عودة 710 أسرة من ربك إلى ولاية الخرطوم    تايسون يصنف أعظم 5 ملاكمين في التاريخ    دورات تعريفية بالمنصات الرقمية في مجال الصحة بكسلا    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: الدور العربي في وقف حرب السودان    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    نقل طلاب الشهادة السودانية إلى ولاية الجزيرة يثير استنكار الأهالي    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    دبابيس ودالشريف    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    دقلو أبو بريص    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    حملة في السودان على تجار العملة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



متحف السودان القومي أم متحف الفن السوداني القديم؟
بمناسبة اليوم العالمي للمتاحف، ونحو حساسية تشكيلية (22)
نشر في الصحافة يوم 29 - 07 - 2011

إن تفرد التشكيل السوداني وخصوصيته – الممتدة عبر التاريخ- وظاهرته الثقافية الإستثنائية (المعاصرة) ورغم البؤس (البصري) المحيط بحياة الناس من كل جانب, أمر له ما يفسره, ويقود للإعتقاد بحقيقة وجود- لا قوي خفية – بل وجود خبرات متوارثة- وفي ظني -أيضا- وجود ثمة جينات؛ تتعلق بالخاصية الإبداعية؛ وبالذاكرة البصرية؛ يتم إنتقالها ووراثتها من أسلافنا المبدعين (التشكيليين)، (نحاتي) الصخور, (بناة) الأهرامات و(رسامي) القبوروالمعابد والكنائس، من الصناع (الشعبيين)؛ وعلى الأرجح أن هذه الجينات إنتقلت من جيل إلى جيل، ثم إنداحت وتفرقت بين أخلاف السودانيين القدماء, أي بين مختلف المجموعات السكانية –التي تلتها- وفي الجهات الأربع من منطقة جنوب وادي النيل التي تعرف الآن بالسودان، وربما عبرت خبراتها, أو عبر حاملوها هذه الحدود إلى أماكن أخرى بعيدة، فان لم يكن ذلك كذلك، ما الذي يفسر – ياتري – دأب السودانيين المتنامي وحرصهم على الإمساك بهذا الإهتمام الأصيل بالتشكيل, ورغم كل الظروف المعيقة, وغياب الرعاية, والدعم المؤسسي الرسمي المطلوب . هذا الإهتمام الذي نجد أبلغ صوره وعلى مدي قرون عديدة - وكأي شعب له حضارة- على مستوي الممارسة الشعبية المتصلة لكثير من الصنائع والحرف, التي ترجع في أصولها الى حضارة لها مميزاتها وخصوصيتها، كما نجد ذلك في أقدم النماذج التشكيلية المصنوعة من الحجارة, والعظام, والفخار, والمعادن, والأخشاب ...الخ، والدالة طبيعة المواد المحلية المصنعة منها إلى موطنها, ومنشئها، وإلى عراقة الإهتمام بفعل التشكيل في بلادنا، وهذا ما نجد أغلب شواهده – الباقية – فيما هو متوافر لدينا الآن من آثار مادية مصنعة من مواد تتصف بقدرتها على البقاء والديمومة، كالمباني, والتماثيل الضخمة والمصغرة, والأواني, والآلات, وأدوات العمل, والأسلحة, والحلي, وأدوات الزينة . ولكن هذا الدأب, وهذا الحرص المتصل, وشواهده المادية الدالة على فعل التشكيل وممارسته ومنذ آلاف السنين في بلادنا، وضمن منطقة وادي النيل، مهد أقدم الحضارات العظيمة في العالم, لم يتوقف كلية, فيما عدا ثمة إنقطاع، وضعف, وتراجع, حدث و لقرون, وأدي لتوقف ممارسة وإنتاج بعض أجناس الفن التشكيلي، كالرسم التشخيصي، والعمارة، والنحت الميداني، والتزيين الداخلي, ولعل الثلاث الأخيرة منها