القوة المشتركة تكشف عن مشاركة مرتزقة من عدة دول في هجوم الفاشر    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. حسناء أثيوبية تشعل حفل غنائي بأحد النوادي الليلية بفواصل من الرقص و"الزغاريد" السودانية    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    اللجنة العليا لطوارئ الخريف بكسلا تؤكد أهمية الاستعداد لمواجهة الطوارئ    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانتفاضات العربية والثمن الباهظ للحرية
نشر في حريات يوم 04 - 08 - 2011

ينبغي الاعتراف بأن أول فضيلة لهذه الانتفاضات العارمة هي أنها أجبرت الأنظمة البوليسية الشمولية على الانفتاح غصبا عنها. لقد أخافتها لأول مرة وجعلتها تتنازل عن غطرستها وتسلطها ولو قليلا. لقد أجبرتها على أن تعرف معنى التفاوض والحوار لأول مرة في تاريخها حتى ولو كان الحوار مع نفسها على الأقل!هل سمعتم بأب أسرة عربي أو شيخ عشيرة يحاور العيال والأطفال؟ عيب. لا يجوز. هذا تخفيض من سمعته وهيبته. فما بالك بالرئيس أو بالقائد أو بالزعيم؟! أنا شخصيا لا أتجرأ على محاورة أي شخص في العالم العربي أو الاختلاف معه مخافة أن يشتمني أو ربما يغتالني بكل بساطة! ولذلك أصبحت أتحاور مع نفسي فقط. ولكن حتى مع نفسي فقد أنقسم إلى شخصين أو ثلاثة يدينون بعضهم بعضا ويبتدئ الصراع والعراك إلى حد الإنهاك. (وهكذا خربت علاقتي مع كل الناس اللهم إلا مع الآنسة “عواطف” حيث يسود الانسجام الكامل الذي لا تشوبه شائبة
(1) . ينبغي العلم بأن رغباتها أوامر وكلامها منزّل ومعصوم. هنا لا ديمقراطية ولا حوار وطني ولا من يحزنون..فالحب إما أن يكون ديكتاتوريا طاغيا أو أنه لن يكون. الآنسة عواطف “فرعونة” حقيقية وأنا ضعيف. ماذا تريدونني أن أفعل؟ إما المقاومة والممانعة، أو الصمود والتصدي، وإما الاستسلام. وقد اخترت أهون الشرّين. والغريب العجيب أني استمرأت هذا الحكم الديكتاتوري إلى درجة أني أخشى زواله، بل وأطالب بالمزيد!..). لكن لنعد إلى صلب الموضوع بعد هذا الفاصل الموسيقي القصير.. ينبغي الاعتراف بأن ثقافة الحوار الديمقراطي غير موجودة في تاريخنا. هذا أقل ما يمكن أن يقال.. وبالتالي فأحدث نظرية فلسفية لهابرماس عن الحوار التفاعلي التواصلي الديمقراطي الحضاري لا تنطبق علينا. وأصلا هو بلورها من خلال تجربة الشعوب المتقدمة ولأجلها. فالعقلاء المستنيرون هم وحدهم الذين يستطيعون التحاور بهدوء مع بعضهم البعض حول طاولة مستديرة. أما الآخرون فيشتبكون بالأيادي ويفعسون بعضهم بعضا حتى تحت قبة البرلمان! انظروا ما حصل في أوكرانيا من جملة أمثلة أخرى.. وبالتالي فلا يكفي أن نردد كلمة ديمقراطية مليون مرة بسبب وبدون سبب، بمناسبة وبدون مناسبة، لكي نصبح ديمقراطيين! وإنما ينبغي ان نعرف كيف نمارسها: أي كيف أتحمل اختلافك معي في الرأي دون أن أقوم عن مقعدي عندما يحتدم النقاش وأكسر الكرسي على رأسك!..ولكن أولى خطوات الديمقراطية تبدأ من هنا. إنها صيرورة طويلة ولا يمكن تعلمها دفعة واحدة. فلنبتدئ من نقطة الصفر إذن، ولنمارسها بالأيدي والأرجل،لا بأس! فبعد ذلك ومن خلال الممارسة يمكن أن نتمدن ونتحضر ونصبح جديرين بكلمة فولتير الشهيرة:”إني أكره أفكارك، ولكني مستعد لأن أموت لكي تستطيع التعبير عنها”!
