عدنان الحلفي.. اختير العقل العربي ليكون أنموذجاً لدراسة أسباب الواقع المتردي في الشرق الاوسط لان العرب هم الذين صاغوا آلية التفكير هناك على الرغم من اختلاف القوميات والاعراق وحتى الاديان في الشرق. العرب تفاعلوا مع قضية الاسلام منذ الضوء الأول لظهور فكرة الدين الجديد في جزيرتهم القاحلة التي هي ليست ذات زرع ولا ذات ماء؛ و كانت الفكرة مهمة لديهم خصوصاً بعد وفاة النبي محمد (ص)، اذ تحولت الى اجندة سياسية واقتصادية للتمدد خارج تلك الارض المقفرة. ومن هناك بدأ الصراع بين العائلات القوية للسيطرة على ذلك الدين الذي يشكل المواد الاساسية لاجندات التمدد. ومنذ ذلك التاريخ الى الوقت الحاضر استُعمل الدين الإسلامي لأغراض ومصالح دنيوية ادت به في ظاهره على الاقل الى الانحراف التام عن فكرة النبي والقرآن الكريم الذي أُريد من خلالها للإسلام أن يكون دين محبة وتسامح وتربية وتعليم.. الا أنه تحول إلى دين سياسة وتصادم مع الاخرين كأي حزب سياسي يناضل من اجل مصالح وافكار وسياسات باسلوب ميكافيلي واتباع سياسة الارض المحروقة والغاية تبرر الوسيلة حتى اصبح هذا الفكر والتوجه الجديد يهدد الامن والسلم العالميين..!! وقد توضح ذلك جلياً هنا في ساحة الغرب، اذ مهما حاول الخيرون توضيح فكرة الاسلام الحقيقية وازالة اللبس عنها بقي الخلط واقعا مثل اختلاط حبات السمسم مع حبات الرمل. من هنا وجب ان نمر في محطات البحث على المراحل التي أشاعت انحراف العقل العربي في محاولة لتشخيص بعض الحقائق التي اوصلت الانحراف الى مرحلة تفجير الجسد الانساني وهي: أولاً: إسقاطات العرف العربي على الدين الإسلامي. ثانياً: الوصاية على الاخرين. ثالثاً: الحاكمون والاسلام السياسي. رابعاً: نمو الدكتاتوريات العائلية. اولاً : اسقاطات العرف العربي على الدين الاسلامي: لا أكشف جديداً حين اقول ان شعوب المنطقة العربية والشرق اوسطية عموماً هي محكومة باساليب عرفية اجتماعية طاغية على اي تشريع اسلامي على جميع الاصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي بطبيعة الحال امتداد لقيم الصحراء التي حاول الاسلام حذفها وتطويرها ومجاراتها احياناً لاعتبارات التدرج السوسيولوجي. ولكن يظهر أن قيم الصحراء مازالت الى الان تشكل الايقاع العام لسير التفاصيل الحياتية في المنطقة، أوتتحول أحياناً إلى فايروسات تهاجم التغيير والتطوير وحتى التدين المعتدل بعيداً عن التفسير ولوي الفهم القرآني بالطريقة التي تناسب الاجندات الاقتصادية والسياسية. ويستدعي ذلك بطبيعة الحال الابقاء على قيم الصحراء التي تناسب الاجندات المصلحية بشكل عام. وقد استغلت ذلك مجاميع فاسدة ومخططة للابقاء على العرف المنحرف والحفاظ على مصالحها وفي مقدمتهم الانظمة السياسية والمشيخات الدينية المتطرفة. ولتكون الفكرة واضحة نسوق المثل الاتي : جرت العادة الشرق اوسطية على ان تكون المرأة الجزء الثانوي في المجتمع واحياناً هي الجزء المهمل الذي يُستعمل لدفع الدية في حل النزاعات..