وبما لها من قدرة آسرة للنظر بسبب هيمنتها على الفراغ وسيطرتها النافذة على مجال الرؤية والتي لا يضاهيها – أي جنس فني آخر – في قوة تأثيرها وقدرتها على إحداث أعلي معدلات الذوق الجمالي (سلبا أو إيجابا) لدي قطاعات كبيرة من الناس، لعل إنقطاعنا عن ممارسة هذه الأجناس، وعدم إهتمامنا- اللاحق- بتدارك ذلك، هو أحد أهم الأسباب التي تفسر التراجع والتدني الكبير الذي حدث لمستويات الذوق الجمالي, وعلي نطاق واسع من الناس, وأدي بالتالي إلي ضعف الحساسية الجمالية التشكيلية, وقابليتنا للتطبع علي القبح والفوضي التشكيلية، وقبولنا لمثل ذلك الواقع الذي إنتظم المشهد البصري العام في بلادنا ، ونجده يتجلي- على أسوأ ما يكون– في فضاءاتنا (الخاوية)، والملأي بشتى صنوف الأمثلة السالبة؛ من التصاميم المتحزلقة, القبيحة؛ المنتشرة (في أسواقنا, شوارعنا، وفي ميادينا، ومدارسنا، وجامعاتنا ...الخ)، في القرى والمدن، وهذا ما نجد إنعكاسه وتأثيره السالب لا على الذوق العام وحسب ، بل تاثيره _أيضا_ على بعض الجوانب الأخرى (نفسية, أخلاقية, إجتماعية) بالنسبة للإنسان الواقع تحت طائلة هذا القبح المستشري, وتلك الفوضي الضاربة باطنابها في كل مكان . وما يفسر- أيضا- حالة ضعفنا المستجد؛ وتدني المستوي الحالي للخبرة السودانية, في تلك الأجناس الثلاثة المذكورة (العمارة، النحت الميداني ذي الحجوم الضخمة، والتصميم الداخلي)، وأكثر من غيرها، وبعد ماض قديم, بعيد، كنا فيه ، بل كان فيه أسلافنا، على النقيض من ذلك !، بل يؤكد نكوصنا الحضاري –في هذا الجانب– الذي لن يملأ فجوته العميقة الإعتماد على إبداع الآخرين، أوإستجلاب الصناع المهرة، والخبرة المستوردة من الخارج (وكما السلع الإستهلاكية)، وفيما نراه نتيجة طبيعية لظاهرة تلاشى وإندثار الكثير من الحرف والمهن التقليدية السودانية، ذات الطبيعة التشكيلية، بل بل نجده أيضا سببا في فقدان الرغبة لتعلمها .
من الغريب أن يحدث هذا – الآن – وفي ذات الأرض التي عُرِفتْ – قديماً– بصناعها المجودين وبعمالها وحرفييها المهرة؛ الذين أجادوا العديد من الصناعات (التشكيلية) الدقيقة, ومثلما كانت معروفة بعمارتها المميزة, وبأناقة تزيينها للحيزات السكنية والدينية، وعظمة نحتها الميداني, وبإهراماتها الرشيقة، وتماثيلها الفخمة، ورسومات قبورها، ومعابدها, وكنائسها الجميلة، وذات البلد التي عُرِفتْ بذهبها الكثير الوفير، ونقش حليها الأخاذ، وسبك حديدها المتين، وصناعة فخارها الرقيق، والذي –وحده- يدل على الشأو البعيد الذي بلغه أسلافنا من التحضر والرقي .
لذلك, ولسد هذه الفجوة بل هذه الهوة العميقة، بين ماضينا وحاضرنا، من المهم أولا، أن نقر ونعترف بالحقيقة التي مفادها : وجود ذات الفجوة، ذات الهوة, في معارفنا ووعينا، ومن المهم أيضا أن نعيد النظر في منهج التفكير الإنتقائي؛ وذهنية الإقصاء؛ والإستبعاد؛ التي ننظر بها إلى تاريخنا؛ وتراثنا الفني المادي (التشكيلي) القديم .
لأنه.. ولأننا – وببساطة – إن كنا نروم ونصبو لمستقبل أفضل, ولنهضة إجتماعية حقيقية، فهذا لن يتأتي دون الإهتمام (الجاد) بالتاريخ الثقافي لبلادنا، وربط حاضره بماضيه، ولأنه - أيضا – من المستحيل تحقيق أي تنمية إجتماعية فاعلة؛ ودون الإهتمام بموردها الأول (الإنسان ), وبثقافته .
