أحداث العنف التى تشهدها سوهاج والمنيا هذه الأيام تستدعى تفكيرا جادا بشأن استراتيجيات وأدوات التعامل الحكومية وغير الحكومية مع أزمات مجتمعنا الحقيقية. لم يعد مقبولا أن يقتصر الفعل الحكومى على محاولة الاحتواء الأمنى دون حلول جذرية تنتصر لسيادة القانون ولسلمية المجال العام. لم يعد مقبولا أن ترتب خلافات ومشاحنات بين عصبيات عائلية مواجهات مسلحة تسقط قتلى وجرحى، وليس بكاف أن تأتى الحكومة كى تهدئ الخواطر وتتجاوز الأزمة بمسكنات محدودة الفاعلية. تهدئة الخواطر والمسكنات كانت أسلوب النظام السابق فى التعامل مع أزمات المجتمع المصرى وحصيلتها النهائية هى ما نراه من تردٍ وتراجع لقدرات الدولة والحكومة على الضبط المجتمعى. المطلوب اليوم حلول جذرية تجرم استخدام العنف من قبل مواطنين ضد مواطنين بغض النظر عن الخلفيات والمسببات. المطلوب اليوم هو سياسة حقيقية من قبل الأجهزة الأمنية ودون ادنى انتهاك لحقوق الإنسان تهدف إلى مصادرة السلاح المتوفر لدى مواطنين وجماعات ويستخدم فى اعمال عنف كالتى نشاهدها فى سوهاج والمنيا. المطلوب اليوم أيضا، ذلك إن أردنا سلمية المجال العام، هو ان نسأل ونحاسب قانونيا المتورطين فى أحداث العنف والا تقبل الحكومة بحلول عرفية تحول دون إنزال العقاب القانونى بكل من يثبت عليه التورط فى العنف. المطلوب من الدولة والحكومة فى مصر اليوم، خاصة مع تراجع هيبة وقدرات الأجهزة الأمنية، هو ان يتواكب التعامل القانونى والأمنى مع سياسات وإجراءات حكومية تهدف للحد من قابلية المجتمع للعنف من خلال تنمية حقيقية، فمحافظات الصعيد عانت طويلا ولا تزال من تهميش منظم وضعفى محافظاتها بالموازنة العامة والمشروعات التنموية، والنتيجة هى أن الصعيد أصبح المنطقة الأكثر فقرا فى مصر والأضعف على مستوى مؤشرات محو الأمية وجودة التعليم والتشغيل. مثل هذه البيئة المجتمعية تشكل حاضنة طبيعية للعنف وتقتضى التركيز على إحداث تنمية حقيقية لتحسين الظروف المعيشية للسكان بدلا من إهدار الوقت فى حديث محدود الأهمية عن القبلية فى الصعيد وعن العادات والتقاليد التى لا تتغير. التوجه نحو تنمية حقيقية يستدعى ان تفكر الحكومة انطلاقا من ان التنمية الحقيقية ستستغرق مدا زمنية متوسطة أو طويلة (عشرة سنوات على الأقل) فى أدوات من انذار مبكر والاحتواء المجتمعى وليس فقط الأمنى للأزمات فعلى سبيل المثال تستطيع أجهزة انذار مبكر حكومية ان تساعد فى توجيه الأدوات القانونية والأمنية إلى البؤر المحتمل اشتعالها قريبا، ان بسبب مشاحنات عائلية أو بسبب توترات طائفية. من يقرأ تفاصيل أحداث سوهاج والمنيا يكتشف ان خلاف العائلات فى الأولى والتوترات الطائفية فى الثانية كانت ظاهرة للمواطنين هناك وكان يمكن نزع فتيلها بتدخل حكومى فى الوقت المناسب. والحقيقة ان تفعيل أجهزة الإنذار المبكر هذه يقتضى شراسة حكومية وغير حكومية، أى مع إسهام فعال للمجتمع المدنى هناك مبادرة بدأت فى مجلس الوزراء بتأسيس مجلس وطنى للعدالة والمساواة ينظر فى الأمور المرتبطة بعلاقة المصريين المسلمين بالمصريين المسيحيين وبحقوق وحريات الطرفين وبالحد من التوترات الطائفية، ويفترض أن يجمع المجلس فى تكوينه بين الحكومى وغير الحكومى وان يؤسس بأجهزة إنذار مبكر تنزع فتيل التوترات الطائفية وتقدم حلولا جذرية لها من خلال تعديلات تشريعية وسياسية تضمن المساواة فى الحقوق والواجبات بين المصريين المسيحيين والمسلمين. كذلك تستطيع جهات كالمجلس القومى لحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدنى المختلفة والهيئات الدينية الأهلية ان تسهم فى ذات الاتجاه وتنشط لتغطى جوانب الأزمات المجتمعية المختلفة.لن تجدى لا تهدئة الخواطر ولا المسكنات الحكومية المعتادة، والأفضل لمصر والمتفق مع هدف بناء دولة سيادة القانون والعدالة هو ان نجتهد حكومة ومجتمعا مدنيا لتنفيذ حلول جذرية لأزماتنا كى لا يستمر تكرار أحداث سوهاج والمنيا فى المستقبل القريب.