عندما ذهبت إلى فرنسا لأول مرة فوجئت بمدى اختلاف العقليات. فالأستاذ كان يستشيرنا واحدا واحدا قبل أن يتخذ قراره حتى بخصوص مسائل بسيطة. كنت أقول بيني وبين نفسي: لماذا يضيع وقته في كل ذلك؟ من نحن حتى يستشيرنا؟ لماذا لا يفرض رأيه بسرعة وينتهي الأمر. والسبب هو أنه لا وجود للثقافة الديمقراطية في تربيتي أو حياتي(كلنا يعلم كيف تمارس التربية والتعليم في البيوت والمدارس عندنا). وحتى الآن لا أعرف ما هو معنى كلمة ديمقراطية. فمن كثرة ما تعودت على الاستبداد والاستعباد والفعس أصبحت عاجزا عن الفهم. بل وأصبحت أنكر طعم الحرية وأستعذب الخنوع والمازوشية. بل وحتى بعد سفرنا إلى فرنسا بسنوات عديدة كنا ننظر إلى من حولنا في المقهى قبل أن نتجرأ على الانخراط في حديث سياسي أو حتى شبه سياسي..وهكذا لاحقتنا تلك العادة السيئة إلى خارج البلاد ومن المحتمل أن تلاحقنا إلى المريخ! وهذا شيء يصعب على الإنسان الفرنسي أو الأوروبي أن يفهمه لأنه تجاوزه منذ زمن طويل
(2) . ينبغي العلم بأن الأنظمة الستالينية لا تحاور شعوبها وإنما تقودها لأنها تمتلك الحقيقة المطلقة بكل بساطة. وغني عن القول بأن بعض أنظمتنا مركبة على طريقة أوروبا الشرقية إبان المرحلة الستالينية: الحزب الواحد، والجريدة الواحدة، واتحاد الشبيبة، والطلبة، والنساء، وحتى اتحاد الكتاب والأدباء..وكل ذلك مدجن ومؤطر ومرفق باللغة الخشبية الامتثالية المعروفة التي تكتفي بتمجيد القائد الملهم الذي له تماثيل وليس فقط صورا في كافة أنحاء البلاد...إنها تكرر نفس الكلام الممل على مدار الساعة كالببغاوات، بل وتلقنه للأطفال الصغار وتنتج عن ذلك أفدح الأخطار..وهذا ما يقتل روح الإبداع والابتكار لدى الشعوب. وهذه الأنظمة كنستها رياح الحرية بعد سقوط جدار برلين عام 1989. وبالتالي فإن انتفاضة شعوبنا على نفس النوعية من الأنظمة تأخرت في الواقع عشرين سنة عن بقية العالم. والسبب واضح: إسرائيل على الأبواب. وبالتالي ضرورة المقاومة والممانعة والصمود والتصدي وكل تلك المصطلحات التي فرغت من معناها حتى أصبحت مثيرة للاستهزاء والسخرية ولم تعد تقنع أحدا
(3) ..والسبب هو أنها مستخدمة كقناع بغية إطالة عمر الأنظمة بالدرجة الأولى. فلولاها، أي لولا القضية المقدسة، لما تحملت الشعوب خنق الحريات طيلة كل تلك السنوات..ثم انكشفت الخدعة للجميع أخيرا. من هنا النقمة العارمة للشعوب العربية. وهي نقمة كانت مكبوتة منذ زمن طويل فانفجرت كالزلزال أو كالبركان وقذفت بالحمم والشظايا في وجه كل أنواع التدجيل والتسلط والفساد. لقد نهضت الشعوب العربية من أجل حريتها، وهي تدفع ثمنها عدا ونقدا، وسوف تنالها. تحية إذن إلى الشعب السوري الذي يدفع الآن الثمن الباهظ للحرية.
أضيف إلى ذلك أن الشبيبة العربية بشهادات عليا أو بدون شهادات مدانة بالبطالة والعطالة وانسداد الآفاق واليأس القاتل. وهنا تكمن اكبر جريمة إنسانية بحق شبيبتنا لأنها تشعر بأنها مهانة في كرامتها ومصابة في أعماق أعماقها. ما معنى أن تظل طيلة النهار تدور حول نفسك بلا جدوى، وأمك وأبوك وأهلك وجيرانك يعرفون أنك لا تشتغل ولا مستقبل لك؟ ما معنى أن تفقد قيمتك وكرامتك في نظر أعز الناس عليك؟ أعترف بأن أكثر شيء يفجعني في عالمنا العربي هو هذه النقطة. والأنظمة السائدة تتحمل مسؤولية ذلك بالدرجة الأولى. نقول هذا خاصة وأن نسبة الشباب الذين يقل عمرهم عن خمسة وعشرين سنة تبلغ 60 في المائة على الأقلّ : أي معظم شعوبنا من الشباب على عكس شعوب أوروبا الحضارية المليئة بالشيوخ والعجائز..وبعض الحكام ليسوا فقط طغاة أثرياء هم وعائلاتهم وحاشيتهم وإنما هم غير أكفاء وغير قادرين على ممارسة الحكم الرشيد. ولكم أن تتخيلوا حجم الأضرار الناتجة عن كل ذلك. إن تراكم هذه العوامل المتعددة وسواها هو الذي أدى إلى انفجار الشعوب العربية. وبالتالي فإذا ما عرف السبب بطل العجب.