لذلك لا مناص, من الإعتناء بتراثنا المادي القديم؛ وبذل مزيد من الجهد؛ والحرص؛ والإهتمام ب : رصده، جمعه، وحفظه؛ وحمايته؛ وإدارته إدارة موثوقة، ومن ثم العمل على تشجيع دراسته، وتحليله، وتقييمه التقييم العلمي الذي يستحق، مع الإهتمام الجاد بكتابة (تاريخ الفن التشكيلي السوداني القديم) ورد غربته التي طالت، بإخراج مفهومه (التشكيلي) من قوالب وصناديق (مصلحة الآثار) ومأزق إقتصارها علي التصنيف العلمي والأكاديمى الآثاري، الذى حال دون النظر لهذا التراث من زاوية قيمته الجمالية، وكونه فنا تشكيليا سودانيا خالصا، وما حال -أيضا- عن رؤية ذلك الناظم (الإبداعي) التشكيلي السوداني؛ الممتد عبر الحقب والتاريخ؛ والذي بدونه لن يستقيم فهمنا لتاريخنا العام، ولن تستقيم معادلة هويتنا الثقافية، أي بدون المعرفة بهذا التراث الفني المادي، وترويجه، وتمليكه لناشئة الأجيال، لا يمكن الإستفادة الحقة من هذا التراث؛ الذي يعتبر الأقدم تاريخا، والأغزر كَمّاً، بل الأكثر أصالة وجمالاً ( إن صح التعبير ) .
ومن عجب أنه يؤرخ لنا، وللإنسانية، ونهمل – نحن- التأريخ له، ومن عجب أيضا،أنه يمنحنا قيمة ومكانة بين العالمين، وفي حين لا نمنحه - نحن أصحابه- ذات التقدير من القيمة والمكانة، بل نجهله، وتنقصنا معرفته على الوجه الصحيح، في حين ينبغي علينا المحافظة عليه؛ وعلى قيمه الجمالية وتقاليده المبدعة التي تم تغييبها من وعينا الجمعي، فتقطعت بنا السبل, وتهنا في مسارات التاريخ وتقلباته المتوالية، بفعل الغزو والإستلاب الثقافي الذي أحالنا إلى مايشبه فاقدي الإحساس بذواتهم، وهذا ما نجد أبلغ مثال له فيما (أفصح) عنه الرسام الفطري المعروف (جحا) وعبر فيه بصدق عن رأيه في آثار هذا التراث، التي يعتقد أنها مجرد حجارة، ليس له فيها كبير غرض, هذا الموقف (المفصح) عنه بأريحية جحا وصدقه المعهودين؛ وحتي لو كان ذلك ضد نفسه ويحسب عليه ! هو في الواقع ذات الموقف (المضمر) لدي الكثيرين منا؛ بل معظمنا, وحيال هذا التراث، وهو الذي أضاع، ويضيع من وعينا ومن حياتنا، كنوزا ثمينة لا تقدر بثمن، هي تراثنا الفني المادي (التشكيلي ) القديم .
فما أفدحها من خسارة، وما أفدحه من ثمن ندفعه بسبب الإنقطاع عن هذا التراث، وبسبب الإنكار والتيه الذي أفقدنا مكونا أساسيا من مكونات هويتنا الثقافية، وغيب عن ذاكراتنا تلك الإسهامات والإنجازات العظيمة التي قدمها أسلافنا للحضارة الإنسانية وللثقافة العالمية, ويستمتع بها –غيرنا– ممن يعرفونها ويدركون قيمتها الفنية والجمالية العالية، بل يجلون قدرها أكثر منا !، فهل ياتري .. نحن لسنا جديرون بمعرفة تراثنا الذاخر هذا؛ وأولي بإجلاله والإفتخار به أكثر من غيرنا ؟!
خلاصة القول ، وللتدليل على الإستلاب والتغييب، بل التيه الثقافي الذي نجم, وينجم عن ذلك؛ لا أجد ما أسوقه وأبلغ من هذين المثالين :
أولهما : غموض وخطل تسمية أكبر وأهم متاحفنا الحاوية لنماذج وأعمال مادية، (تشكيلية) سودانية، قديمة، وأعني بذلك ما يسمى ب “متحف السودان القومي” ومجافاتها للدقة العلمية المطلوبة في إختيار الإسم المناسب لمثل هذا الصرح الهام، وبحيث تقابل عبارة (العنوان) أي الإسم، كُنه (الموضوع)، أي ما يحتوي عليه المتحف من معروضات وفي تطابق يعبر عنها من الوهلة الأولي لقراءة الإسم، لكننا- في الواقع – وبسبب غموضه وضبابيته المموهة للمعنى، نجده غير دال على الأعمال المعروضة فيه، كما نجده يطمس هذه الدلالة بل مغيبا لهوية ما هو معروض من أعمال (فنية تشكيلية) . وإذا نظرنا للإسم في قراءة سريعة, أو تأملناه في قراءة متأنية، نجده لا يفضي إلى شيء من هذا القبيل(التشكيلي)؛ بل نجده يفضي إلى متاهة من الإحتمالات التي قد تطرأ بذهن القارئ, أو بذهن الزائر, أو الداخل لهذا المتحف، في فهم وتصور ما هو (قومي)؛ وما سيراه بداخل هذا المبني، كأن يجد مثلا : صورا فوتوغرافية توثق للتنوع الإثني والثقافي في السودان؛ أويجد خرطا تاريخية وجغرافية توضح أقاليم السودان المختلفة, وتوزيع المجموعات السكانية فيها، أو صورا لمعدات حربية تاريخية، أو وثائقا مصورة خاصة بالحكومات السودانية المتعاقبة، أو ..أو ..الخ (هذه الأوات)، لكن الداخل لهذا المتحف وبعد قراءته للإسم الحالي “متحف السودان القومي” يجد معروضات ذات طبيعة واحدة مشتركة، من حيث النوع والأصل والقيمة التاريخية، أى يجمع بينها, لا قاسم مشترك واحد، بل ثلاث قواسم لا لبث فيها، إذ نجد، وبداية من (أكثرها سطوعا وأهمية)، أنها :
أولا: فنون مادية (تشكيلية).