وحاولت قوى اجتماعية عديدة محاربة التحرر والمساواة لانها تزعزع سلطة الرجل الشرقي ونظام تعدد الزوجات والخليلات، وكلما زاد اضطهاد المرأة زادت سلطة الرجل وهكذا تحول مجتمع الشرق الى مجتمع ذكوري.. في حين لم يذكر القرأن الكريم مجتمع الرجال الا وذكر الى جانبه مجتمع النساء، المؤمنون والمؤمنات، الصادقون والصادقات، الزانية والزاني. وجرت العادة ايضاً على أن تُزوج المرأة من دون اخذ رأيها وهو زواج إسلامي باطل لأنه فاقد شرط الايجاب والقبول. وجرت العادة ايضاً ان تذبح المرأة لمجرد الاشاعة في تهمة زنا في حين اشترط الاسلام ان كون هناك اربعة شهود رأوا العملية بأكملها وهي من صلاحية الحاكم الشرعي لينفذ او لا ينفذ القصاص المناسب الذي يراه.أي هي دعوة قرانية صريحة لسيادة القانون الفيصل الوحيد في المعالجة. في حين نرى ان القانون الامريكي الذي يستند الى اسس وضعية بحتة تراه قريباً جداً من القانون الاسلامي فهو يحرم الخيانة على الزوجين ويمنع استخدام العنف ضد المرأة والطفل (Domestic Violence) بقوة ويعطي للمرأة حق مناصفة الرجل بكل املاكه التي امتلكها اثناء فترة الزواج في حالة الطلاق، وفرض على الرجل حق النفقة على اولاده دون سن الثامنة عشر (1) (Child support) وغيرها من الحقوق التي حافظت على المرأة من الاستغلال والتسلط. واللافت للنظر هنا أن قضايا الأحوال الشخصية وقضايا الزواج والطلاق في الولاياتالمتحدةالامريكية هي من اسرع القضايا التي يبت فيها في المحاكم على عكس المحاكم في الشرق الاوسط التي تجعل الوقت احد عوامل المظلومية التي تقع على المرأة(2). الفكرة اذن هي ان القانون الاسلامي او الفكر الاسلامي بشكل عام في الواقع الشرق اوسطي هو طبعة باهتة او منحرفة عن تعاليم الدين الاسلامي الحقيقي ازاء تنامي قوة العرف الاجتماعي الواضحة المعالم في الشارع العربي. وهناك مجموعة اسباب لظهور هكذا اوضاع مختلفة ليست محل بحثنا منها رسوخ قيم الصحراء في المدن التي هاجر اليها العرب، وعدم وجود ثقافة القانون واحترام سيادته كذلك ضعف متابعة السلطات التنفيذية وعدم حرصها على تطبيق القوانين القليلة الموجودة يضاف الى ذلك بطبيعة الحال،الفقر والجهل والتخلف الناتج عن غياب برامج التطوير الاقتصادي والثقافي والاجتماعي الاهلي الذي تقوم به مؤسسات غير حكومية محسورة جداً واحياناً ممنوع تشكيلها في الشرق الاوسط. هذه أزمة بطبيعة الحال شكلت احدى الاليات المنحرفة للعقل العربي الذي يزن على اساسها كثير من تفصيلات الحياة بشكل يومي تقريباً. ثانياً : الوصاية على الاخرين. تتجلى هذه الالية الخطرة بوضوح في الشرق العربي التي تأكل بالمجتمع منذ الاف السنين، فالذي اغتال الخليفة الثاني عمر والخليفة الثالث عثمان والخليفة الرابع علي كان يعتقد بانه انطلق من النص القائل : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده… ولكون الفاعل شخّص المنكر فقد بادر الى تغييره لاصلاح امور الامة وهكذا فرض مشروع اصلاح الامة قتل الحسين بن علي بن ابي طالب ومحمد باقر الصدر ومحمد باقر الحكيم وبائعي الخضرة وطلاب المدارس في العراق من اجل