في الكثير من المنعطفات التاريخية السياسية في بلادنا وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بصلة المثقفين مع الأنظمة الشمولية التي حكمتها ، اذا ما استثنينا فترة حكومة الفريق /عبود التي استعانت بتكنوقراط منهم دون وجود رابط ايدلوجي ، فاننا نجد من خلال تلمسنا لتلك العلاقة بين المثقف السوداني ونظامي مايو والانقاذ ، أن الشواهد تثبت مساهمة ذلك التجاذب الميغناطيسي بين المثقفين وتلك الانظمة في تشكل العوامل المؤثرة لاطالة عمر الشموليات ، وذلك بتوفير المسوغات التي توهم النظام بانه قد بات متغلغلا في عصب المجتمع من خلال مسامات الطليعة المثقفة لاسيما التي ، تراهن على صدقية النظام وتروج لها،اما من منطلق مصلحة ذاتية واما من الزاوية العقادئية التي يقف عندها المثقف ، ويحاول جاهدا توجيه الرأي العام في ناحية حركة ذلك النظام ! بالأمس تعرضت قناة الجزيرة وهي تخطو نحو سياسة جديدة ساعية على مايبدو الى فك انحيازها الطويل تجاه حكومة الانقاذ، لموضوع التحالف بين الحركات الدافورية الكبيرة الثلاث مع الحركة الشعبية قطاع الشمال واستضافت الأستاذ/ الحاج وراق رئيس تحرير صحيفة حريات الالكترونية المعارضة من جانب متحدثا الى المذيعة /خديجة بن قنة في برنامج ماوراء الخبر وكان الضيف المتحدث من الجانب الآخر في الخرطوم الأستاذ / سيف الدين البشير رئيس تحرير صحيفة سودان فيجن الناطقة باللغة الانجليزية والمعروف بموالاته لنظام الانقاذ ! سالت المذيعة في البداية الحاج وراق عن سبب هذا التحالف وفي هذا التوقيت تحديدا ، بل ولماذا رفع سقف أهدافه الى مستوي اسقاط النظام ؟ فكان رده أن عدم استجابة حكومة الانقاذ للمطالب الاساسية التي يرفعها من أسماهم بأهل الهامش ومراوغتها في مساعي غير جادة لتحقيق سلام دائم يقوم على اساس العدل والمساواة ة والتنمية المتوازنة الى جانب فشلها في حل الازمة الاقتصادية الناجمة عن انفصال الجنوب واستفحال المعضلات التي طالت دقائق وابجديات معيشة المواطن ، في ظل تصاعد الصرف البذخي على الآلة العسكرية والأمنية للنظام مقابل تدني ميزانية الخدمات الاساسية الهامة كالصحة والتعليم والضمان الاجتماعي ، علاوة على اصرار حزبها الحاكم على الانفراد بالحكم ، مقتصرا دعوته لمشاركة الفعاليات الأخرى انطلاقا من ذات النهج الذي أثبت فشله باعتراف شريحة من داخل اروقة وردهات الحكومة والحزب ! ربما لم يخرج تحليل الحاج وراق من حيث المضامين عن هذه الاطر ، مع اختلاف السياق العام للتعبيرات والأوصاف . وحينما سألت بن قنة ، سيف البشير ذات السؤال ، أجاب وكأنه يتحدث ناطقا باسم منبر الخال الرئاسي الطيب مصطفى، وبتقليف من الفزلكة اللغوية التي لا يغطي ثوبها الواهن النظرة العنصرية التي تكشف بصورة أكثر عن تسخير تلك النعرة لخدمة المشروع الاقصائي التي تتلبس عقلية الاسلاميين من خلال استدرار عطف الوجدان العربي والاسلامي في أواسط السودان ، وتأليبه تجاه التحالف المعلن اخيرا باعتباره يهدف الى اجتثاث ما سماها سيف البشير بالحضارة العربية والاسلامية المتجذرة والغالبة في السودان أو كما قال على حد تعبيره ان لم تخني الذاكرة ، ان هذا التحالف ما هو الا احياء( للمغاضبة ) من النواحي الجهوية التي رفدت عناصر ذلك التحالف وسيعها لمقارعة تلك الحضارة الراسخة في السودان ! وهي استغاثة لم يطلقها حتي الملوك الهاشميون والعلويون في الأردن والمغرب وهم المنتسبون لسلالة الدوحة الشريفة ، حينما هبت عليهم رياح الربيع العربي ،وسعوا لتفاديها انحناءا بعقلانية المنطق والحكمة في الاصلاحات ، دون الانجراف الى الصراخ والعويل بدعوى قدسية عرقهم أو الخطر المحدق بالعقيدة! ثم قال في سياق آخر مناقض تماما لهذا الاتهام العنصري السافر ، بان هذا التحالف هو تجديد لمودة ايدلوجية قديمة بين الحركة الشعبية منذ عهد الراحل جون قرنق ومتمثلة في وقتها الحاضر في شخص ياسر عرمان وكيان قطاع الشمال ، الذي يعيد من خلال ذلك التحالف لحمة قديمة مع الشيوعي عبد الواحد محمد نور ، وقد نسي سيف البشير ان الرجل سليل سلطنة دارفور التي كان سلطانها على دينار يجرد حملات