تعرضنا في مقال سابق للملتقى التفاكري حول الأزمة السودانية الذي عقد في الدوحة أواخر شهر مايو الماضي باعتباره حدثا مهما كله خير وبركة، بما احتوى من مفاكرات نيرة تحرك العقل وتغذيه بالمن والسلوى، وكان ذلك اللقاء بداية لعزم نخبة مثقفة نحو تفعيل سلطة المثقف ودوره في التغيير المنشود، وكان من ميزاته التقاء كافة الفرقاء في الساحة الفكرية السودانية بجذورها السياسية والاجتماعية والجهوية العديدة، وكذلك اتفاقهم على أنه توجد أزمة وطنية حقيقية، وضرورة الحوار الفاعل والجدي الذي ينهي حالة التمترس وما سمي بالحوارات المتوازية بحيث يحدّث كل جماعة أخوانهم في الرأي حديث تيك لتاك (تيك وتاك بطلان كرتونيان سيئا السمع يردد كل منهما ذات كلام أخيه). وفي مقال سابق تعرضنا لأطروحة أستاذنا المفكر الجاد عبد العزيز الصاوي (السفير محمد بشير) حول مسببات الأزمة وأفق الحل. حيث أكد أستاذنا الجليل إن الديمقراطية نشأت في الغرب كنتاج لثورات فكرية وصناعية وعلمية وسياسية انبنت على تحرير العقل وعلى إصلاح ديني ومفاهيمي، وقال إن ذلك لم يتح لنا في السودان حيث لم نستفد من الناحية الإيجابية في العلاقة بالاستعمار (والصحيح أنه احتلال) مثلما حدث في مصر وبالتالي فإن الهوة لا زالت بعيدة ولا يتم تجسيرها إلا عبر إصلاح تعليمي وتفعيل عمل المجتمع المدني. وقد داخلنا هذه الأطروحة مؤمنين على أن عملية الدقرطة لدينا كانت فوقية ولم تستنبت أو تنبت من أرضها، وأمنا كذلك على ضرورة الاستفادة من الجانب الإيجابي في علاقتنا بالغرب، ولكنا أضفنا عاملا رأيناه مهما وهو الانطلاق من مركزية ثقافية تحمينا من الاستلاب للغرب أو الشرق وتسمح بشق طريق إبداعي خاص بنا يستفيد من تجارب الشرق والغرب بلا نقل بالمسطرة ولكن بالعظة وأخذ الحكمة التي هي ضالتنا أنى وجدناها فنحن أحق الناس بها. وما نحب إضافته لتلك المعاني شذر من الأفكار العالقة أي لم تصل نهايتها بعد، فالأفكار تقطع مشاوير حتى تصل لنظرية أو تحل عقدة، وحينما تعلق تكون أحيانا إضافة للعقد الموجودة: - المركزية الثقافية المطلوبة يجب أن تعلي من شأن الانتماءات الوطنية والقومية والدينية التي تشكل ضمير الأمة بتنوعها وتضافرها في تحديد ملامحها، وفي هذا يجب الوصول لصيغة الوحدة في التنوع، وإبرام المواثيق الثقافية والدينية التي تضمن أن تكون العدالة الثقافية والدينية إيجابية ومتفاعلة مع المجتمع ومكوناته، لا سلبية وقائمة على إبعاد الاختلاف والسعي لصب قوالب خالية من الطعم الثقافي أو الديني أو التاريخي أو الجهوي المختلف. - هناك جدل قديم تلخصه قصة: الدجاجة أم البيضة أولا؟ لقد حاورنا أستاذنا الصاوي من قبل مؤكدين على أن الديمقراطية أولا وهي شرط أساسي لبناء النهضة، ثم وصلنا إلى أن العمليتين متضافرتين ومتأثرتين ببعضهما، إن تدهور البيئة السياسية والفكرية ليس بعيدا عن طول فترات الحكم الشمولي وسعيه الجاد لسد منافذ التفكير الحر، كما أن كبت الحكم الشمولي للعمل السياسي والفكري والثقافي الجاد وسعيه لتفريخ الآخر الانصرافي والمسلي والملهي عن القضايا الأساسية هو السبب في إحياء الانتماءات الأولية من قبلية وطائفية وأسرية وبعث القيم العشائرية والريفية في أبلغ صورها. لكن الديمقراطية لا تكون بدون ديمقراطيين. فكيف نجعل بناءنا الديمقراطي يبدأ من القاعدة وأثناء عهد الشمولية المعادي والخانق لأي اتجاه للدقرطة؟ وهل الاتجاه الأفضل أن نحترز من تدخلات الشمولية بإجراءات شمولية هي الأخرى داخل أحزابنا ومنظماتنا المدنية كما يفعل كثيرون فيحرمون مؤسساتهم من العمل الديمقراطي الحقيقي لمصلحة التأمين؟ أم الأفضل أن نتوكل على الله ونعقد المؤتمرات ونسير في الدرب الديمقراطي إلى آخره بدون أية مراعاة للتدخلات الشمولية بالاختراق والتفتيت؟ هذه أسئلة صعبة وصعبة جدا على الصعيد العملي، وكل الإجابات الموجودة حاليا خاطئة أو ذات آثار وخيمة. - ما هي منابع الاستنارة في بلادنا والتي يمكن أن تكون طليعة فاعلة للإصلاح الديني والمفاهيمي وللتحرر والانعتاق؟ الصاوي يتحدث في كتاباته عن تجريف أراضي الاستنارة السودانية في الثلث الأخير من القرن الماضي باستمرار، معتبرا في كتابات سابقة أن اليسار السوداني شكل واحات للاستنارة. لا ينكر أحد دور اليسار السوداني في تنوير الرأي العام تجاه قضايا مهمة، كقضية المرأة مثلا، ولكننا نرى أن أثره كان وظل نخبويا. والنهضة رهينة باستنفار شعبي، كذلك كان غالب اليسار السوداني قمري العطاء فكريا. كان قمره الأبهى في الستينات وكان الخلاف داخل الحزب الشيوعي مثلا مستوردا بين مناشفته وبلاشفته، ولاحقا كان الخلاف البعثي كذلك مستوردا بين سورييه وعراقييه، والقمر ذو عطاء استلابي فهو مستلب للشمس لا شعاع لها بدونه. لا يصنع شعب نهضة وهو مستلب مهما بلغ شأو الحضارة التي استلب لها. والتجربة الأنصع في التاريخ السوداني القديم كانت في النقلة ما بين كوش المستوردة للحضارة المصرية ومروي التي شكلت الذاتية السودانية فأثمرت أول لغة أبجدية في الكون. - صحيح إن مصر فاقتنا في النهل من المصادر الغربية، ومثلما لهذا إيجابية التلقي الأكبر للتكنلوجيا والعلوم وغيرها من إيجابيات الغرب، إلا أن له سلبية في رأيي هي الأضخم بالمقاييس الكلية إذا جئنا نجرد الحساب. فقد جرى تتفيه كلي للخبرة المصرية التقليدية وتدجين كامل للمؤسسة الدينية ومنابرها وعلى رأسها الأزهر، الذي أحنى محمد على هامته فصار مطبلا للحكام إلا من رحم ربي من علماء الأزهر الذين انعتقوا. والمعلوم أن النهضة ليست في التتفيه أو التدجين ولكن في الإصلاح الداخلي الحقيقي لكل البنى المجتمعية التي تشكل لبنات الدولة المراد دقرطتها. بالطبع حدث لنا أمر مشابه في السودان ولعل أبلغ ما اطلعت عليه في وصف القسمة الضيزى التي قسمها الاحتلال بين شقي البلاد التقليدي والحديث هي كتاب أستاذي البروفسر عبد الله علي إبراهيم (الشريعة والحداثة) وسماها القسمة المانوية. وبرأيي إن طريق النهضة كامن في مراجعة ملف هذه القسمة، وذلك بتطوير القسم الحديث ليكون أكثر ارتباطا بالجذور وأكثر إيمانا بالتأصيل الحضاري والثقافي، وفي تطوير القسم التقليدي ليكون أكثر حداثة وإيمانا بالعقل وحقوق الإنسان والتزاما بالمدنية وقيمها. فإن كان القسم التقليدي ينقص استنارة وعلما فإن القسم الحديث ينقص مركزية ثقافية. وكلاهما ضروريان للنهضة. ولعل من الكتابات المهمة في نقاش هذه النقطة كتاب (جدلية الأصل والعصر) للإمام الصادق المهدي، وفيه أشار للحالة الجانوسية (إشارة للإله جانوس الذي يرمز لشهر يناير بوجهين ينظر أحدهما للسنة الماضية والثاني للسنة المقبلة) معتبرا أن مجتمعاتنا فيها هذه الجانوسية بين الناظرين للأصل والناظرين للعصر بل إن الجانوسية تمتد حتى داخل كل فرد فينا وتربكه. ومجمل قولنا هي أننا نحتاج لاعتبار نظرية أستاذنا الصاوي بجدية، وأن ننطلق منها ثم نثير أسئلة كثيرة ونخطط للإجابة عليها، بيد أنه لن يغالط أحد أنه يجب علينا في النهاية أن ننتبه للتعليم وإصلاحه، وأن نفعّل دور المجتمع المدني، ليس حول ذلك خلاف. وليبق ما بيننا