تغيير المنكر وارجاع الجيش الامريكي الى بلاده!!!. ان الغرابة في الاغتيال السياسي في صدر الرسالة الاسلامية تكمن في كونه مورس بتخطيط وترصد من قبل اصحاب اجندة سياسية ومصلحية وباستغلال النظرية الدينية الجديدة ورؤيتها للدين والاصلاح وحماية تلك النظرية ذاتها كما اعتقدوا من الانحراف أو على الأقل ذلك ما كان يعلن عنه في حينه. الأدوات العقلية نفسها في الذهن العربي التي فرضت قانون النهي عن المنكر وخططت ونفذت للاغتيال السياسي كانت تدعم مشروع الاجندة السياسية، فقد اشترك في المخطط فريقان: الفريق الاول : كان يرى الدين نصوصا ومسلّمات يمكن تطبيقها من دون الرجوع إلى الحاكم الشرعي، وهو الأداة الضاربة بأمر الفريق الثاني. الفريق الثاني : هو الاذكى وهو صاحب أجندة السيطرة المصلحية التي تستدعي ايجاد ادوات مؤمنة وموقنة بانها تنفذ ارادة الهية وستدخل الجنة، وبذلك تمت المقايضة بصفقة كبيرة بين الفريق الثاني الذي سيحكم الارض ويفرض دين الله على عباده – شعارات ترفع للمحافظة على المصالح – وبين الفريق الاول الذي سيذهب الى الجنة ويعيش خالداً مع الحور العين. الا أن مبدأ الوصاية ينبعث ويتجدد باستمرار بدفع وتشجيع من الفريق الثاني الذي يقوم باحياء الفكر التحريضي عن طريق تضخيم النص الديني مستخدماً الدعم اللوجستي والاموال التي ترصد لهذا الغرض وتستغل الادوات المتوفرة في كل زمان من ازمنة العرب الذي ما انفك ان يفارقه هذان الفريقان. فاحياء الوصاية عن طريق استخدام الاعلام المعاصر جعل الامور ميسرة امام الفريق الثاني الذي صار يضرب باي مكان يراه منكراً واجب التغيير باليد والمتفجرات وتفخيخ السيارات وتلغيم الاجساد الادمية للتنعم بالخلود مع الحسان. في حين وجد الفريق الثاني (الاكثر خبثاً واستراتيجية) ان الدعم اللوجستي للمعركة الدائرة هو ليس الاموال فحسب بل هي المسلّمات الموجودة بداخل كل مسلم وآلية العقل العربي للتعامل معها. ففلسفة الموت في الاسلام مثلاً تتحول الى حياة سعيدة اذا كان الموت بسبب الجهاد في سبيل الله، ولكن من يحدد فكرة الجهاد؟ ومن هو العدو؟؟ هنا جاء دور الفريق الاستراتيجي الثاني ليشخص العدو ويسيطر على زمام الامور والعمل على استخدام تلك المسلّمات وتحويلها الى مادة متفجرة بوجه العدو المفترض!! والعدو الذي يحدده الفريق الثاني: هو كل من يقف بوجه التوسع للاجندة المصلحية المؤمل استثمارها. كما هو الحال في استخدام تلك السياسة في تنفيذ الاغتيال السياسي لخلفاء المسلمين ومن ثم سيطرة اصحاب الفريق الثاني على مقاليد الامور بعد تقاسم السلطة بين عوائل النفوذ والقوة في الجزيرة العربية انذاك. لكن بقيت تلك الالية المنحرفة في الذهنية العربية تشكل احدى اليات العقل العربي التي تتحكم بمصير الملايين من المسلمين، وانتشرت تلك الالية المنحرفة في ذهنية الملايين منهم في الوقت الحاضر كإحدى آليات الانحراف في العقيدة والفكر والعقل العربي والإسلامي والذي لا يمكن التخلص منها طالما يوجد فريق الاستراتيجية الذكية الذي يغذي التطرف وينفخ بالمسلّمات العقيدية