اشتهر عدد من الشعراء القدامى بقصيدة واحدة يسميها النقاد (اليتيمة) ،لا يمكن أن نقول إنها ليس لها أخوات ،فالشعر لا يأتي بغتة ولا يمكن أن نتصور فردا يفاجأ بأنه كتب قصيدة مكتملة الأركان بين ليلة وضحاها ، بل إن الشعر نفسه مثل كلِّ كائن حي.. ينمو ويترعرع ويكبر ويصل إلى مرحلة الشباب ثم يناله ما ينال الكائن الحي من الكبر والهرم والوفاة.. نعرف القصيدة التي كتبها الشاعر التعيس الحظ ،علي بن زريق البغدادي الذي جاء قاطعا المفاوز والأهوال ليقرأ على الخليفة الأندلسي قصيدة في مدحه ،قاصدا بذلك أن يجد العطاء الكافي ليتزوج به ابنة عمه التي ألحت عليه في عدم السفر،فسافر مخالفا رغبتها ، وبرغم جودة القصيدة وبلاغتها ،فقد قصد الممدوح أن يختبره فأعطاه عطاءً قليلا ،فعاد الشاعر إلى الخان الحقير مغتمًّا أشدّ الغمّ ومات من ليلته بعد أن كتب تلك الرثائية البليغة في حق نفسه ووضعها تحت رأسه: لا تعذليهِ.. فإنَّ العذل يُوجِعُه قد قلتِ حقًّا.. ولكن ليس يسمعُه جاوزْتِ من نُصحِهِ حدًّا أضَرَّ به من حيثُ قدَّرْتِ أن النُّصحَ ينفَعُه فاستعملي الرفق في تأديبه بدلا عن عنفِه فهو مُضنى القلبِ موجَعُه قد كان مضطلعا بالخطب يحملُهُ فضُيِّقَت بخطُوب الدهر أضْلُعه يكفيه من لوعة التشْتيت أنَّ له من النََّوى كُل يوم ما يُروِّعُه ما آبَ من سفَرٍ إلا وأزعجَه رأيٌ إلى سفَرَ ٍبالعَزم يُزْمِعُه ويستطرد متذكرا ابنة عمه : أستودع الله في بغداد لي قمرا بالكُرْخ من فَلكِ الأزْرارِ مطلَعُه ودعْته .. وبِوُدِّي لو يُودِّعُني صفْوُ الحياةِ .. وأنِّي لا أودِّعُه وكم تشفَّعَ بي أنْ لا أفارقَه وللضَّروراتِ حالٌ لا تُشفِّعه وكم تشبَّث بي يومَ الرَّحيل ضُحىً وأدمُعِي مسْتهِلاتٌ وأدمُعه لا أكذِبُ اللهَ: ثوبُ الصبر منخَرِقٌ عنِّي بفُرقَتِه .. لكِنْ أرقِّعه! إني أوسِّعُ عذري في جِنايتِه بالبينِ عنْه.. وجُرمِي لا يوسِّعه ويسترسل في وصف الحرقة والغم ثم يختتم مستسلما للذي جرى كم قائلٍ ليَ : ذقتَ البين قلت له : الذنب ،واللهِ، ذنْبِي ..لست أدفعُه علّ الليالي ألتي أضنت بفُرقتِنا جسميْنِ تجمعُني يومًا وتجمَعُه وإن تغُلْ أحَدًا منّا مَنِيَّتُه لا بُدَّ في غدِه الثَّاني سيتْبَعُه وإن يدمُْ أبدًا هَذا الفِراق لَنا فما الَّذِي بقضَاء اللهِ نصْنعُه؟ إن القارئ لهذا النص الشعري ليتعجب من أن لا يكون لصاحبه ديوان مجموع أو أخبار مبثوثة في كتب الأدب أو النقد العربي ، بل ربما يتبادر إلى الذهن أنها قصيدة منتحلة ألفها الشعراء الكذابون على لسان هذا الشاعر التعس الذي اشتهر أمره بوفاته فلم يغن عنه شيئا ا وقصيدة أخرى لشاعر آخر اشتهرت القصيدة ولم يعرف لشاعرها شعر آخر ، وهو الشاعر بشر بن عوانة الذي تقول الأخبار إنه طلب ابنة عمه زوجا ، ولسبب ما أراد العم أن يعسِّر عليه الطلب فوافق على أن يكون مهرها رأس أسد مشهور فتاك منع الناس السفر والانتقال بين المناطق ، فارتحل الشاعر التعيس لجلب رأس هذا الأسد الأشد تعاسة ، ووصل إلى ذلك الخطر الداهم الذي ما أن رآه مهره حتى تراجع فاضطر الشاعر إلى أن ينزل عنه ويعقره ، وكأنما يقول لنفسه : لا منجاة ولا مهرب فإما رأس الأسد وإما الموت ! (البحر من ورائكم والعدو أمامكم )..