في فاتحة دراستنا في المرحلة الثانوية، و بعد مضي شهر على ثورة أكتوبر، سيرت الجبهة القومية للأحزاب موكباً حاشداً مشينا فيه راجلين من جامع الخليفة الى جبل كرري حيث الموقعة، يتقدم الموكب السيد الصادق المهدي ممتطياً صهوة جواده ، وربما كان معه – لست متأكداً – خالنا يسين عمر الامام على جواد آخر. الهدف غير المعلن من الموكب، استعراض قوة جبهة الأحزاب التي خرجت من حصاد ثورة أكتوبر بصفقة المغبون، أمام جبهة الهيئات التي امتطاها الحزب الشيوعي، وأخذ الجمل بما حمل، بصورة لا تناسب وزنه الى جانب وزن الأحزاب الكبرى. أما الأهداف المعلنة للموكب فقد جاءت في ثلاثة أسباب، هي مرور شهر على ثورة أكتوبر، والاحتفال بذكرى موقعة كرري، وبمناسبة مرور ثلاث سنوات على وفاة السيد الصديق المهدي، مما ترك لدي سؤالاً عريضاً ، لماذا السيد الصديق وحده من دون سائر رموز الأحزاب السياسية والحركة الوطنية الذي يوضع اسمه مع حدثين فذين في تاريخ السودان المعاصر، ولماذا رضي الحزب الوطني الاتحادي بصفة خاصة بأن يكون السيد الصديق دون غيره مع علامات تاريخنا المعاصر، مع وجود الرمز التاريخي للحزب ولاستقلال السودان، السيد اسماعيل الأزهري ، الذي هو في ذات الوقت أستاذ الامام الصديق المهدي. لم يكن لشاب قروي قادم الى المدينة تواً ، وفي مثل تلك السن الباكرة أن يجد اجابة لتلك الأسئلة ، فوسائل الاتصال محدودة جداً ، و حكومة الفريق عبود لا تسمح بتداول المعلومات الا بقدر ما يخدم خطها ، و أقصى ما يعرفه الواحد منا الأخبار العامة منتزعة من خلفياتها ، ومن هنا تعذر علينا الإجابة عن سؤال لماذا أجمعت الأحزاب السودانية برموزها التاريخية ، ولم ندرك الا بعد أن اتسعت مداركنا ، وتنوعت مصادر المعرفة ، وازدحمت الأسئلة القلقة ، التي تولدت عنها أسئلة قلقة جديدة ، عندها فقط عرفنا إجابة لماذا؟ الواقع يقول إن الالتفاف الحزبي والجماهيري الذي حظي به السيد الصديق لم يحظ به زعيم سياسي ولا ديني قبله ولا بعده ، حتى والده السيد عبدالرحمن – مع عظيم سجاياه – لم يجد من الالتفاف ما وجده ابنه الصديق ، لا لقصور في قدرات السيد عبدالرحمن في كسب المخالفين، ولكن لأنه كان يدعو لمبدأ انقسم الناس حوله، إذ كانت الأحزاب الاتحادية مكافئة للأحزاب الاستقلالية، ثم إن الحكومة الاستعمارية أخافت الناس من المهدية، مما جعل السيد عبد الرحمن يقف على رصيد ضخم من الكراهية، تجاوز أكثرها بصبره وسماحته، لكنه لم يتجاوزها جميعاً، خاصة الخلافات الطائفية، وعلى رأسها خلافات السيدين، الى جانب خلافات أخرى أقل من هذه. السيد الصديق كان في موقف أفضل، ووضعته الأقدار على رأس قضية لا خلاف حولها، وهي قضية الديموقراطية، كانت قضية تبحث عن قائد صلب، يؤمن بها من غير مناورة، ومن خلفه سند جماهيري، ونخبة ترى فيه ما لا تراه في آخر منها، لكل هذه الصفات القيادية اجتمعت الأحزاب بمختلف توجهاتها حول السيد الصديق، ولم تجد القيادات التاريخية أمثال السيد اسماعيل الأزهري حرجاً أن يكون الى جانب تلميذه من أجل قضية