مما يُروى عن أدب الاختلاف واحترام الآخر حتى لو كان عدواً، أن القائد العسكري المصري المشير عبد الغني الجمصي، أدى التحية العسكرية لقائد عسكري اسرائيلي يفوقه في الرتبة ليرد عليه هذا الأخير بمثلها عندما التقيا للتفاوض حول موضوع اطلاق الأسرى من الطرفين، والانسحاب من بعض المناطق المتداخلة في أعقاب حرب أكتوبر 1973م، ويروى كذلك أن جنرالاً أمريكياً وقف بكل الاحترام وأدى التحية العسكرية كما ينبغي للقائد العسكري العراقي الذي هزمه في حرب الكويت عندما التقى به داخل خيمة ضمت أطرافا أخرى اجتمعوا فيها لتسوية بعض الشؤون، ومالنا نذهب بعيداً فعندنا هنا في السودان حفلت مضابط الجمعية التأسيسية خلال سني الستينيات وما قبلها بأدبيات رائعة وراقية في السجال السياسي، وكلمات أنيقة ونكات ذكية يتم تداولها في صلب الجدال والحوار بين التيارات السياسية المختلفة، ثم ما لبث الحال يتدهور ويتدنى حتى بلغ مرحلة التنابذ بالألقاب التي «استنتها» صحافة الجبهة الإسلامية خلال العهد الديمقراطي الذي أعقب انتفاضة أبريل، فظهرت مسميات قبيحة مثل (منتشة) الذي أطلقوه على مولانا أحمد الميرغني الذي كان يرأس مجلس رأس الدولة حينها، وذلك سخرية منه على طريقة قراءته للآية الكريمة «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير»، ومثل لقب «التوم كديس» الذي أطلقوه على وزير الاعلام عن الحزب الاتحادي وقتها، التوم محمد التوم، و«البراميلي» الذي ألصقوه بعبد السلام الخليفة، و«أبو كلام» وغيرها من مسميات تدخل في عداد التنابذ بالألقاب، ولم يقف التدهور والتدني عند هذا الحد وإنما كاد يبلغ الآن في العهد «المواسيري» القائم مرحلة شتائم الضرات والفاتيات من شاكلة «نحنا نشتت وخلق الله تلقط، وأعملوا لاين وأقيفوا بهايند، وأعملوا شخيت وأقيفوا بعيد، سجم وكمان عدم فهم يا بجم»، بعد أن بات قاب قوسين أو أدنى لتخطي مرحلة «لحس الكوع وأولاد الحرام وأولاد الذين»… ولن نبريء الطرف الآخر، فالقاعدة الذهبية تقول كل سخرية تقابلها سخرية أخرى مساوية لها في المقدار ومضادة لها في الاتجاه، فهؤلاء أيضاً لم يقصروا أو تقاصرت همتهم عن إطلاق ألسنتهم بالأوصاف والنعوت الشتائمية الغريبة على قيادات الطرف الآخر مثل «أبو ريالة» و«أبو خشم» وغيرها، ونخص هنا بالذكر الدكتور أمين حسن عمر الذي ربما يدري أن البعض يطلق عليه لقب «أمين المسيخ»، وربما لا يدري لقبه الآخر «أمين منتشة» لطريقته المستخفة بالآخرين المختلفين معه حتى لو كانوا من بني جلدته الايدولوجية والتنظيمية، ولم نخصه بالذكر هنا إلا لأن ما أدلى به من عبارات مسيئة للمعارضة ومستخفة بها في صالون الراحل سيد أحمد خليفة وصلت حد وصفها ب«المضحكة بتسكين الضاد وفتح الحاء» جعلنا نهرع إلى التاريخ الوضيء نستنجد به من أجل ترقية وتنقية الحوار السياسي من الأوشاب اللفظية وإصحاح بيئة الاختلاف من الحسك والقشف ولغة «الرمتالة»، فذلك هو أول عتبات التعافي الوطني، وحاجة الساحة السياسية لروح رياضية في ادارة الاختلاف أكبر من حاجة الوسط الرياضي الذي ينخرط هذه الأيام في حوار منتج حول ما أسموه اتفاقية الجنتلمان بين الهلال والمريخ….