ويقتل الشاعر الأسد ويبدأ القصيدة الملحمة التصويرية فكأنما نحن أمام لوحة مكتملة الأركان عن هذا المنظر المهول أفاطمَ ، لو شهدْتِ ببطْنِ خبْتٍ وقد لاقى الهِزبْرُ أخاكِ بِشْرَا إذنْ لرأيْت ليثا زار ليْثا هِزَبْرًا أغْلبًا لاقى هزَبْرا تبهْنسَ إذ تقاعَس عنه مُهرِي مُحاذرَةً فقلْتُ: عُقِرتَ مُهرا أنِلْ قَدميَّ ظهْرَ الأرض إنِّي رأيتُ الأرْضَ أثْبتَ منك ظَهْرا فقلتُ له ، وقد أبْدَى نِصَالاً مُحدَّدَةً ووجْهًا مُكْفَهِرًّا نصحْتًك فالتمِسْ يا ليْث غيْرِي طعامً.. إنَّ لحْمي كَان مُرّا فلمَّّا ظنّ أن الغِشَّ نُصْحِي وخالَفنِي ، كأنِّي قلتُ هُجْرا مشَى ومشيْتُُ من أسديْنِ راماَ مَرامًا كان إذْ طلَباهُ وعْرا هززت له الحُسَام فخِلْت أنِّي سللْتُ به من الظَّلْماء فجرا وأطلقت المهنَّدَ مِنْ يميني فقدَّ لهُ من الأضْلاعِ عشْرا فخَرَّ مُجدَّلاً بِدَمٍ ، كأنِّي هدمْتُ به بنَاءً مُُشْمَخِرَّا وهنا في السودان ، نجد بعض الشعراء يشتهرون بقصيدة واحدة أو اثنتين ، نالت الشهرة بسبب ما ، وما وجدت أخوات لها بعض ذلك .. والحديث هنا عن الشاعر السوداني(محمد عثمان عبد الرحيم) الذي لا تكاد تجد سودانيا لا يعرف قصيدته (أنا سوداني أنا ) ، تلك التي تكاد تصير النشيد الوطني للبلاد . تقول السيرة الذاتية للشاعر إنه من أبناء مدينة(رُفاعة)عام 1914(يكاد يكمل المائة عام ..أمدّ الله في أيامه )، وتخرج في كلية غردون التذكارية عام 1931،وقاد أول أول إضراب للطلبة ضد المحتل الإنجليزي وله من الدواوين (في رياض الشعر)و(ومضات فكر) ونال عددا من الأنواط والأوسمة في المهرجانات الأدبية وتم تكريمه بواسطة المجلس الأعلى للآداب والفنون ..ومنح الوسام الذهبي للآداب والعلوم والفنون ،وبرغم عمره المديد بإذن الله، فقد أصدر آخر دواوينه الشعرية وعنوانه ( وقفات على مدارج الاستقلال ) ،عام 2008م.فماذا عن شعره ؟ لقد استغرقني ديوانه زمنا وأنا أنتقل من قصيدة لأخرى فأجد قصائد تضارع القصيدة المحظوظة جمالا إن لم تفقها ، فأقول : أيضا للقصائد حظوظ ،كما أن للناس حظوظ ، فهاك قصيدته (الندامى) أدر الكأس على العشاق صفوا ومداما يا حبيب القلب والروح ويا روح الندامى أيها الرافِل في ثوب من الحسن دواما مالت الأغصان لما عشقت منك القواما تتحدى البان ميلا واعتدالا وانقساما وتفوق البدر حسنا وضياء وابتسام إن طعم الحب كالصبر وفي الصبر حداقةْ غير أني يا حبيب الروح أستحلِي مذاقه أنت ممن أفسحوا للحب في الدنيا