كالجهاد ومفهوم الشهادة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وفريق التدين المتطرف الذي لا يستند الى العقل والمنطق. ثالثاً : الحاكمون والإسلام السياسي لقد استفاد الحاكمون المسلمون في دعم حكمهم من الخلط الواضح بين ماهو ديني وماهو سياسي في الاسلام، وان كانت تلك نظرية مثيرة للجدل، فما زال العديد ممن يدعون الى الفصل بين الدين والدولة، ليس حفاظاً على الدولة فحسب بل حفاظاً على الدين ذاته من التضرر والتجاوز وافراغه من محتواه، كونه يختص بخلق الانسان وسمو روحه وانعاش ضميره ومنعه عن ممارسة الظلم والجريمة والتجبر كيما يكون سوياً صالحاً ملتزماً بالقانون غير متمرد ولا منفلت يحقق الهدف الالهي في سببية خلق الانسان ككائن معمر في الارض لا العكس (اني جاعل في الارض خليفة) (3). (البقرة 30). واذا كان الدين احد المدخرات الاساسية للانسان فيجب ان يبقى بمنأى عن المصالح السياسية التي لها من الاليات الكثيرة للتعاطي مع هذا العالم وليس من العدل اقحام الدين في تشابكات تلك المصالح. ومن المعروف ان الدين الاسلامي أُريد له ان ينتشر داخل المجتمعات البشرية بغض النظر عن انظمتها السياسية وباسلوب حضاري رائع يعتمد على الحوار والتفهم (لا اكراه في الدين)(4) (البقرة 256) و (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (5) (النحل 125) وقد تحقق التعامل مع غير المسلمين في كثير من الدول التي دخلها المسلمون واسقطوا انظمتها بالقوة على وفق قوانين مدنية يحددها القانون الاسلامي آنذاك، كدفع الجزية وعدم الاعتداء على المدنيين وما الى ذلك. وفي هذا السياق يذكر الكاتب اليهودي يوري افنيري في ردّه على تصريحات بابا الفاتكان حول استخدام الاسلام للقوة في الانتشار : ((…فقد نعم يهود اسبانيا تحت حكم المسلمين بازدهار لم يتمتع به اليهود في اي مكان من العالم حتى وقتنا هذا تقريباً، فقد نظم شعراء مثل يهودا هاليفي (الشاعر الاندلسي المعروف باسم ابو حسن اللاوي) باللغة العربية، كما كان يفعل الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون العظيم. وفي اسبانيا الاسلامية شغل اليهود مناصب وزراء وكانوا شعراء وعلماء معروفين وفي طليطلة الاسلامية كان العلماء المسلمون واليهود والمسيحيون يعملون معاً وقاموا بترجمة النصوص اليونانية الفلسفية والعلمية القديمة، كان ذلك حقاً عصراً ذهبياً، فهل من الممكن ان يكون النبي قد امر بنشر الدين بالسيف ؟؟)) (6). ((Forum & Link October – 5 -06). هذه الشهادة من خارج اوساط المسلمين تكشف الانحراف الحالي في التوجه المتطرف للاسلام السياسي الذي يعادي اتباع الديانات الاخرى في البلدان الاسلامية والعربية وكذلك سكان اوربا والغرب المسيحي بشكل عام. باعتقادي ان الاسلام لايركز على بناء الدولة والنظام السياسي الى حد ما بالقدر الذي يركز به على بناء الانسان والتعامل مع حالته النفسية والروحية والاخلاقية والسلوكية واعطاءه كم هائل من القصص والتجارب التي سبقته للاستفادة منها في تدريبه على الالتزام بالقانون. لانه اذا تمكن