هل يمكن أن تتعظ الأنظمة من كل ما حصل وبعد أن وصلت الأمور إلى حافة الهاوية؟ هل يمكن أن تسارع إلى الإصلاحات الملحة وتقبل بتقاسم جدي للسلطة مع المعارضة، أقصد مع القوى الحية التي تمثل الشارع والبلاد؟لا يمكن أن ينجح الحوار الوطني بدون مصارحة، فمصالحة، تماما كما حصل في جنوب إفريقيا على يد مانديلا وكما حصل في المغرب من خلال “هيئة الإنصاف والمصالحة” التي دشنها محمد السادس منذ سنوات عديدة. لن تهدأ النفوس قبل أن يعاد للمظلومين- وما أكثرهم!- اعتبارهم. لن تهدأ أبدا قبل أن يعاقب المسؤولون عن هذه التجاوزات الإجرامية بحق الأبرياء. لقد طفح الكيل! إذا لم يحصل ذلك فسوف يسهل على الخارج المتربص تنفيذ مخططه في زرع الفتنة والتقسيم والتفتيت. البلاد على مفترق طرق: فإما الخلاص والإنقاذ في آخر لحظة، وإما الجحيم والهاوية! كل ما أخشاه هو أن يكون الجرح قد اتسع وتفاقم إلى درجة إن لأمه أصبح مستحيلا آو فوق طاقة الجميع. اللهم اجعلني من المخطئين!
لقد قيل الكثير عن تقاعس المثقفين العرب أو عدم مشاركتهم في هذه الانتفاضات أو عدم إرهاصهم بها. بالمقارنة: يقال بأن جان جاك روسو تنبأ بالثورة الفرنسية قبل حصولها بربع قرن على الأقل. بل وتنبأ بها بعبارات دقيقة أذهلت المعاصرين. ولكن ليس كل الناس جان جاك روسو! كيف رآها؟ كيف استبق على الحدث قبل حصوله؟ كيف رأى ما لا يرى؟ إنه بكل بساطة يمتلك “رادارا داخليا” على عكسنا نحن الناس العاديين أو السطحيين. وهذا الرادار الذي لا يمتلكه إلا الأنبياء والمفكرون الكبار قادر على كشف المحجوب وسبر التفاعلات العميقة التي تعتمل تحت السطح في قلب المجتمع والأشياء. ولكن من الظلم إدانة المثقفين العرب ككل. فبعض المثقفين مهدوا الأرضية للحدث الزلزالي بكتاباتهم التي تدين التخلف والاستبداد والظلام. وهي أفكار منتشرة أكثر مما نتصور في أوساط الشبيبة المنتفضة من أجل الحرية والحقيقة والعدالة الاجتماعية. أقول ذلك وأنا أفكر بكتابات المناضل التنويري الكبير محمد الشرفي، وذلك من جملة أمثلة أخرى هنا أو هناك في شتى أقطار العرب.. هذا من جهة. وأما من جهة أخرى فلا ينبغي أن ننسى عدد المثقفين والصحفيين الذين سجنوا أو عذبوا أو قتلوا في العديد من الدول العربية والإسلامية. لقد دفعوا ثمن أفكارهم ومواقفهم غاليا. وهذا أكبر دليل على مدى خطورة الفكر، وأيضا على مدى شراسة الدولة البوليسية الأخطبوطية وضرورة التخلص منها بأي شكل. وبالتالي فالقول بأن المثقفين لم يلعبوا أي دور في هذه الانتفاضات خاطئ وظالم. المثقفون، بالمعنى القوي للكلمة، هم منارات الشعوب وضميرها الحي. ولكن يبقى صحيحا القول بأن هناك مثقفين ارتبطوا بالأنظمة البوليسية وتواطئوا معها واستفادوا منها بل واغتنوا إلى درجة أنهم يمتلكون البيوت والشقق حتى في أرقى العواصم الغربية. بل وألبوا الأنظمة على المثقفين الآخرين ولاحقوهم بإصرار مدهش. هذا لا يعني بالطبع أن كل مثقفي المعارضة هم ملائكة من الناحية الديمقراطية! فالواقع أن معظمهم لا يختلفون في شيء عن مثقفي الأنظمة. يكفي أن تتناقش مع بعضهم خمس دقائق فقط لكي تدرك ذلك. وهذا يعني أن الاستبداد “بنية عقلية راسخة” تخترق الجميع، بل وتخترق القرون..فعلاً الاختلاف في الرأي شيء يصعب تحمله. ولا يمكن تعلمه بين عشية وضحاها. وهنا تكمن المشكلة أو الطامة الكبرى.. هنا تكمن معضلة الديمقراطية العربية: ديمقراطية بلا ديمقراطيين(4) !...