ثانيا: سودانية .
ثالثا: قديمة
أي أنها أعمال وإنجازات فنية مادية، لذا فهي (تشكيلية)، ترجع وتنسب في أصلها إلى مكان معلوم، هو السودان لذا فهي (سودانية)؛ وكما يرجع إنجازها إلى أزمان سحيقة ضاربة في القدم، لذا فهي (قديمة), والأهم من ذلك أنها نتاج حضارة, بل حضارات عظيمة قامت في بلادنا، وأن هذه الحضارات السودانية- وكأي حضارة أو حضارات في العالم – تستمد –من إنجازات الفن- معني إسمها, وإنطباعنا الجاذب نحوها, والأهم من ذلك أنها تستمد منها كل عظمتها, أى من الفن، ولا شئ غيرالفن. ولاغرو في ذلك, فالفن هو أعلي ذروة من ذرى الحضارة، كما أن لا شيء يعدله في تسجيله االعميق لأدق خلجات الوجدان الإنساني ولأحداث التاريخ وبلغة الصورة وفيما تعجزعنه وسائل التعبير الأخرى؛ كما أنه لا شئ يضاهيه في تعبيره وتفسيره لكُنه وطبيعة النشاط الإنساني الخلاق الذي تم في تلك الأزمنة البعيدة، أو الذي يتم في أي زمان آخر, ولا جدال في أنه لا شيء آخر سوى الفن, يكسب هذه الأزمنة أهميتها، ولا شئ سواه يكسب الناس والأمكنة هويتها؛ لذلك تستحق فنوننا المادية (التشكيلية)القديمة والتي هي أعلي ذري حضارتنا, بل حضاراتنا العظيمة, تستحق أن تغير من أجلها تسمية المتحف المذكور إلى (متحف الفن التشكيلي السوداني القديم)، أو(متحف الفن السوداني القديم) وهي –في تقديري- التسمية الأنسب, بل هي الأكثر وضوحا في دلالاتها عن المدلول، والأكثر تعبيرا عن طبيعة الأعمال المعروضة فيه، والتي لا يجمع بينها قاسم مشترك أهم – وكما أسلفنا- سوي كونها أعمال (فنية، مادية، تشكيلية) ولأنها -هي- بالفعل كذلك، كما أن تسميتنا المقترحة, ستعبرعن مدي إدراكنا, واحترامنا لطبيعتها الفنية التشكيلية,ولقيمتها أو قيمها الجمالية, كما أنها ستبدي تقديرنا للفن عموما, والفن السو داني علي وجه الخصوص, مما أبدعه أسلافنا, وفوق ذلك ما هومتوقع -عند تغييرالإسم- من أثرسريع, وفهم أسرع له, ولدلالته, وبمجرد وقعه علي العين أوالأذن؛ وبما يعبربشكل أفضل, وأكثر دقة, عن ماهية المدلول (أي المعروضات), وحقيقتها الفنية المادية(التشكيلية)؛ كما أن في ذلك أيضا، إشارات ودلالات عميقة, موحية, بإمكان التسمية المقترحة أن ترسلها في إتجاه سد تلك الفجوة العميقة, القائمة في الأذهان والمتمثلة (وبدءا من قبولنا لصيغة الإسم الحالية) في غياب وتغييب المعرفة -الصحيحة- بتراثنا الثقافي الفني المادي؛ وعدم توصيفه التوصيف العلمي الدقيق، على أساس نوعه، وجنسه، وطبيعته الفنية (التشكيلية) الخالصة، التي لا لبث فيها أو غموض .
