يُعتبر منصب السفير في واشنطن أحد أهم المناصب الدبلوماسية التي يتنافس عليها رموز الخارجية الباكستانية، ليس لأن واشنطن هي عاصمة القرار الدولي فحسب، وإنما أيضًا بسبب التحالف الاستراتيجي المتين منذ خمسينيات القرن الماضي بين واشنطن والحكومات الباكستانية المتعاقبة. إلى فترة قريبة جدًا كان شاغل هذا المنصب الأثير هو حسين حقاني. وهذا الأخير لمن لا يعرفه كان صحفيًا لامعًا وأكاديميًا معروفًا ومستشارًا لثلاثة من رؤساء الحكومات الباكستانية السابقة، ومبعوثًا لبلاده إلى سريلانكا. وقبل ذلك كان أحد ألمع الوجوه النافذة في الجناح الطلابي لحزب “الرابطة الإسلامية”، كما أنه مقرب من رئيس باكستان الحالي “آصف زرداري”، ومدافع صلب عن الحكم المدني في بلاده، ومنتقد شديد لتدخل جنرالات الجيش والمخابرات في الشأن السياسي، الأمر الذي وتّر علاقاته مع الرئيس السابق “مشرف”. إضافة إلى ما سبق، فهو بحكم شهاداته العلمية الكثيرة في التاريخ والتربية والعلاقات الدولية، وعلاقاته المتشعبة الناجمة عن اشتغاله في الصحافة مطّلع على التاريخ الأميركي، وتربطه علاقات وثيقة مع نجوم المجتمع السياسي الأميركي، لا سيما وأنه متزوج منذ عام 2000 من “فرحناز أصفهاني” (حفيدة أبو الحسن أصفهاني، أول سفير باكستاني في واشنطن) التي كانت تعمل منتجة لمصلحة محطة “سي. إن. إن”، قبل حصولها على مقعد في البرلمان الباكستاني الحالي. في 22 نوفمبر المنصرم خسر حقاني منصبه الدبلوماسي الرفيع بعدما أجبر على الاستقالة، تمهيدًا لمساءلته، وذلك على خلفية اتهام عسكر باكستان وقادة مخابراتها المعروفة باسم له بأنه يوغر صدور الأميركيين عليهم، ويطالبهم بالتدخل من أجل تحجيم نفوذهم خوفًا من قيامهم بانقلاب جديد ضد الحكم المدني. والحقيقة أن موقف حقاني هذا من عسكر بلاده ليس جديدًا، وإنما أورده صراحة في كتاب له صدر في 2005 بعنوان “باكستان بين المسجد والعسكريتاريا”. في هذا الكتاب اتهم حقاني جنرالات بلاده بارتباطهم بالجماعات المسلحة المتطرفة في أفغانستان، ودعمهم لتنظيم “القاعدة” وأشباهها داخل الأراضي الباكستانية. لكن ما فجر قنبلة العسكر في وجه الرجل مؤخرًا، وجعلهم يضغطون على حكومة “يوسف رضا جيلاني” للتخلص منه هو مذكرة قيل إنه رفعها إلى الأدميرال “مايك مولن” قائد هيئة الأركان الأميركية المشتركة، عبر صديقه رجل الأعمال الأميركي/الباكستاني “منصور إعجاز، يبدي فيها انزعاجه من هيمنة ذوي البذلات الكاكية على شؤون بلاده، وقيامهم بتوتير العلاقات الباكستانية – الأميركية، وبالتالي ضرورة قيام واشنطن بالتدخل لحسم الأمور لمصلحة السلطة المدنية وتقويتها. ورغم تنصل حقاني من هذه المذكرة ومن علاقته ب “منصور إعجاز” الذي كان قد كشف النقاب عن الموضوع للمرة الأولى في مقال كتبه في صحيفة “الفاينانشال تايمز”، فإن الضغوط تكالبت على إدارة زرداري/ جيلاني لإجبار حقاني على الاستقالة. ولعل في هذا دليلاً آخر على مدى ما تتمتع به المؤسسة العسكرية الباكستانية من نفوذ، ومدى قيامها بلعب أدوار خفية من وراء الكواليس حينما لا تكون في السلطة. ولأن ترك منصب السفير في واشنطن شاغرًا عمل مكلف وذو نتائج وخيمة على صعيد استمرار