المتصلة لكثير من الصنائع والحرف, التي ترجع في أصولها الى حضارة لها مميزاتها وخصوصيتها، كما نجد ذلك في أقدم النماذج التشكيلية المصنوعة من الحجارة, والعظام, والفخار, والمعادن, والأخشاب …الخ، والدالة طبيعة المواد المحلية المصنعة منها إلى موطنها, ومنشئها، وإلى عراقة الإهتمام بفعل التشكيل في بلادنا، وهذا ما نجد أغلب شواهده – الباقية – فيما هو متوافر لدينا الآن من آثار مادية مصنعة من مواد تتصف بقدرتها على البقاء والديمومة، كالمباني, والتماثيل الضخمة والمصغرة, والأواني, والآلات, وأدوات العمل, والأسلحة, والحلي, وأدوات الزينة . ولكن هذا الدأب, وهذا الحرص المتصل, وشواهده المادية الدالة على فعل التشكيل وممارسته ومنذ آلاف السنين في بلادنا، وضمن منطقة وادي النيل، مهد أقدم الحضارات العظيمة في العالم, لم يتوقف كلية, فيما عدا ثمة إنقطاع، وضعف, وتراجع, حدث و لقرون, وأدي لتوقف ممارسة وإنتاج بعض أجناس الفن التشكيلي، كالرسم التشخيصي، والعمارة، والنحت الميداني، والتزيين الداخلي, ولعل الثلاث الأخيرة منها وبما لها من قدرة آسرة للنظر بسبب هيمنتها على الفراغ وسيطرتها النافذة على مجال الرؤية والتي لا يضاهيها – أي جنس فني آخر – في قوة تأثيرها وقدرتها على إحداث أعلي معدلات الذوق الجمالي (سلبا أو إيجابا) لدي قطاعات كبيرة من الناس، لعل إنقطاعنا عن ممارسة هذه الأجناس، وعدم إهتمامنا- اللاحق- بتدارك ذلك، هو أحد أهم الأسباب التي تفسر التراجع والتدني الكبير الذي حدث لمستويات الذوق الجمالي, وعلي نطاق واسع من الناس, وأدي بالتالي إلي ضعف الحساسية الجمالية التشكيلية, وقابليتنا للتطبع علي القبح والفوضي التشكيلية، وقبولنا لمثل ذلك الواقع الذي إنتظم المشهد البصري العام في بلادنا ، ونجده يتجلي- على أسوأ ما يكون– في فضاءاتنا (الخاوية)، والملأي بشتى صنوف الأمثلة السالبة؛ من التصاميم المتحزلقة, القبيحة؛ المنتشرة (في أسواقنا, شوارعنا، وفي ميادينا، ومدارسنا، وجامعاتنا …الخ)، في القرى والمدن، وهذا ما نجد إنعكاسه وتأثيره السالب لا على الذوق العام وحسب ، بل تاثيره _أيضا_ على بعض الجوانب الأخرى (نفسية, أخلاقية, إجتماعية) بالنسبة للإنسان الواقع تحت طائلة هذا القبح المستشري, وتلك الفوضي الضاربة باطنابها في كل مكان . وما يفسر- أيضا- حالة ضعفنا المستجد؛ وتدني المستوي الحالي للخبرة السودانية, في تلك الأجناس الثلاثة المذكورة (العمارة، النحت الميداني ذي الحجوم الضخمة، والتصميم الداخلي)، وأكثر من غيرها، وبعد ماض قديم, بعيد، كنا فيه ، بل كان فيه أسلافنا، على النقيض من ذلك !، بل يؤكد نكوصنا الحضاري –في هذا الجانب– الذي لن يملأ فجوته العميقة الإعتماد على إبداع الآخرين، أوإستجلاب الصناع المهرة، والخبرة المستوردة من الخارج (وكما السلع الإستهلاكية)، وفيما نراه نتيجة طبيعية لظاهرة تلاشى وإندثار الكثير من الحرف والمهن التقليدية السودانية، ذات الطبيعة التشكيلية، بل بل نجده أيضا سببا في فقدان الرغبة لتعلمها .