وثاني الأمثلة (للتدليل على الإستلاب والتغييب) :
هو تغييب المعرفة بالحضارات السودانية وتاريخ فنونها المادية القديمة, في مؤسساتنا التعليمية بالسودان، إذ نجد الغياب التام لدراسة تاريخ الفن التشكيلي السوداني القديم؛ عن مناهج كليات الفنون الجميلة والتطبيقية، وغيرها من كليات الآداب ،والتاريخ، والتصميم الداخلي، والمعمار ...الخ؛ في بلادنا، في حين يدرس طلاب بعض هذه الكليات (الحضارة المصرية، والأغريقية، والرومانية ...الخ) وتاريخ فنونها القديمة، ومثلما نجد بعضهم يدرسون تاريخ الفن الأوروبي من (فينوس ولندروف) وكهوف ما قبل التاريخ ك(لاسكو) بفرنسا، و(ألتاميرا) بإسبانيا، و...و...؛ مرورا بالعصر القوطي، إلى عصر النهضة (الفلورنسي) في إيطاليا، وحتى الثورة الصناعية والفن الحديث ! في حين لا يتحصل نفس أولئك الطلاب (السودانيون) على أية معلومات، أو نفس القدر من المعرفة عن الفنون التي عرفتها بلادهم قديما !!
لا شك في أن هذه الإشكاليات ستظل باقية، وسيظل باقيا هذا الواقع؛ ما لم نعيد النظر في معرفتنا لتاريخنا الثقافي المادي ولا شك في أنها ستظل ما بقيت آثار أنظمة التعليم وسياساتها الأنفة الذكر، وما دام التخطيط الثقافي الرسمي وفلسفته- في بلادنا - لا ينظران لهذا التراث الفني المادي (التشكيلي) السوداني العظيم بعين الإهتمام المطلوب، لنجد كنتيجة طبيعة لذلك، أننا نكرس الإستلاب، ونعيد إنتاج واقع التغييب الذي يفرز ذهنية غير مدركة لإكسير الحياة –السودانية– الكامن في ثقافة الشعب التي أبدعها الإنسان السودانى, وعلي مرالتاريخ هذه الثقافة التي بمقدورها شفاء الروح, وصياغة الوجدان المشترك وحمايته من التشظى والتى لا شك فى قدرتها علي ذلك، وعلي الإفلات من مآلات التشظي ؛والسقم الروحي، وفقدان الشعور بالهوية؛ ولكن هذا لا يتم برؤية (شبر الموية!) الثقافي والسياسي الذي أغرقنا فيه جميعا، بل بإحترام التعدد؛ والتنوع الماثل_وكما في البشر_ في كل الإنجازات المبدعة في تاريخنا الثقافي؛ وإعتباره (ثروة), لا (بلوة), ومن ثم إدارة هذا التراث, وهذا التنوع, وتنميته, بصورة خلاقة.
وما يهمنا - من هذا التعدد الثقافي وإنجازاته المبدعة -في هذا المقال- هو فنوننا المادية التشكيلية السودانية، وضرورة الوقوف والنظر مليا, في القيمة الجمالية (العالية) لنماذجها الفنية، والتأمل في دقة صنعها، رقيها ، فرادتها، غزارتها، وأصالتها الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، والتي تمثل بداية حلقات التاريخ والإنجاز الحضاري السوداني والإنساني، ونعتبرها بداية الناظم الذي يوثق نسيج الوجدان العميق المشترك لكل السودانيين، والذي - بالطبع - لن يراه ويري مساره الصحيح من يفتقر للمعرفة -الحقيقية- بهذا التراث؛ أو من يفتقر لإحترامه, والذي بدون الإستفادة الصحيحة منه بمعني إستثماره معرفيا ولمصلحة أصحابه السودانيون أولا؛ بدون ذلك لن تفلح –في تقديري- أي عملية تنمية حقيقية للإنسان؛ تزعم أنها جادة في مسعاها لتنمية المجتمع ، فالثقافة هي إبداع الماضي والحاضر, وهي الحقيقة الأزلية الوحيدة الباقية، الخالدة, من أثر إنساني, والتي بإمكانها أن ترتقي بنا لإستشراف مستقبل أفضل إن أحسنا إدارتها، ولا غرو في ذلك , فهي المعبر عن فكر الشعب، وعن آماله وتطلعاته، وتاريخه الحقيقي . وهي قوام الروح الإنساني ووجدان الشعب الذي لا يقبل الطمس، أو التجزئة، أو الإستبعاد لأي جانب منها ، أو أي فترة من فتراتها .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.