وبالتالي فهذه الانتفاضات المشتعلة ليست نهاية كل شيء على ما أتصور وإنما بدايته. إنها الخطوة الأولى في مسارنا نحو الانعتاق والحرية. وهو انعتاق لاهوتي أيضا وليس فقط سياسيا. إنها تمهد للانتفاضة التنويرية الكبرى التي ستحصل لاحقا في أرض العرب والإسلام. أو قل هذا ما نأمله ونرجوه.عندئذ يمكن القول بأن العرب قطعوا مع رواسب الماضي المتراكمة، وانتقلوا فعلا إلى العصر الجديد الآخر
(5) .عندئذ يمكن أن نكرر ما قاله هيغل عن الثورة الفرنسية: كانت تلك إشراقة الشمس الرائعة...
هوامش
1 هذه الكلمات ليست إلا ثرثرة مجانية على هامش تلك الأبيات الرائعة لأبي فراس الحمداني:
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التراب تراب
2 في نظرية الباراديغمات الشهيرة للفيلسوف الابيستمولوجي الأميركي توماس كهن فان الباراديغم السابق يظل ساري المفعول نفسيا وسوسيولوجيا حتى بعد سقوطه بزمن طويل وحلول باراديغم جديد محله.والسبب هو ان الناس لا تستطيع تغيير عاداتها ويقينياتها بسهولة وانما يلزمها وقت طويل لكي تفعل ذلك وتتأقلم مع المستجدات.فمن كثرة تعودها على الباراديغم السابق-او قل الفكر السابق- تصبح متعلقة به الى حد التبجيل والتقديس.انه يتحول الى حقيقة مطلقة او نموذج معرفي أعلى لا يناقش ولا يمس.ما أصعب القطيعة وما أمر الانفصال! فمثلا الباراديغم الارسطوطاليس-البطليموسي ظل مهيمنا على عقلية الشعوب الاوروبية حتى بعد ان برهن كوبرنيكوس وغاليليو وسواهما على خطأه بشكل قاطع..وقل الأمر ذاته عن باراديغم الخوف فهو يظل مسيطرا حتى بعد زوال مسبباته الفعلية(كالسفر الى الخارج مثلا) وذلك لأنه مستبطن من الداخل ومترسخ نفسانيا. احدى ميزات الانتفاضات العربية الراهنة هي أنها أسقطت باراديغم الخوف.وربما يكمن هنا أعظم انجازاتها..
3 هذا الكلام لا يعني اطلاقا التقليل من أهمية المقاومة الحقيقية ضد أكبر جبروت طغياني وارهابي في هذا العصر:اسرائيل والصهيونية العالمية التي تقف خلفها.انه لا يعني أبدا الاستهزاء بالمقاومة اللبنانية ومعجزتها التي أدهشت العالم في هذا الشهر بالذات من عام 2006. فلأول مرة انكشف ظهر اسرائيل او قل عمقها الجغرافي-السكاني وأصبحت امكانية قطع رأس الأفعوان تتراءى على الأفق كاحتمالية غير مستبعدة او غير مستحيلة على الأقل.هل يتعظ الصهاينة المتغطرسون من ذلك ويقبلوا باقامة دولة فلسطينية الى جانبهم تكون اكبر ضمانة لوجودهم في المنطقة ام أنهم سيركبون رأسهم بعد ان أسكرتهم عربدة القوة والقنابل الذرية التي يمتلكونها؟ هل سيواصلون سياسة احتقار العرب والاستهانة بهم ام سيحسبون حسابات المستقبل وخط الرجعة؟ مصير المنطقة والانتفاضات العربية يتوقف في جزء منه على رد الصهيونية العالمية- وبالتالي الغرب كله- على مثل هذه الأسئلة..