من الغريب أن يحدث هذا – الآن – وفي ذات الأرض التي عُرِفتْ – قديماً– بصناعها المجودين وبعمالها وحرفييها المهرة؛ الذين أجادوا العديد من الصناعات (التشكيلية) الدقيقة, ومثلما كانت معروفة بعمارتها المميزة, وبأناقة تزيينها للحيزات السكنية والدينية، وعظمة نحتها الميداني, وبإهراماتها الرشيقة، وتماثيلها الفخمة، ورسومات قبورها، ومعابدها, وكنائسها الجميلة، وذات البلد التي عُرِفتْ بذهبها الكثير الوفير، ونقش حليها الأخاذ، وسبك حديدها المتين، وصناعة فخارها الرقيق، والذي –وحده- يدل على الشأو البعيد الذي بلغه أسلافنا من التحضر والرقي .
لذلك, ولسد هذه الفجوة بل هذه الهوة العميقة، بين ماضينا وحاضرنا، من المهم أولا، أن نقر ونعترف بالحقيقة التي مفادها : وجود ذات الفجوة، ذات الهوة, في معارفنا ووعينا، ومن المهم أيضا أن نعيد النظر في منهج التفكير الإنتقائي؛ وذهنية الإقصاء؛ والإستبعاد؛ التي ننظر بها إلى تاريخنا؛ وتراثنا الفني المادي (التشكيلي) القديم .
لأنه.. ولأننا – وببساطة – إن كنا نروم ونصبو لمستقبل أفضل, ولنهضة إجتماعية حقيقية، فهذا لن يتأتي دون الإهتمام (الجاد) بالتاريخ الثقافي لبلادنا، وربط حاضره بماضيه، ولأنه – أيضا – من المستحيل تحقيق أي تنمية إجتماعية فاعلة؛ ودون الإهتمام بموردها الأول (الإنسان ), وبثقافته .
لذلك لا مناص, من الإعتناء بتراثنا المادي القديم؛ وبذل مزيد من الجهد؛ والحرص؛ والإهتمام ب : رصده، جمعه، وحفظه؛ وحمايته؛ وإدارته إدارة موثوقة، ومن ثم العمل على تشجيع دراسته، وتحليله، وتقييمه التقييم العلمي الذي يستحق، مع الإهتمام الجاد بكتابة (تاريخ الفن التشكيلي السوداني القديم) ورد غربته التي طالت، بإخراج مفهومه (التشكيلي) من قوالب وصناديق (مصلحة الآثار) ومأزق إقتصارها علي التصنيف العلمي والأكاديمى الآثاري، الذى حال دون النظر لهذا التراث من زاوية قيمته الجمالية، وكونه فنا تشكيليا سودانيا خالصا، وما حال -أيضا- عن رؤية ذلك الناظم (الإبداعي) التشكيلي السوداني؛ الممتد عبر الحقب والتاريخ؛ والذي بدونه لن يستقيم فهمنا لتاريخنا العام، ولن تستقيم معادلة هويتنا الثقافية، أي بدون المعرفة بهذا التراث الفني المادي، وترويجه، وتمليكه لناشئة الأجيال، لا يمكن الإستفادة الحقة من هذا التراث؛ الذي يعتبر الأقدم تاريخا، والأغزر كَمّاً، بل الأكثر أصالة وجمالاً ( إن صح التعبير ) .