من بناء الانسان فان الاخير قادر على بناء الدولة والنظام السياسي بالشكل الذي يراه مناسباً لطبيعة كل شعب، ولا مانع من الاستفادة من التشريع الاسلامي او التشريعات الاخرى التي استفادت منها شعوب اخرى وثبت نجاحها. وكذلك من الممكن تعطيل كثير من التشريعات الاسلامية التي لا تتناسب مع روح العصر، فلا يمكن في الوقت الحاضر قطع يد السارق او استخدام الجلد والرجم في العقوبات لانه منافي للوائح حقوق الانسان التي توصي بالغاء عقوبة الاعدام او في اسوء الحالات استخدام طرائق حديثة لا تُشعِر المحكوم عليه بالاعدام باي ألم . فقد عطل الخليفة عمر الكثير من النصوص، كتوزيع الصدقات من بيت المال على المؤلفة قلوبهم، او تعطيل زواج المتعة، ولم يتعامل مع النصوص تعاملاً مقدساً لانه كان يرى حل مشاكل المجتمع وتقوية الدولة في مرحلة حكمه على اقل تقدير في تجاوز النص وكسر الجمود والصنمية به، وصولاً الى المساحة التي يتحرك بها العقل وادواته في استحداث التشريع وهو ما توصل اليه الشيعة الامامية فيما بعد في اكتشاف منطقة الفراغ التي تخول المرجع الاعلى وتمنحه القدرة على الإفتاء والتشريع المرن. يبدو ان المجتمع العربي والاسلامي الى الآن لم يتمكن من قراءة المغزى السياسي للنظرية الاسلامية. فالاسلام كدين يحتوي على جوانب روحية واخلاقية تحاول صناعة انسان صادق لا يكذب وامين لا يمارس الفساد الاداري ولا الرشوة ولا السرقة اثناء عمله في الدولة، وملتزم يحترم سيادة القانون ولايتورط بالجريمة والقتل بحيث تنفذ بحقه قوانين القصاص وتعطل حياته وبالتالي تفقده الدولة ويفقده المجتمع. من هنا تتوضح فكرة الدولة والنظام السياسي سواء كانت تلك الدولة علمانية بحته تشرع قوانينها على اساس التشريعات الوضعية، أو دولة دينية تعالج قضاياها على اساس التشريع الديني، وفي كلا الحالتين تحتاج الدولة الى الانسان الصالح والا لا يمكن انشاء مجتمع اونظام سياسي يوفر الطقس الايجابي للانسان كي يمارس دور الاصلاح في الارض وتنفيذ الارادة الالهية في الخلق. ويرى المشرعون على سبيل المثال في الولاياتالمتحدةالامريكية ان هناك خمس مؤسسات يجب حمايتها لانتاج انسان قادر على البناء وهي: الدين الحكومة الأسرة الاقتصاد والدستور وعلى الرغم من أن أميركا هي دولة علمانية ولكنها تعتقد بان حماية المؤسسة الدينية في مجتمعها تعد احد الركائز الاساسية لبناء الدولة والمجتمع، وهي بذلك توفر دعماً خاصاً للمؤسسات الدينية من اموال دافعي الضرائب الامريكان بحيث لو دفع المواطن الضريبة السنوية أو تبرع بمبلغ إلى الجامع أو الكنيسة أو أي مكان عبادة اخر او مؤسسة خيرية غير نفعية فانها تخصم من المبلغ السنوي الذي يجب ان يدفعه الى الدولة كضريبة سنوية. ولدى الدول الاسلامية مايقابل ذلك في قضية الخمس والزكاة ولكن ليس بهذا التنظيم وهذه الدقة في الولاياتالمتحدة، وهي تجربة بشرية ناجحة مبنية على تجارب الشعوب والحضارات الاخرى التي قدمها القران القديم الى المجتمع المسلم. اما سيادة القانون والدستور فهي من محميات المؤسسة الحاكمة وهي