فيصل عباس [email protected] لقد أصبح من المألوف بل من الطبيعي أن نطالع في الصفحات الأولى عبر العديد من الصحف اليومية أخبار غريبة تتحدث عن الجرائم التي لم يألفها المجتمع السوداني صاحب القيم والأخلاق النبيلة حيث نجد أن الكثير من تلك الجرائم والحوادث أصبحت تشكل مادة دسمة إعلامياً ليس على الصعيد المحلي فحسب , بل تجاوزت إطار المحلية إلى خارج الحدود مما جعل الكثير من الصحف اليومية تتخصص في ذلك وجعلت من عكس ونقل فظاعة تلك الجرائم والحوادث ضرباً من ضروب السبق الصحفي من اجل تسلية القارئ وإمتاعه بهدف زيادة مبيعاتها من النسخ التي تحمل في طياتها التفاصيل الكاملة لكل ما قد حدث , هذا إلى جانب كافة فنون التشويق لمعرفة ما حدث مما أدى بالبعض إلى تقسيم وترتيب هذه الحوادث إلى حلقات تماماً كالمسلسل اليومي الذي يركز على عنصر التشويق لمعرفة الحلقات التالية من القضية , كما أن بعض الجرائم والأحداث قد تتجاوز آفاق التصور إلى الحد الذي يجعل البعض يشكك في أنها ضرب من ضروب الخيال قد نبع من عقل الكاتب وحده . فمن زاوية ناقدة نرى أن القارئ الكريم يتم إقحامه في التعرف على النتيجة التي ناطحتها الجريمة دون أن تترك له فرصة التعرف على الدوافع التي أدت إلى حدوث الجريمة . ذلك في وقت نفدت فيه صلاحية تلك الأسباب وقلت أهميتها بالنسبة للقارئ والصحفي صاحب السبق الإعلامي , فمثلاً مما لا يهم القارئ هو أن يتعرف على التركيبة النفسية للشخص مرتكب الجريمة و الدوافع التي شجعت الجاني على ارتكاب فعلته الشنيعة وماهية المعالجات الممكنة التي قد تصلح لتجنب حدوث مثل تلك الجرائم وتكرارها لمرات أخرى ,. ويمكننا إن نوجز إن كل ما يحدث في الأمر عبارة عن أمراض اجتماعيه فتاكة أصابت الإنسان السوداني الذي أصبح يرزح في مجاهل الأمية والفقر والحرمان , و فقد على اثر ذلك الهوية المتوازنة مما أدى به في نهاية المطاف إلى أن يتحدى المنطق الأخلاقي القائم على الوعي العقائدي السليم والمعتدل , منحرفاً بذلك عن الخط الذي تعارف عليه أفراد المجتمع . وأصبح يتمتع بسلطة مفرطة في البحث عن المبررات لكل ما هو غريب وخارق للعادة الإنسانية , عله يجد في ذلك هوية ضاعت وتبعثرت في ركام المشكلات الاقتصادية و الاجتماعية . وكانت المحصلة النهائية أن تفاجئنا بأحداث تقوض أبواب مجتمعاتنا بعنف وتتجاوز كافة الخطوط الحمراء التي وضعها المجتمع مستبيحة بذلك المساحات بين جدران البيوت العفيفة دون استئذان أو تردد , ليأتي القارئ على اثر ذلك في نهاية المطاف ليطالع الأخبار اليومية والعياذ بالله عن زنا المحارم – اغتصاب القصّر – ادعاء النبوة – الازدياد المخيف لإعداد الأطفال مجهولين الأبوين – النهب والسرقة – تعاطي المخدرات والاتجار فيها – التطاول على العقيدة – التكفير الخ ) . كما أن هناك بعض الجرائم التي أصبحت جزء لا يتجزأ من المجتمع ومن مكوناته, أي تلك الآثام التي وجد مرتكبوها أنهم يقودون دفة المجتمع الذي ألبسهم ثياب المحاربين المنتصرين , إلى جانب منحهم أوسمة وأنواط الشجاعة , ليس لشيء إلا لمقدرتهم على كبح جامح الضمير الإنساني الذي يحاسب ويخشى الحساب , من اجل الكسب السريع والتميز في مجتمع ذبلت فيه معظم القيم الأخلاقية , فدخلت مسميات جديدة إلى العامية السودانية من أمثال (ملح لح – مفّتح ) لأصحاب الكسب السريع و الغير مشروع , وممن برعوا في نسج خيوط الجريمة الكاملة , وكذلك عبارات من قبيل (تمساح كبير) – والذي هو في الأصل احد كبار اللصوص بما لا يدع مجالاً للشك ممن أدمنوا السرقات الكبيرة . وهذه هي النتيجة الطبيعية لكل ما عشناه من ثكل وإهمال في كل المؤسسات الكفيلة بتوجيه ورعاية المجتمع وصيانة القيم الاجتماعية, كما أن هذه المؤسسات بما فيها الحكومات ودور و مناهج التربية والتعليم قد تم إقصاء دورها وفاعليتها نظراً للعوامل الاقتصادية والسياسية مما أدى إلى انعدام الوعي الاجتماعي و الديني إلى جانب غياب السياسات والخطط الإستراتيجية للتنمية البشرية , وترك الشباب وأفراد المجتمع يرزحون في بيئات غير صحية وغير سليمة تفتقر إلى ابسط مقومات حياة الإنسان ( الذي لا يحيا بالخبز المنعدم أصلاً وحده ) وتركهم دون إدراك بما يدور حولهم أو حتى أن يكونوا على استعداد لقبول التوجيه والنصح والإرشاد مما جعلهم صيداً سهلاً وثميناً لكل الأفكار والمفاهيم التي ليست غريبة على المجتمع وحده فحسب, بل على السجية الإنسانية بأكملها, نظراً لانشغال أجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة وولاة الأمر في منظمات المجتمع المدني بالصراعات السياسية والحروب , و تركيز جل اهتمامهم وجهدهم على كيفية المحافظة على قيادة الدفة التي أخفقوا مسبقاً في توجيهها , هذا إلى جانب المكوث طويلاً على كراسي السلطة . وحسب ما أرى , فان هذه هي النتيجة الطبيعية للقضايا سالفة الذكر , كما سوف تكشف لنا الحقب القادمة الكثير والمثير من القضايا المماثلة حمانا الله وإياكم , إذ سنحتاج قريباً إلى المزيد من الدور كدار المايقوما , لطالما ظل التمساح تمساحاً والملح ملح لحاً ..