نطاقه خلقوا شتّى البشاشات وألوانَ الطلاقة أملي يا طيبَ أيامي ويا سِرَّ حياتي أن أرى الحسنَ يُوشِّيه عفافُ الغانيات وأرى طيفََََك في حلميَ أو في ذكرياتي وأرى ذاتك قد أفرغها الحب بذاتي او نرى قصيدته في رثاء البطل علي عبد اللطيف قائد ثورة اللواء الأبيض عام 1924، والذي مات أسيرا بمصر في مستشفى العباسية بالقاهرة بدعوى أنه قد فقد عقله،ولكن حتى لا يلهم الأحرار بمصر من روحه ضد الاحتلال الانجليزي لمصر والسودان : شعري أردْتُ له رقيَّا فدفعتُه نحو الثريا ونسجت من خَطَراته لحنًا طروبا عبقريا لحْنا يهز النيلَ والأهرام جياشا قويا لمٍْ لا ورنّةُ سحره تُعزي لتمجيدي عليا؟ بطل اللواء الأبيض الخفاق عاش فتًى وفيا صُلب المواقف ثابت الوجدان نهّاضا فتيّا قلّبتُ سيرتَه فكان شعارُه يعلو علِيا ولمحت في وثَباته أسَدا هصورا ألمعيا كالعيلم الصخاب يعصف ثائرا جلْدا قويا يثوي على جنباته الطغيان مدحورا قصيا يا ضيغم القضبان يا من خرَّ في الجُلَّى نديا عش في ضرام الثورةِ الحمراء رهنَ الخلْدِ حيّا ولنأت إلى قصيدته التي لا يعرف أغلب الناس غيرها بسبب أنها ملحنة مغناة من أحد كبار المغنين المناهضين للاحتلال الانجليزي للسودان وكم دخل من السجون إبان تلك الأيام ، واشتهرت داخل المدارس السودانية ولا يخلو حفل لذلك المفنِ من طلب الجماهير للنشيد .. تقول الكلمات : كلُّ أجزائه لنا وطن إذ نباهي به ونفتتن نتغنى بحسنه أبدا دونه لا يروقُنا حسَن حيثُ كُنا حدت بنا ذِكرٌ ولنا في ربوعِه سكَن نتملَّى جمالَه لنَرى هل لترفيه عيشه ثمن غير هذي الدماء نبذلها كالفدائي حين يمتحن؟ أيُّها الناسُ نحنُ من نفرٍ عمَّروا الأرضََ حيثُما قطنوا يُذكرُ المجدُ كلما ذُكِروا وهو يعتَزُّ حينَ يقتََرن حكَّموا العدلَ في الورى زمَنًا أترى هل يعودُ ذا الزمَن؟ ردَّدَ الدهرُ حُسنَ سيرتِهم مَا بها حِطَّةٌ ولا درَنُ نزحوا لا ليظلموا أحدا لا ولا لاضْطهادِ من أمِنُوا وكَثيرون في صُدورِهِمُ تتنزَّى الأحقادُ والإحَن دوحَةُ العُربِ أصلُها كَرَمٌ وإلى العُرب تُنسب الفِطَن يا بلادا حَوَتْ مآثِرنا كالفراديسِ فيضُها مِنَن قد جَرى النيل في أباطحها يكفُلُ العيش وهي تحتضن رقَصت تلكمُ الرياضُ له وتثنَّتْ غُصُونه اللدن وتغنَّى هزارُها فَرِحاً كعشُوقٍ حَدا بهِ الشَّجن حَفِلَِ الشيب والشباب معا وبتقديسِك القَمين عُنُوا نحْن بالروحِ للبلاد فِدًى فلتدُم أنتَ أيُّها الوطن وبعد ..ألم أقل إن بعض القصائد كالناس : تتباين حظوظهم مع أن جهدهم ربما يكون متساويا بل قد يفوت اللاحق السابق في مستواه ولكنها تصاريف الحياة .. أمدّ الله في أيام شاعرنا ومتعه بالصحة والعافية وأعطى بقية قصائده حظها من الانتشار في العالم العربي .. عبد السلام كامل عبد السلام الرمز البريدي14411 ص ب 1094 تلفزيون السودان أم درمان السودان هاتف 0129092503