التي توفر ضمانة مستمرة لحماية الأسرة والاقتصاد وتجعل الحكومة تحت المراقبة الدائمة من الاعلام ومؤسسات المجتمع المدني. اذن فالخلط بين الدين كقيم عليا والاسلام السياسي وفر آلية تفكير خاطئة وتحول الدين الى حزب او قبيلة وجب الدفاع عنها لانها بخطر بحسب ما يصرح به أصحاب الأجندات السياسية الدينية الذين يُعدون من ابرز المسؤولين عن هذا المستوى من الانحراف الديني والتطرف والتشويه للإسلام في العالم، في الوقت نفسه تركت الأسرة المسلمة الفقيرة واقتصاد المجتمع المنهار ومستواه الثقافي المتواضع، كل ذلك ترك جانباً ورفعت راية الجهاد !! الجهاد ضد الكفرة من مسلمين ومسيحيين ويهود وجميع انواع البشر في حين تُرك العدو الحقيقي ينمو ويتمدد بشراهة في المجتمعات الاسلامية الذي تسبب في كل تلك الازمات والاحتلالات والدكتاتوريات وهو التخلف والجهل والفقر. وتلك كانت الالية المنحرفة الثالثة للعقل المسلم. رابعاً : نمو الدكتاتوريات باسم الاسلام. ان الفهم الخاطىء للنص القائل: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)(7) النساء 59، هو وراء نمو أعتى الدكتاتوريات الوراثية في الشرق الاوسط، ابتداءاً من الدولة الاموية الى الدكتاتوريات المعاصرة في العالم العربي. وجميع تلك الانظمة اشتركت في استخدام الدين لتثبيت انظمتها المتسلطة، وهناك في الموروث الديني احاديث منسوبة الى النبي(ص) وضعتها انظمة سياسية ذات مصالح في السيطرة والحكم لتزيد من خنوع المجتمع للسلطان وعدم التدخل بشؤون الحكم. إن الملوك والسلاطين والرؤساء والزعماء المسلمين ميزوا انفسهم عن المجتمع، وكانوا ينظرون بدونية اليه، بل وثقفوا المجتمع على الخنوع والتذلل والدونية ايضاً، واستخدموا أدوات التجهيل والإذلال والتجويع والترويع والتهم الجاهزة بنظرية التامر مع الامة المحكومة. وبمرور الاف السنين وتعاقب اجيال عديدة على هذا الحال تحول المواطن العربي الى خانع ذليل جائع متصالح مع الفقر والالم والمرض ينتظر الفرج من الله سبحانه أن يعوضه عن ذلك بعد مماته !! لذلك فالمواطن العربي والمسلم عموماً هو اقرب الى تجنيده في لعبة تفجير الجسد بواسطة الاستعداد الديني للموت، لانه اقرب اليه من الحياة التعيسة المليئة بالفقر والحرمان!!. في حين ينعم السلطان وحاشيته بكل ما انزال الله من نعم. ويأمر شيوخ الدين ورواة الحديث ان يكثروا من احاديث الترويع والتهديد لمن يخالف ارادة الله التي هي من ارادة السلطان، وكذلك الأحاديث التي تبشر الجائعين والصابرين الذين لا يزعجون الزعيم… لقد ناضل السيد جمال الدين الافغاني اواخر القرن التاسع عشر ضد الدكتاتوريات في العالم الاسلامي، وكان يرى صعوبة اي تقدم للامة بدون التخلص من الاستبداد، بما في ذلك الاستعمار القديم، لكنه كان يرى الاستعمار والتخلف نتيجة طبيعية للدكتاتوريات في العالم الاسلامي. لقد حاول السيد جمال الدين الافغاني ان يضع عربة الحكم في السكة الصحيح، وكان من ثمارها تفجير قضية الدستورية في ايران كتوجه سياسي وطفرة نوعية في نظام الحكم في الشرق الاوسط. وعلى