ومن عجب أنه يؤرخ لنا، وللإنسانية، ونهمل – نحن- التأريخ له، ومن عجب أيضا،أنه يمنحنا قيمة ومكانة بين العالمين، وفي حين لا نمنحه – نحن أصحابه- ذات التقدير من القيمة والمكانة، بل نجهله، وتنقصنا معرفته على الوجه الصحيح، في حين ينبغي علينا المحافظة عليه؛ وعلى قيمه الجمالية وتقاليده المبدعة التي تم تغييبها من وعينا الجمعي، فتقطعت بنا السبل, وتهنا في مسارات التاريخ وتقلباته المتوالية، بفعل الغزو والإستلاب الثقافي الذي أحالنا إلى مايشبه فاقدي الإحساس بذواتهم، وهذا ما نجد أبلغ مثال له فيما (أفصح) عنه الرسام الفطري المعروف (جحا) وعبر فيه بصدق عن رأيه في آثار هذا التراث، التي يعتقد أنها مجرد حجارة، ليس له فيها كبير غرض, هذا الموقف (المفصح) عنه بأريحية جحا وصدقه المعهودين؛ وحتي لو كان ذلك ضد نفسه ويحسب عليه ! هو في الواقع ذات الموقف (المضمر) لدي الكثيرين منا؛ بل معظمنا, وحيال هذا التراث، وهو الذي أضاع، ويضيع من وعينا ومن حياتنا، كنوزا ثمينة لا تقدر بثمن، هي تراثنا الفني المادي (التشكيلي ) القديم .
فما أفدحها من خسارة، وما أفدحه من ثمن ندفعه بسبب الإنقطاع عن هذا التراث، وبسبب الإنكار والتيه الذي أفقدنا مكونا أساسيا من مكونات هويتنا الثقافية، وغيب عن ذاكراتنا تلك الإسهامات والإنجازات العظيمة التي قدمها أسلافنا للحضارة الإنسانية وللثقافة العالمية, ويستمتع بها –غيرنا– ممن يعرفونها ويدركون قيمتها الفنية والجمالية العالية، بل يجلون قدرها أكثر منا !، فهل ياتري .. نحن لسنا جديرون بمعرفة تراثنا الذاخر هذا؛ وأولي بإجلاله والإفتخار به أكثر من غيرنا ؟!
خلاصة القول ، وللتدليل على الإستلاب والتغييب، بل التيه الثقافي الذي نجم, وينجم عن ذلك؛ لا أجد ما أسوقه وأبلغ من هذين المثالين :
أولهما : غموض وخطل تسمية أكبر وأهم متاحفنا الحاوية لنماذج وأعمال مادية، (تشكيلية) سودانية، قديمة، وأعني بذلك ما يسمى ب “متحف السودان القومي” ومجافاتها للدقة العلمية المطلوبة في إختيار الإسم المناسب لمثل هذا الصرح الهام، وبحيث تقابل عبارة (العنوان) أي الإسم، كُنه (الموضوع)، أي ما يحتوي عليه المتحف من معروضات وفي تطابق يعبر عنها من الوهلة الأولي لقراءة الإسم، لكننا- في الواقع – وبسبب غموضه وضبابيته المموهة للمعنى، نجده غير دال على الأعمال المعروضة فيه، كما نجده يطمس هذه الدلالة بل مغيبا لهوية ما هو معروض من أعمال (فنية تشكيلية) . وإذا نظرنا للإسم في قراءة سريعة, أو تأملناه في قراءة متأنية، نجده لا يفضي إلى شيء من هذا القبيل(التشكيلي)؛ بل نجده يفضي إلى متاهة من الإحتمالات التي قد تطرأ بذهن القارئ, أو بذهن الزائر, أو الداخل لهذا المتحف، في فهم وتصور ما هو (قومي)؛ وما سيراه بداخل هذا المبني، كأن يجد مثلا : صورا فوتوغرافية توثق للتنوع الإثني والثقافي في السودان؛ أويجد خرطا تاريخية وجغرافية توضح أقاليم السودان المختلفة, وتوزيع المجموعات السكانية فيها، أو صورا لمعدات حربية تاريخية، أو وثائقا مصورة خاصة بالحكومات السودانية المتعاقبة، أو ..أو ..الخ (هذه الأوات)، لكن الداخل لهذا المتحف وبعد قراءته للإسم الحالي “متحف السودان القومي” يجد معروضات ذات طبيعة واحدة مشتركة، من حيث النوع والأصل والقيمة التاريخية، أى يجمع بينها, لا قاسم مشترك واحد، بل ثلاث قواسم لا لبث فيها، إذ نجد، وبداية من (أكثرها سطوعا وأهمية)، أنها :
أولا: فنون مادية (تشكيلية).