الديموقراطية، كان التفافاً نادراً في تاريخ الحياة الحزبية السودانية، أن يكون الالتفاف حول مبدأ الديموقراطية و حول رمز الامام الصديق. إيمان السيد الصديق بالديموقراطية، إيمان راسخ غير خاضع للمساومات السياسية، من أجله عاد راجعاً من رحلة استشفاء بحجة أن صحة البلد فوق صحته، ومن أجله اختلف مع والده في موقفه من تأييد حكومة الفريق عبود، وكانت الديموقراطية وحكم الشورى من آخر وصاياه وهو يسلم الروح، وما بين ذلك كانت مواقفه الصلبة في معارضة حكومة نوفمبر، وفي داره ومنها كانت اجتماعات المعارضة بكل أطيافها وكتابة المذكرات والبيانات والمنشورات الصادرة باسم الامام. الديموقراطية مبدأ أصيل لدى السيد الصديق حين رفض استبدال استبداد باستبداد، فقد قيل إن أحد الذين كانوا معه من غير حزبه أشار عليه بالاستعانة بقوة الأنصار لإزالة الوضع القائم، ولكنه رفض لأن الأنصار اذا استولوا على الوضع بقوة فلن يتركوه لغيرهم، لم يكن يرفض دكتاتورية بعينها، ولكنه كان يرفضها حتى لو كانت دكتاتورية الأنصار التي تضعه فوق قمتها. مبدأ الديموقراطية اقترن عنده بمبدأ سلمية المعارضة الوطنية، كان يكره أن تجري الدماء بين الفرقاء السياسيين وان اختلفوا، وكان يعتبر نفسه مسئولاً بصفة خاصة عن دماء الأنصار، وحرص ألا يعرضها الى ما يريقها، حتى الصدام الذي كان في حوادث المولد، لم يكن من الساعين اليه، بل سعى الى تجنبه بإجراءات احترازية، لكن الطرف الآخر كان راغباً فيه وساعياً اليه ، فكان الذي كان. هناك من يعتقد، والشواهد تؤيده، بأن الدماء التي سالت في حوادث المولد كانت من الأسباب التي عجلت بوفاته، نعم أقدار الله مكتوبة وماضية، لكن تلمس البشر للأسباب من أجل العزاء على المكاره، وفي هذا يؤكد غير واحد ممن دخلوا عليه بعد حوادث المولد، أنه كان متحسراً في حرقة على دماء الأنصار التي كان يعتبر نفسه مسئولاً عنها، هذا التحسر الذي أدى الى الذبحة التي أودت بحياته بعد نحو شهر أو دونه من الحوادث التي أودت به. لم يكن غريباً أن تكرم الأحزاب الوطنية السيد الصديق بعد انتصار ثورة أكتوبر فتجعله من أهداف موكبها الحاشد ، ففي ذلك وفاء وعرفان بدوره في الاحتفاظ بنيران المقاومة حية وساطعة ، وبدوره أيضاً في تجميع كل الأحزاب الوطنية حوله بدلاً من انفراد الأنصار وحدهم ، ومن أجل أنه لم ينفرد برأي أو موقف يحقق له مكسباً حزبياً على حساب الآخرين ، مما جعله جديراً باحترامهم ، وبانعقاد لواء الزعامة حياً ، وربطه مع الحوادث التاريخية البارزة ميتاً. رحم الله السيد الصديق ، فقد مات دون الخمسين ، ولكنه حمل هموم أمة بأسرها، فتهاوى جسده الفتي من فرط ما حمل، ورحم الله المجنون الذي قال في سياق آخر: ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشبابا ولو حملت قلوب من حديد لما حملت كما حمل العذابا رحم الله السيد الصديق ، وأثابه وأحسن اليه، وأصلح الله حال السودان بعده، فكم هو بحاجة الى الحكماء أصحاب العزائم الماضية والاستمساك بالمبادئ الكبرى التي لابد منها لصلاحية الحكم.