الغذاءات وكسوة الكعبة المشرفة سنويا وقد سميت باسمه آبار على التي قام بحفرها لسقيا الحجيج و دون أن ينتبه سيف الدين البشير أيضا الى دخول خليل ابراهيم الاسلامي الحليف حتي الأمس القريب للانقاذ ومني اركو مناوي المهاجر من قصر الرئاسة الى معسكره على الخط ! ثم حاول سيف البشير في غمرة غفلته أن يقلل من شان التحالف باعتبار أن القوي السياسية الكبيرة كالأمة والاتحادي الديمقراطي لم يكونا ضمن الموقعين على وثيقة قيامه ،غير منتبه الى أنه تحالف عسكري حتي الأن ، وانه لابد أن يتحرك لاحقا لجذب الأذرع السياسية المدنية الى جانبه ، طالما أن هدفه اسقاط النظام بشتي الوسائل التي من ضمنها تحريك الشارع في اتجاه تصعيد الخلخلة الداخلية للحكم! ان محاولات مثقفي النظام نحو تأجيج الجانب الجهوي والعنصري والاقصاء باسم استهداف العقيدة والتي دفع ثمنها السودان باقتطاع الجنوب ،نتيجة تلك المعالجات الرامية الى اطالة عمر النظام وليس الخروج من الازمات الوطنية بالشكل العقلاني ، بما ينذر بالمزيد من التمزق ، انما يعكس ازمة المثقف الذي يتوه في موجات تحيزه الايدلوجي الذي يعميه حقيقة عن دوره الطليعي الوطني ، فيندفع الى تغذية اللهيب الحارق للأكف التي تهدف الى أطفاء الحريق . فيحاول دون وعي ايجاد التبريرات للنظام ليسدر في غيه ، استحلابا للعواطف العنصرية التي تؤلب الأثنيات والعقائد الدينية نحو مواجهة بعضها ، لصرف الراي العام عن الاخفاقات السياسية والاقتصادية لنظام الحكم و مشروعه الحالم الذي تحطم على صخرة الواقع، وهو موقف من مثقف سوداني منحاز لنظام فاشل ، يماثل تماما الانصراف عن الدابة الحارنة ، والانقضاض بالضرب على بردعتها دون ذنب جنته ! لا احد بالطبع ينكر على الأخرين حق تاييد النظام أو الدفاع عنه . فللحق مناصروه وللباطل مناصروه ، فالأنبياء الذين تنزلت عليهم الرسائل السماوية ، لم تجمع عليهم البشرية ، بل وقد كانت ضراوة معاداتهم من قومهم قبل الآخرين ! بيد أن تغطية الشمس ، بغربال التحيز بانكار وجود ها البين في حد ذاته وهي في رابعة النهار هو ما نستغربه ، من مثقف يعيش بين الناس ان كان فعلا يرى سوادهم الأعظم كيف يعيش ، فيرد سيف الدين البشير ويا للعجب ! حينما قالت له المذيعة ان السودان يعيش في ازمة اقتصادية ومعيشية خطيرة ، وباعتراف الرئيس البشير الذى اشار الى الناس بحلول غريبة تمثلت في دعوته لمقاطعة السلع! فرد سيف قائلا ، ان هناك ازمة ، ولكنها ليست خطيرة ! ونحن نسأل مثقفنا الذي يخاطب الناس باحرف لاتينية عجمية في ظل حكومة التعصب لتلك الحضارة النقية التي يدافع عنها ، ما هو معيار ومقدار الخطورة في نظره كمثقف مدافع عن اخفاقات الانقاذ ، وقد بلغ احتياطي النقد الأجنبى في خزينة المصرف المركزي ما يقارب الصفر ، فيما التسعون بالمائة من الشعب المؤيد للانقاذ على حد زعم قياداتها ؛ لم يعد يتذوق طعم اللحوم حتي في عيد الفداء ، وتقلص عدد الوجبات على هزالها على مائدته الى واحدة في اليوم ، في ظل نظام رفع منذ اثنين وعشرين عاما ، شعار نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع ، فانتهي به حال التردي نظاما حاكما لشعب يستر عورته بالعفة ويسد رمقه بالكفاف !الا اولئك الذين اختصهم بحظوة تقاسم السحت ، وانتفاخ الكروش الحرام، وهم يجاهرون تباهيا بالفساد الذي بات مشروعا تعاطيه ، بالقدر الذي ساق البلاد الى محاق النعمة ، فانبرى قادتها ، يخبئون ما نهبوا في بنوك الخارج ، ويتسولون الفتات لخداع فئران الخزينة العامة التي كادت تهجر زواياها الخاوية على عروشها! ورغما عن كل ذلك يتحدث سيف الدين البشير المثقف الانقاذي قائلا أن مشكلتنا برمتها استهداف العنصر غير العربي والمسلم ، للحضارة الاسلامية العربية للسودان ، وكأننا من صلب غسان أو مضرأوقحطان أو الجيل الأول من نسب العباس ، وأن حكامنا المستهدفون في عقيدتهم ، هم خّلص من بني أمية ! فراعوا ضميركم يا مثقفي الأنظمة الشمولية ، فنحن لا نحجر عليكم تحيزكم لنظامكم ، ولكن لا تزودوا الصندلية أكثر من اللازم ، يا هدانا واياكم الله . انه المستعان .. وهو من وراء القصد. [email protected]