ثانيا: سودانية .
ثالثا: قديمة
أي أنها أعمال وإنجازات فنية مادية، لذا فهي (تشكيلية)، ترجع وتنسب في أصلها إلى مكان معلوم، هو السودان لذا فهي (سودانية)؛ وكما يرجع إنجازها إلى أزمان سحيقة ضاربة في القدم، لذا فهي (قديمة), والأهم من ذلك أنها نتاج حضارة, بل حضارات عظيمة قامت في بلادنا، وأن هذه الحضارات السودانية- وكأي حضارة أو حضارات في العالم – تستمد –من إنجازات الفن- معني إسمها, وإنطباعنا الجاذب نحوها, والأهم من ذلك أنها تستمد منها كل عظمتها, أى من الفن، ولا شئ غيرالفن. ولاغرو في ذلك, فالفن هو أعلي ذروة من ذرى الحضارة، كما أن لا شيء يعدله في تسجيله االعميق لأدق خلجات الوجدان الإنساني ولأحداث التاريخ وبلغة الصورة وفيما تعجزعنه وسائل التعبير الأخرى؛ كما أنه لا شئ يضاهيه في تعبيره وتفسيره لكُنه وطبيعة النشاط الإنساني الخلاق الذي تم في تلك الأزمنة البعيدة، أو الذي يتم في أي زمان آخر, ولا جدال في أنه لا شيء آخر سوى الفن, يكسب هذه الأزمنة أهميتها، ولا شئ سواه يكسب الناس والأمكنة هويتها؛ لذلك تستحق فنوننا المادية (التشكيلية)القديمة والتي هي أعلي ذري حضارتنا, بل حضاراتنا العظيمة, تستحق أن تغير من أجلها تسمية المتحف المذكور إلى (متحف الفن التشكيلي السوداني القديم)، أو(متحف الفن السوداني القديم) وهي –في تقديري- التسمية الأنسب, بل هي الأكثر وضوحا في دلالاتها عن المدلول، والأكثر تعبيرا عن طبيعة الأعمال المعروضة فيه، والتي لا يجمع بينها قاسم مشترك أهم – وكما أسلفنا- سوي كونها أعمال (فنية، مادية، تشكيلية) ولأنها -هي- بالفعل كذلك، كما أن تسميتنا المقترحة, ستعبرعن مدي إدراكنا, واحترامنا لطبيعتها الفنية التشكيلية,ولقيمتها أو قيمها الجمالية, كما أنها ستبدي تقديرنا للفن عموما, والفن السو داني علي وجه الخصوص, مما أبدعه أسلافنا, وفوق ذلك ما هومتوقع -عند تغييرالإسم- من أثرسريع, وفهم أسرع له, ولدلالته, وبمجرد وقعه علي العين أوالأذن؛ وبما يعبربشكل أفضل, وأكثر دقة, عن ماهية المدلول (أي المعروضات), وحقيقتها الفنية المادية(التشكيلية)؛ كما أن في ذلك أيضا، إشارات ودلالات عميقة, موحية, بإمكان التسمية المقترحة أن ترسلها في إتجاه سد تلك الفجوة العميقة, القائمة في الأذهان والمتمثلة (وبدءا من قبولنا لصيغة الإسم الحالية) في غياب وتغييب المعرفة -الصحيحة- بتراثنا الثقافي الفني المادي؛ وعدم توصيفه التوصيف العلمي الدقيق، على أساس نوعه، وجنسه، وطبيعته الفنية (التشكيلية) الخالصة، التي لا لبث فيها أو غموض .