الرغم من ان السيد جمال الدين الافغاني توفي قبل الدستورية (1889) في اسطنبول(8)، (الحركات الاسلامية في القرن الرابع عشر الهجري/ مرتضى مطهري) الا ان افكاره وكتاباته ودعواته التي تركها اعتملت ووجدها الرعيل الاول من النخب الدينية والسياسية بانها المخلص من الازمات التي كانت تعصف بالشرق آنذاك، فشكلوا جماعات ضغط على شاه ايران وسلطان الاستانة وخديوي مصرعام 1905 لالزام الحاكم بمجلس امة منتخب ! وعلى الرغم من ان الفكرة موجودة في القران الكريم (وامرهم شورى بينهم)(9) الا ان الدعوات الدستورية آنذاك أو ما تسمى بالمشروطة شكلت واقعاً مرعباً وتسببت بازمات سياسية واجتماعية ودينية وسارع السلطان عبد الحميد في عقد لجنة من علماء الدين المسلمين في العراق من السنة والشيعة للتبشير بما يسمى بصحيفة عبد الحميد بينهم الشيخ كاظم اليزدي والشيخ ابو الثناء الالوسي للتبليغ بان السلطان هو شيء مفروض من الله ضمن قضية الخلافة واولي الامر منكم(10) (تأسيس المجتمع المدني في العراق/ بيروت1997/ للكاتب)ٍ وهو امتداد طبيعي منذ انشقاق معاوية عن خليفة المسلمين علي بن ابي طالب (عليه السلام)، وتفرد معاوية بتأسيس نظام حكم استبدادي عائلي بقوة الجهل والدين والاحاديث الموضوعة واطاعة اولي الامر، وتلك كانت جذور الانحراف الى يومنا هذا. ثقافة الاستبداد على الوفق من ذلك تأسست إمبراطوريات ضخمة كان احد اهم ادواتها الدين الاسلامي، وهكذا كانت الامبراطورية الاموية الاولى والثانية والامبراطورية العباسية والامبراطورية العثمانية انتهاءً بدكتاتوريات مصر وايران والعراق. تسبب ذلك بشيوع الاستبداد والتفرد بالرأي كثقافة وعرف منحرف من اعراف المجتمع العربي والمسلم، انتهاءً باستبداد الرجل في منزله وتسلطه على زوجته واولاده. اكثر من 1400سنة مرت حين جاء النبي محمد (ص) بالشورى كنظام بديل للاستبداد وحماية للمجتمع من الظلم والدكتاتورية، لكنها ضاعت هباءً!!. ويحاول المجتمع العربي والمسلم اليوم ان يتعلم ويستلهم قيم الديمقراطية لكنه لا يستطيع، لان الامور قد اختلطت عليه ولن يتمكن لا من الاستفادة من التجارب البشرية للمجتمعات الغربية ولا من الخطاب القراني الصريح بمنع العنف والاستبداد والتطرف. تسبب ذلك الخلط بنمو آلية عقلية منحرفة خطرة لا تتمكن من استلهام التجارب ولا العيش بسلام ورخاء وانقاذ الامة. وقد ذهبت هذه العقلية المنحرفة وليدة الظلم والاستبداد الى تشخيص اسباب الازمة بعيداً عن الواقع، واخذت تبحث عن عدو مفترض تعلن الجهاد عليه وهو الغرب والامم المتقدمة غير المسلمة بدلاً من البحث في داخل المجتمع العربي والمسلم لتكتشف الاستبداد والدكتاتوريات والتخلف وعدم الفهم الديني والانهيار الاقتصادي واسبابه والامية وغياب الادارة والتنظيم في المدن والحياة العامة والتوسع السكاني والتصحر والجفاف والفساد الاداري والرشوة وسرقة المال العام والفوضى الامنية وغياب القانون والمحسوبية والمنسوبية والقائمة تطول… هل يمكن تجاوز كل ذلك واكتشاف العدو في تفجير برجي التجارة العالميين في منهاتن ؟