تدفق المساعدات الاقتصادية والعسكرية، خصوصًا في هذه الفترة الحرجة التي تتعرض فيها علاقات البلدين الحليفين لأصعب اختبار، ولا سيما منذ استباحة القوات الأميركية للسيادة الباكستانية في مايو المنصرم من أجل قتل “أسامة بن لادن”، دعك من الضربات الجوية الأميركية المتكررة ضد معاقل الجماعات الباكستانية المتشددة في شمال باكستان، فقد سارعت إسلام آباد إلى تعيين السيدة “شهربانو رحمن” أو “شيري رحمن” سفيرة لها في واشنطن، علها تستطيع رتق ما ظهر في ثوب علاقات البلدين من ثقوب. هذا الاختيار المفاجىء، أربك الكثير من المراقبين، بل صار موضوعًا لتحليلات ومناقشات عديدة لم تنقطع حتى هذه الساعة. ولم يكن مرد ذلك عدم امتلاك “شيري” لمؤهلات تناسب عملها الصعب، وإنما بسبب خلفيتها الاشتراكية، وما قد تسببه هذه الخلفية الأيديولوجية من مصاعب في تعاطي رموز الدولة الرأسمالية الأم معها. ولئن كان لأصحاب مثل هذا الرأي بعض الحجة، خصوصًا في ظل الشكوك التي تساور الإدارة الأميركية ممن عيّنها، وهو “زرداري”، فإن ثمة أمورًا قد تسهم في تسهيل مهمة السفيرة، بل وتجعلها قادرة على كسب احترام صانع القرار الأميركي. من أهم هذه الأمور ما يصاحب توجهاتها الاشتراكية من آراء تقدمية ليبرالية من تلك التي تستهوي الأميركيين. فالكل مطلع مثلاً على دورها المشهود في الدفاع عن ملفات هي في صلب اهتمام واشنطن مثل حقوق المرأة، وحقوق الأقليات المسيحية والهندوسية والسيخية في باكستان، ودورها في مقاومة طروحات الجماعات الإسلامية المتشددة وتشريعاتهم، وهو الدور الذي تسبب في تهديدها بالقتل، وبالتالي اضطرارها إلى التزام منزلها طويلاً تحت حماية الشرطة. هذا ناهيك عن دورها المستميت من أجل حرية الصحافة والتعبير أثناء السنوات العشر التي تولت فيها رئاسة تحرير صحيفة (ذا هيرالد) ورئاسة مجلس رؤساء تحرير الصحف الباكستانية (1988-1998)، ثم أثناء شغلها لمقعد في الجمعية التشريعية عن حزب الشعب ما بين عامي 2002-2007، وأخيرا أثناء إمساكها بحقيبة الإعلام ما بين مارس 2008 ومارس 2009. ومن الأمور الأخرى التي قد تساعد “شيري”، معرفتها الدقيقة بالولايات المتحدة انطلاقًا من حقيقة دراستها للتاريخ والعلوم السياسية في كلية “سميث” في ماساتشوتس، ناهيك عما عُرفت به من جرأة فيما يتعلق بترسيخ الحكم المدني الديمقراطي، وهي الجرأة التي اختيرت بسببها كبطلة للديمقراطية في 2006 من قبل مؤسسة “دوفيرين” لدورها في الوقوف مع الراحلة “بي نظير بوتو” في حملة الأخيرة ضد الحكم العسكري، والتي اختيرت بسببها أيضًا ضمن مائة امرأة آسيوية نافذة في 2009 من قبل مجلة “أهلا” الإماراتية. ولعل أكثر من يتخوف من تداعيات تعيين “شيري رحمن” هم الجناح المتطرف داخل مؤسستي الجيش والاستخبارات الباكستانيتين، وجماعات الإسلام السياسي المتشددة. فهؤلاء لم يتوقفوا منذ الإعلان عن اختيارها عن التحذير من أن “وجود امرأة اشتراكية تقدمية بوجه ليبرالي كسفيرة في واشنطن يعني التقاء وجهات نظرها مع وجهة النظر الأميركية حيال أوضاع باكستان المتداعية”، أي، بكلام آخر، تماهيها مع المصالح الأميركية ضد مصلحة بلدها. وهذا منطق بائس لا يستقيم نقلاً عن الأزمة