4 استعرت هذا المصطلح الجميل من عنوان ذلك الكتاب الجماعي الذي أصدره كل من عزيز العظمة وغسان سلامة تحت عنوان:ديمقراطيات بلا ديمقراطيين.سياسات الانفتاح داخل العالم العربي والاسلامي.منشورات فايار.باريس.1994
Aziz al-Azmeh,Ghassan Salame emocraties sanas democrates.Fayard.Paris.1994
5 هذه النقطة تستحق دراسة مطولة لشرح العلاقة بين الثورة الفكرية التنويرية من جهة،والثورة السياسية من جهة أخرى.
فيما يخص الثورة الفرنسية مثلا هناك مراجع لا تحصى ولا تعد حول الموضوع...أذكر من بينها مرجعا رائعا أصبح كلاسيكيبا الآن هو:الأصول الفكرية للثورة الفرنسية،للباحث دانييل مورنيه.باريس.1933
Daniel Mornet :Les origines intellectuelles de la Revolution Francaise.1751-1789.Armand Colin.Paris.1933
هذا الكتاب يدرس العلاقة بين الأفكار الجديدة التي بلورها فلاسفة التنوير الكبار من أمثال فولتير ومونتسكيو وروسو وديدرو والموسوعيين من جهة،وبين اندلاع الثورة الفرنسية من جهة أخرى.فهذه الأفكار الجديدة هي التي فككت مشروعية النظام الملكي القديم في فرنسا وجعلت الناس يتجرؤون على الإطاحة به. وكانت مشروعية إلهية مطلقة وراسخة في الوعي الجماعي الفرنسي على مدار القرون. من هنا الطابع الراديكالي للثورة الفرنسية.ويالتالي فلولا الثورة الفكرية لما كانت الثورة السياسية.هل يمكن القول بأن الثورة السياسية تحصل عندنا الآن بدون ثورة فكرية؟نعم ولا. نعم، ضمن مقياس ان انتشار الأفكار التنويرية ليس كافيا ولا عميقا متجذرا في الأرض حتى الآن.والدليل على ذلك المكانة الكبرى التي تحتلها الحركات الاخوانية في المشهد الجديد. لا،ضمن مقياس ان الافكار التنويرية التي زرعها محمد الشرفي وسواه منتشرة الى حد ما كما ذكرت في أوساط الشبيبة التونسية خصوصا والعربية عموما.من هنا الطابع الوسطي- الغامض لانتفاضاتنا الحالية.أرجو ألا يفهمن أحد من هذا الكلام اني ضد الانتفاضات! فقط أريد أن أقول بأنها ليست الا خطوة أولى على طريق التحرير الطويل...
ينبغي ان نضيف الى الكتاب السابق كتابا آخر صدر مؤخرا وناقش مطولا أطروحات مورنيه وجددها وقدم أطروحات مدهشة.فقد درس الطفرة الكبرى التي طرأت على العقليات والحساسيات الفرنسية ابان عصر الأنوار.وهذه الطفرة هي التي جعلت ممكنا ذلك التدمير السريع والعميق للنظام السياسي والاجتماعي القديم.فما كان أحد يتوقع ان ينهار نظام راسخ كالنظام الملكي الفرنسي ذي المشروعية التاريخية والإلهية بمثل هذه السرعة.من هنا الطابع المدهش والباردغمائي الأعظم للثورة الفرنسية.ولكن الأطروحة الجديدة للمؤلف تتمثل في العبارة التالية:اذا كانت الأنوار قد صنعت الثورة كما يقول مورنيه وتين وتوكفيل من قبله فان الثورة صنعت الأنوار ايضا!على أي حال فان المؤلف يدرس في هذا الكتاب القيم كيفية انبثاق رأي عام لأول مرة في فرنسا،وكذلك انبثاق ثقافة سياسية جديدة،ثم حصول ظاهرة هامة جدا هي:انحسار المسيحية عن سطح المجتمع الفرنسي ونزع القداسة عن شخص الملك لويس الرابع عشر او السادس عشر وذريته..عنوان الكتاب يشبه تماما عنوان كتاب مورنيه ما عدا في كلمة واحدة:
Roger Chartier :Les origines culturelles de la Revolution Francaise.Seuil.2000
نقلاً عن الأوان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.