وثاني الأمثلة (للتدليل على الإستلاب والتغييب) :
هو تغييب المعرفة بالحضارات السودانية وتاريخ فنونها المادية القديمة, في مؤسساتنا التعليمية بالسودان، إذ نجد الغياب التام لدراسة تاريخ الفن التشكيلي السوداني القديم؛ عن مناهج كليات الفنون الجميلة والتطبيقية، وغيرها من كليات الآداب ،والتاريخ، والتصميم الداخلي، والمعمار …الخ؛ في بلادنا، في حين يدرس طلاب بعض هذه الكليات (الحضارة المصرية، والأغريقية، والرومانية …الخ) وتاريخ فنونها القديمة، ومثلما نجد بعضهم يدرسون تاريخ الفن الأوروبي من (فينوس ولندروف) وكهوف ما قبل التاريخ ك(لاسكو) بفرنسا، و(ألتاميرا) بإسبانيا، و…و…؛ مرورا بالعصر القوطي، إلى عصر النهضة (الفلورنسي) في إيطاليا، وحتى الثورة الصناعية والفن الحديث ! في حين لا يتحصل نفس أولئك الطلاب (السودانيون) على أية معلومات، أو نفس القدر من المعرفة عن الفنون التي عرفتها بلادهم قديما !!
لا شك في أن هذه الإشكاليات ستظل باقية، وسيظل باقيا هذا الواقع؛ ما لم نعيد النظر في معرفتنا لتاريخنا الثقافي المادي ولا شك في أنها ستظل ما بقيت آثار أنظمة التعليم وسياساتها الأنفة الذكر، وما دام التخطيط الثقافي الرسمي وفلسفته- في بلادنا – لا ينظران لهذا التراث الفني المادي (التشكيلي) السوداني العظيم بعين الإهتمام المطلوب، لنجد كنتيجة طبيعة لذلك، أننا نكرس الإستلاب، ونعيد إنتاج واقع التغييب الذي يفرز ذهنية غير مدركة لإكسير الحياة –السودانية– الكامن في ثقافة الشعب التي أبدعها الإنسان السودانى, وعلي مرالتاريخ هذه الثقافة التي بمقدورها شفاء الروح, وصياغة الوجدان المشترك وحمايته من التشظى والتى لا شك فى قدرتها علي ذلك، وعلي الإفلات من مآلات التشظي ؛والسقم الروحي، وفقدان الشعور بالهوية؛ ولكن هذا لا يتم برؤية (شبر الموية!) الثقافي والسياسي الذي أغرقنا فيه جميعا، بل بإحترام التعدد؛ والتنوع الماثل_وكما في البشر_ في كل الإنجازات المبدعة في تاريخنا الثقافي؛ وإعتباره (ثروة), لا (بلوة), ومن ثم إدارة هذا التراث, وهذا التنوع, وتنميته, بصورة خلاقة.
وما يهمنا – من هذا التعدد الثقافي وإنجازاته المبدعة -في هذا المقال- هو فنوننا المادية التشكيلية السودانية، وضرورة الوقوف والنظر مليا, في القيمة الجمالية (العالية) لنماذجها الفنية، والتأمل في دقة صنعها، رقيها ، فرادتها، غزارتها، وأصالتها الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، والتي تمثل بداية حلقات التاريخ والإنجاز الحضاري السوداني والإنساني، ونعتبرها بداية الناظم الذي يوثق نسيج الوجدان العميق المشترك لكل السودانيين، والذي – بالطبع – لن يراه ويري مساره الصحيح من يفتقر للمعرفة -الحقيقية- بهذا التراث؛ أو من يفتقر لإحترامه, والذي بدون الإستفادة الصحيحة منه بمعني إستثماره معرفيا ولمصلحة أصحابه السودانيون أولا؛ بدون ذلك لن تفلح –في تقديري- أي عملية تنمية حقيقية للإنسان؛ تزعم أنها جادة في مسعاها لتنمية المجتمع ، فالثقافة هي إبداع الماضي والحاضر, وهي الحقيقة الأزلية الوحيدة الباقية، الخالدة, من أثر إنساني, والتي بإمكانها أن ترتقي بنا لإستشراف مستقبل أفضل إن أحسنا إدارتها، ولا غرو في ذلك , فهي المعبر عن فكر الشعب، وعن آماله وتطلعاته، وتاريخه الحقيقي . وهي قوام الروح الإنساني ووجدان الشعب الذي لا يقبل الطمس، أو التجزئة، أو الإستبعاد لأي جانب منها ، أو أي فترة من فتراتها .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.